تاريخ الإضافة : 20.07.2013 12:54

ملحمة رابعة..

بقلم سيدي محمود ولد الصغير

بقلم سيدي محمود ولد الصغير

ما يَصنعُ التاريخَ هو الحوادث، وبدونها يصبح الوقْتُ مَتَاهاً متصلَ الحلقات لا معالم فيه، ومن هنا كانت جسامُ الأحداث مناراتٍ في خريطة الزمن ترشد الباحثين في دروب الحياة عن حكمةٍ هادية أو عبرةٍ باقية.

(1)
ولا ريب في أن ما شهده العالم العربي منذ الومضة الأولى "لفجر الربيع" قد مثل لحظة فارقة بين عهدين:عهدٍآفلٍ غابر تتهاوى عروشه تباعا غير مأسوف عليها في مشهد بائس، وعهدٍ قادم باسم يُشرع أبواب المستقبل ليوم عز لا يُضامُ فيه أحد. كذلك أرادت شعوب العربوقامت ثورات "الربيع الطَّلْق"حين أخذت قرارَ التحرُّر والحياة؛ حيث لا انفكاك بين المعنيين، فسطرت دروسا خالدة أصغى إليها الدهر وخلبت لبَّ الكون بيضاءَ نقية،قبل أن تختضب بالنجيعويُهراق على جوانبها الدمرغم أنف الشعوب.

(2)
وإنْ أنسَ لا أنسَ ميدان التحرير أوَّل ما انداحت رياح الثورة من مهدها التونسي باتجاه أرض الكنانة وكأنها على موعد مضروب مع التاريخ ليفسح للشعب المصري فرصته في تلقين العالم دروس النبل الثوري في صورة ملهمة ستبقى عالقة بذاكرة الأرض إلى أمد بعيد، وكأنما الثورة تطهر القلوب وتزكي الأرواح لتصهر ملايين الثوار في عرس وطني بهيج تعلو فيه الفضائل وتستخفي النقائص وتفيض مكارم الأخلاق، فإذا "دولة ميدان التحرير" تنطح بعنفوانها السماء وقد استوت على سُوقها في طرفة عين: مستشفيات ميدانية، ومرافق صحية، ومساجد وجُمَع وعلماء وقادة وسياسيون ومفكرون، وحرسٌ ، وإعلام وترفيه، في انضباط تام ورزانة بديعة رغم الحشد الهائل من الشباب والشابات من مختلف الأفكار والآراء، واختلاف الديانة أحيانا. مسرحٌ ضخم يرتل على مسامع الكون أنشودة التحرر والسلام في جلال باهر وجمال. لكأن الشاعر الموريتاني محمد الحافظ ولد أحمدو لم يقصد غير هذا المشهد إذ يقول:

...فالكونُ سُبُّورة والشمسُ طُبشوره

(3)
سقط مبارك.. ودارت الأيام.. ثمَّ بدا لبعضِ الثوار أن يرتَدُّوا على الأعقاب بعد أن أسفر فجر الثورة عن وجوه الإخوان.. وبدأ المشوار الطويل للانقلاب على نحو ما بات مكشوفا مما كان آخره ما نشرته قبل يومين صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية وتناقلته وسائل الإعلام من أن حراك 30 يونيو تم في سياق انقلاب مخطط له في لقاءات متعددة بين قادة العسكر وقادة المعارضة، إذ تم الاتفاق على أن لحظة تنحية الرئيس بالقوةهي حين يستطيع المعارضون جمع حشد مطالب بالرحيل

(4)
ومع اقتراب الموعد تذكر القوم ميدان التحرير لعلهم يغترفون من مخزون ألقه في ذاكرة مصر والعالم، فاتخذوه ميدانا لثورتهم المزعومة وهم يخرُصون..لكن لسان حال الميدان كان ينشد متمثلا :

