تاريخ الإضافة : 06.09.2013 20:41

نريد شعرا سامقا كالنخيل

الأستاذ / المرتضى محمد أشفاق

الأستاذ / المرتضى محمد أشفاق

... ويبقى الشعر أكبر من التعريف... فليس الشعر حجما يقيس عليه صغار الخياطين قماشهم، ولا مسافات يذرعها مخططوا "الكزرات"، ولا كتلا يزنها جمارك البحر على موازين ملتوية الاعناق... وليس الشعر حفنات من ذرة أو دخن أو شعير يكيلها المطففون في تجارة الليل... الشعر دفق... وانسياب... واقتحام... واقتلاع... هو مداهم مباغت... وزائر دون ميعاد ودون طرقات استئذان... الشعر عجينة من عناصر الحياة المختلفة المتجانسة والمتضادة والمتنافرة... الشعر استطاعة وقدرة... والشاعر هو من يخلق من هذا العالم المترامي المساحات، المملوء بوحوش الليل وعصافير الفجر... المزدحم بالحرائق والمروج... المتنفس بالفيح والشذا... المثقل بدعاء المستغفرين بالأسحار وسكاكين لصوص العتمة مولودا يحمل جينات هذا العالم كلها...

الشاعر هو من يمتلك المنشار والمعول والعلاة... وحفنة بارود وكيرا لا يتعطل، لينحت... ويهدم... ويركب... ويحرق ويفجر... ويجسم... ليس هناك شيء يسمى مائدة الشعر تنزل من السماء على صحون من فضة تحملها الملائكة إلى خوان الشاعر... الشاعر محارب لا ينهزم... ولا بد أن يمتلك أدوات المعركة... وهي كلماته الخاصة المشحونة بدماء فكره... وصوره التي انشأها أول مرة من مفردات ومعان ودلالات متحولة في كل مراحل الرحلة في خريطة النص بتضاريسه المختلفة... ومناخه "التيفسكي" الجميل...

لكن... عندما نتابع قراءات شعرية لبعض شعرائنا اليوم نستخلص أننا لا نفهم لغتهم أو أنها فارغة من قيم الشعر... وقد نهتز ونتمايل ونحن نرى شاعرا ينشد قصائده وتصيبه "حال الشعر"، فيفنى في نفسه، وينفعل ويتفاعل حتى تزعجنا أحيانا تلك "الكريماسا" التي تعبث بوقاره، وتجعل من صفحة وجهه مسرحا سمجا لحركات مضطربة وغريبة... لكنه اهتزاز يشبه اهتزازنا على إيقاع لامية الأفعال، ونظم الأخضري، وصوت سوط الجلاد، ومطرقة الحداد، وضربات القادوم يهوي بها قتلة الشجر على جذوعه... هو استجابة لا شعورية لنظم الصوت وليس استحسانا للمسموع... قد نستمع أيضا إلى نصوص بلسان عربي مبين... فيها شيء من خميلة الشعر ودثاره، لكننا نفاجأ بأن ما هيأنا من قداح لغمامة خلناها حبلى بآيات بديعات من ترانيم الفن والإبداع ظلت فارغة... فقد طار كل ما توهمناه شيئا جميلا وفكرة ساحرة آسرة، ومات عندما أطبق شاعرنا شفتيه... كما لو كنا نتابع فقاعة من صابون ينفخها الطفل فتسبح قليلا في الهواء ثم تختفي دون أثر...

قديما حكم على بعض شعرائنا أن يحاكوا شعراء الجاهلية والعصور الذهبية للشعر عموما... لتشابه المحيط الطبيعي ونمط العيش... كالخيمة والجمل والصحراء والرحيل... ولما كانت أسماء الأماكن في بلادنا وحسنوات الشعراء عصية على الوزن الخليلي حنوا إلى نجد، وتهامة، ووادي العقيق، بل وحومانة الدراج وحومل، بدل علب آدرس، واكصير الطرشان، وبومبيبيغ، وتامرزكيت، وأغشوركيت... وتغنوا بجيد هند، وخصر لبنى، وخد ليلى، وفرع دعد، بدل اخويداج، وامريم السالمه، وأم اتبيبيب، وإسلم أخواله... معللين أن تلك الأماكن وعذارى الشام ونجد تحولت دلاليا إلى رموز وفقدت علميتها... وإن رأى البعض أن للموريتاني وطنين: الأول هو هذه الأرض البرزخية التي لا يقتنع بها مستقرا ولا مقاما، والآخر وطن روحي عاطفي يواصل الحنين إليه رغم بعد الدار، ويتجلى ذلك في أسماء القرى العشوائية المتناثرة على الطرق المعبدة: ستقرأ وأنت في رحلة من ألاك إلى نواكشوط حاضرة بغداد، وجدة، والقدس، والصفا، وعرفات، والطائف، والدمام، والرياض، والبصرة، والفلوجة... الخ، والغريب أن جل هذه المسميات ليست نابعة من العاطفة الدينية إذا ما استثنينا القدس وعرفات وأم القرى مثلا...