أوردها سعدٌ وسعدٌ مشتمِلْ / ما هكذا يا سعدُ تورَد الإبلْ

ما هكذا تكون الثورات!
لقد جاءوه بدم كذب على قميص الشعب البراء من الثورة براءة "البرادعي" من "إنكار الهولوكوست"، أو براءة "صَبَّاحي" وشيعته من الموضوعية والإنصاف فاستحال الميدان ميدانا آخر حين غاب الثوار الصادقون-أوْ غُيِّبُوا- تنكَّر له القوم وتنكر لهم فحرَّفوا اسمه وبدلوا مسماه ومسَخوا سيرته التي كتبها الثوار الحقيقيون، فبات ميدان "تحريش" بعدما كان ميدان تحرير-100 حالة تحرش خلال يومين- وارتفعت الأصوات تخترق أسماع العالم مؤذنة بسقوط أسطورة "ميدان التحرير" في الفخ الأخلاقي منذ الوهلة الأولى .

(5)
لكنَّ اللطيف في الأمر أن ميدانا آخرقد دخل على الخط مع مطالع الانقلاب الجديد، حيث تجمَّع أنصار الشرعية بميدان رابعة العدوية-وللاسم إيحاء قصته تطول-وها هو اليوم يكمل يومه التاسع عشر وهو يعيد على العالم من جديد درس ميدان التحرير في أيام النقاء، ويسكب عليها من مزيد الطهر ورقَّة الذكرى وسماحة الانسجام ومضاء العزيمة وقوة التحمل وشدة الصبر والاستبسال في البذل والإيثار في العطاء ما تقر به العيون وتنشرح له الصدور، يكتنفه جو رمضاني-رغم المتاعب-أخاذ. لقد ثوتْ قيم الثورة في هذا الميدان بشكل مهيب ما تخلَّف منها خلقٌ.

وها هو يشرح للمستعجِلين قصةَ البدء، وخطة السيْر، وحكاية التدرج، وأساليب التربية، وطرائق التكوين، وحياة التعايُش، وآلية الخطاب، وسبُل المدافعة، وعوامل الثبات؛ في ملحمة إيمانية ثورية رائعة تفضح أدعياء الديمقراطية وتفري أثوابَ المستترين ببراقع التنوير الزائف.(لم تسجل حالة تحرش واحدة بميدان رابعة، ولا سُجلت حالة قتل واحدة ضد أنصار الشرعية رغم سقوط أكثر من ثلاثمائة من الشهداء في صفوفهم بمن فيهم ضحايا مذبحة الحرس الرئاسي، وهجوم ميدان رمسيس البارحة، ولا هاجم أنصار الشرعية مقر أي حزب أو مؤسسة رغم الهجوم -الدموي أحيانا-على عشرات المقار لحزب الحرية والعدالة خلال أيام استدعاء الانقلاب الأولى) ولينظر العالم بعدئذ من هي القوى السلمية الديمقراطية ومن هم الأدعياء الكاذبون!

(6)
في الختام كنت قد نشرت فجر اليوم هذه التدوينة الشعرية عن "ملحمة رابعة" فقلت:
بنُو النِّيل ها همْ لآتي الزَّمان / يصُوغون ملحمةً رائعَهْ
ملايينُ أحرارِه الصَّامدينَ / لَكمْ لقَّنُوا الكونَ من رابعَهْ
نشيدَ السَّلام ومعنى الوئام / وروعةَ أمِّ الدُّنا الجامعَهْ
وقََصُّوا على الأرضِ موتَ الهوانِ / وموتَ زمان الرؤى الخانعَهْ
تميدُ الميادينُ منهم هتافاً / وتذْكي المُنى ليلَها الخاشعَهْ
بحارٌ من الرَّفْض تذرِف نُوراً / سيجرِف تلك القوى المائعَهْ
ويقذفها خلف ظَهر الزمان / مع السيسي والزُّمرةِ الضَّائعَهْ
فإما حياة "بمعنى الحياة"/ وإما مماتُ عُلاً ساطعِهْ
ولا صوتَ يعلو على صوتنا / ومرسي سيفديه من بايعَهْ
ولله الأمر من قبل ومن بعد .


نقلا عن صحيفة "الأخبار إنفو"

الرياضة

الصحة

وكالة أنباء الأخبار المستقلة © 2003-2025