كان كثير من شعر بعضهم رياضة تقليدية، تستعرض فيها عضلات الثقافة المحظرية شعرا وتاريخا وقاموسا... كان نشاطا أرستقراطيا تحتكره النخب العلمية لأن عامة الجمهور لا تستهلكه، ويوغل بعضها في الإغراب اللغوي والبديعي والبياني حتى يظهر النص شكلا معماريا تتحكم فيه الزخارف والمهارات الهندسية بعيدا عن روح الشعر ليظل أهل الصنعة بنى فوقية تحتل قمة هرم الطبقة العلمية...

لم يستطع بعض هؤلاء الفكاك من أسر الصورة الشعرية المومياء... الصورة الطلل التي كابدت رحلة شاقة ركبت فيها البغال والحمير والجمال، وسلكت المنعرجات حبوا، والأنجاد زحفا، حتى أرهقتها العصور المتواليات من امرها عسرا... ورغم أنها جاءت هيكلا غير متكماسك الأعضاء، فقد نصبها بعض شعرائنا آلهة للإبداع البلاغي وجعلوا منها مثالا فنيا أعلى يتحصن بالعصمة والقداسة... صحيح أن ولد الشيخ سيديا أدرك أن الشعراء تحاصرهم أزمة إبداعية لا مخرج منها فقال:

يا معشر البلغاء هل من لوذعي *** يهدى حجاه لمطلع لم يبدع
إني هممـــــت بأن أقول قصيدة *** بكرا فأعياني وجود المطلع

هي أزمة قديمة جديدة عبر عنها بشكل ما ومنذو عشرات القرون عنترة بن شداد بقوله:

هل غادر الشعراء من متردم *** أم هل عرفت الدار بعد توهم..

حاول بعضهم تعريب المسميات - وهي أيضا عقدة خبيئة فينا – فسموا علب آدرس نجد البشام، واغشوركيت الجذيع... تملصا من كل ما يؤكد ارتباط أرض المرابطين بالبربر... متناسين أن ما تختزنه كلمة علب آدرس، وأغشوركيت، وتامرزكيت من المعاني والدفء والحياة بعيد كل البعد عما تحدثه كلمات: نجد البشام، والجذيع، وميمونة السعدى... فالأولى تهز كيان ابن الصحراء بتلقائية طبيعية، وبعفوية بريئة، لأنها تتدفق بكبرياء التاريخ، وعبق الثقافة، وسمو القيم، تستيقظ فيها الطفولة النائمة... ويقطع فيها قرآن الفجر صمت الليالي الباردة... وتنساب حكايات جداتنا عن "عنز البزي" و"بواتويلتميت من لحديد" منوما طبيعيا يسحب اليقظة من عيون الصغار... أما الأخرى فأشبه بصفحة تفسير الكلمات الغريبة في كتاب مدرسي ابتدائي، أو أن تقول لطفلك ناولني قدحا من H2O لأشرب وأتوضأ بدل أن تقول الماء...

رغم هذه الاستثناءات فإن جيلا عظيما من شعرائنا وعلمائنا فجر نهضة أدبية وعلمية في ظروف قاسية تطبعها البداوة والترحال، وشح المصادر والمراجع، ووسائل التدوين، في وقت كانت فيه الأمة الاسلامية تعيش غيبوبة فكرية، وانحطاطا علميا دام قرونا... ولكن الامر والأدهى من كبوة العرب أن أحفاد ولد رازكه، وولد الطلبه، وولد الشيخ سيديا، ومحمد محمود ولد حبيب الل، ومحمد يحيى الولاتي، وولد الحاج إبراهيم (وكلنا أحفادهم) وغيرهم كثير من أعلام أمتنا ما زالوا يقفون اليوم أمام تلاميذهم في درس الأدب ليعترفوا بفداحة ما ارتكبه المؤرخون والباحثون العرب في حقنا حين أغفلوا وتجاهلوا نهضة منقطعة النظير احتضنتها بلاد صحراء شنجيط، يقولون لتلامذتهم بعد توطئة عن عصر الضعف: ...وبدأت النهضة العربية مع جيل الرواد والرعيل الأول: البارودي وأحمد شوقي وحافظ الخ... ألا يعلمون أن قصائد أجدادهم تغنت بها ركبان الملثمين قبل أن يولد البارودي وشوقي وحافظ...؟؟

أما بعض شعرائنا "الحداثيين" فقد دأب على التقاط قطع مختلفة من موائد الشعر الغريبة علينا... وإذا نحن أمام صحون تعج بأبزار مختلسات من مطابخ نزار قباني، وأبي ريشة، ومحمود درويش... نحن لا نعرف التوت ولا الزيتون ولا الصفصاف، لكننا نعرف النبق والبلح وتيشط وآتيل... ولا نعرف جبل الشيخ، ولا دجلة، ولا الفرات، ولا بردى، ولا النيل، إلا في السياق التاريخي والحضاري المشترك... ولا نعرف السندباد، ولا عشتار، (ولا يجوز أن نرمز بالمسيح إلى ما يرمز إليه به بعض الأدباء المسيحيين، فالمسيح عندنا عبد الله ورسوله وكفى...) فإذا تعلق الأمر بمرجعيات زمكانية فإن أيام مقاومتنا و"كيعة ألاك" و"تامورت انعاج" و"أشتف" و"جوك" و"آكرراي" و"اكليب إنيمش" وحوض آركين... وبحيرة كنكوصه... الخ أحق أن تكون من مفردات إحالاتنا المرجعية...

حاول بعضهم تعويضا عن ضحالة الزاد اللغوي أن يتخفى وراء الغموض والإيهام بالرمزية القاصرة... تسمعه يقرأ وينفعل ويشبع الأمداد ويستحسن مقاطعه وصوره لكننا – معشر المستمعين البسطاء – نظل في واد لا تصله إلا أصداء صدئة غامضة تظل حروفها متدثرة بغشاء سميك من العجز والبرودة تخاف أن يفضحها النور ويصيبها الإغماء من رطوبة الأثير...

إننا اليوم بحاجة إلى شعر نفهمه... شعر يكون ابنا شرعيا لتجاربنا الذاتية، لا لقيطا نستجلبه من مغاسل الآخرين لنزور له هوية وطنية... إننا بحاجة إلى لغة شعرية فيها عمق البساطة وبساطة العمق... إلى إبداع حقيقي يهزنا ويذيبنا... يميتنا ليحيينا... نحس معه بالمتاع... نسمع بين أنفاس حروفه وجيب القلوب وأناة الأفكار ... نشعر فيه أن عصافير الحياة تغرد فوق كل غصن من حقوله آمنة مطمئنة... شعر يحلق بنا إلى الفضاءات الرحبة بعيدا عن تحتية الالتصاق بالكلمات الخجلى والعرجاء، وأساليب الانبطاح والعجز... إننا اليوم بحاجة إلى كتابة بحروف وطنية، ولغة وطنية، وصور وطنية، وبلاغة وطنية، لا شرقية ولا غربية... نريد أن يكتب شعراؤنا بمفردات تنتمي إلى تموج صحرائنا، وشموخ جبالنا الملتحفة بالضباب، وكبرياء كثباننا يلسعها لهيب أيار، نريد أن نسمع همس أمواج المحيط، ولغط أخاديد شمامه... نريد أن تتعفر نضارتنا برماد غاباتنا المحترقة... وتتبلل بنوار مراعينا الخضلة... نريد شعرا سامقا كالنخيل... رائعا كصهيل خيل المرابطين، مدويا كصرير أقلام محاظرنا... هادرا كبحار مداد محابرنا، شامخا كهامات ألواحنا الخشبية مصطفة متراصة تتحدى الأبالسة من أقزام العولمة وأدعياء التقدم باسم حداثة بلا جذور...

المناخ

شكاوي

وكالة أنباء الأخبار المستقلة © 2003-2025