تاريخ الإضافة : 08.01.2013 02:56
بين أستاذين..!!
يدلف التلميذ "الجاد" إلى المرحلة الإعدادية وكله حماس وروح متوثبة تواقة إلى العلم والتحصيل، فتتلقفه الأيادي السخية لأستاذ التعليم الثانوي.. تفهما وتعليما وتربية واحتضانا ورعاية، وقد جاء غِرا مراهقا أحوج ما يكون إلى الحنوِّ، وتجاوز الرسالة "التقليدية" للتعليم.
ويدخل بعد سنوات من النجاح إلى الجامعة، فيصير"طالبا جامعيا".. يعتبر أستاذ التعليم العالي مجرد موجه ومؤطر، فلا تستقبل نفسيته "المغرورة" من العلم إلا النزر اليسير.. إذ هي "عامرة" بالزهو و الشعور بالاكتفاء الذي هو بداية "الجهل المركب".
ولأن أستاذ التعليم العالي يدرك جيدا أبعاد هذه النظرة "الاكتفائية" التي تطبع عقلية الطالب الجامعي فإنه غالبا ما يتعامل معه بأسلوب "عقابي".. ليس الإهمال وعدم الحضور أقل مظاهره..!.
ومن ثم فإن البون شاسع ما بين أستاذ التعليم الثانوي وأستاذ التعليم العالي..!!
فالأول يعلمك أبجديات العلوم ويغوص معك في التفاصيل ويستقبل أسئلتك في المادة وخارجها.. بصدر رحب، ويستطرد في الشرح – ولو خارج المقرر- بأسلوب مبسط، آسر يجعلك تخاله فيلسوفا بمنزلة أرسطو إن كان أستاذ فلسفة، أو أديبا بمنزلة العقاد إن كان أستاذ أدب، أو فيزيائيا بمنزلة آيناشتاين إن كان أستاذ فيزياء..!!
أما الثاني – مع كامل الإجلال – فإنه يكِلك إلى نفسك، ويتركك تائها في طرائق البحث وإشكالات المعرفة، فلا يكاد يلبي حاجتك في أحسن الأحوال إلا في مادة التدريس، وهو الذي يفترض أن يجيبك في بقية مواد التخصص، بل وجميع أسئلة المعرفة.
إنه يقنعك أنه أستاذ موجه، وليس أستاذا معلما، وأن حاجتك إليه ينبغي أن تنحصر في تعلم "مناهج البحث عن العلوم".. أما الوصول إليها فهو وظيفتك لا وظيفته..!!
وكلما تقدمت في أسلاك التعليم العالي كلما تعمقتْ هذه الرؤية، بل وانقلبت إلى رؤية أخرى تجعل الأستاذ يستفيد منك بدل أن تستفيد منه..!!
فأنت الذي تقدم الدرس وتنجز البحث.. وهو إنما يستمع إلى "العرض" ويوجه النقاش ويصحح المعلومات..!!
أما "المحاضرات" المحكمة فاقرأ عليها السلام مع نهاية مرحلة الإجازة، وبداية مرحلة الماستر، وطلق كل علاقة بالتلقي "العلمي" من الأستاذ وأنت تدلف إلى مرحلة الدكتوراه، فلقد صرت حينئذ أستاذا تزاحمه "الرتبة" وعلاقتك به لا تتجاوز التأطير عن بعد.
هي وضعية معقدة إذن.. يمكن تفهمها في البلدان المتقدمة التي ينشغل فيها الأستاذ الجامعي بالبحث العلمي انشغالا جديا ويجد من الدعم والأدوات والمختبرات ما يؤهله لأن يقدم إنجازات مهمة للدولة تقدم اقتصادها، وتُحكِم قانونها، وتنهض بمشاريعها التنموية.. وتبوؤه لأن يستحق عليها العناية به أكثر من أستاذ التعليم الثانوي.. في "المادة" والمعنى..!!
أما في البلدان المتخلفة التي تستنسخ التجارب دون فهم الفوارق، فلا أرى مجالا لأن يجلس أستاذ التعليم العالي مفاخرا ومتبجحا على أستاذ التعليم الثانوي وقد صار عليه وزيرا، وله مديرا ثم يعلمه دروس الأخلاق..؟!!
مقارنة استحضرتها وأنا أتابع السجال الدائر في البرلمان وخارجه بين "وزارة" يقودها أساتذة التعليم العالي الموقرين، و"نقابة" تقودها نخبة من خيرة أساتذة التعليم الثانوي "المعاقبين" بالتحويل و"الإبعاد" غير المبرر، تصفية للحسابات، و"تسييسا" للوائح الإدارية, وإجراءات الدولة وقراراتها التي ينبغي أن تكون عادلة و"محايدة".
إن المتتبع للسجال يلاحظ أن مجتمعنا لا يزال - للأسف- يغمط أساتذة التعليم الثانوي حقهم.. في التقدير والتضامن والإجلال..!! ويضن عليهم بالمكانة التي يمنحها لأساتذة التعليم العالي الموقرين..!!
وهكذا يستقوي وزير الدولة للتهذيب – وهو أستاذ تعليم عال – بتلك المكانة وهو يخاطب الأساتذة المذكورين أمام نواب الشعب المنتخبين، بطريقة مهينة قائلا "إن أخلاق الأساتذة شنيعة وغريبة على المجتمع الموريتاني، وإنهم تميزوا بالتقصير وسوء المعاملة والانتقام ممن درسوهم خلال السنوات الماضية".
هل كان الوزير سيتحدث بهذا الأسلوب المَعيب لو أن المجتمع احتضن الأساتذة وانتصر لهم في محنتهم وقدرهم حق قدرهم..؟!! إذن لتوقع هبة في وجهه عبر نواب الشعب ومن بعدهم جميع أفراده..؟!!
أما وقد شعر الوزير بهذا التهميش فقد تطاول على الأساتذة اليوم حين وجه لهم هذا السباب، كما تطاول عليهم بالأمس حين استبدل فصولهم بالمخافر والزنازين..؟!!
إنها دعوة لاحترام الأستاذ الذي هو "المعلم الأول" لي ولك أيها الوزير..
وإذا كنت قد علمته في الجامعة فإنه قد علمك في الثانوية وأنت أحوج ما تكون إليه، فكلاكما علم الثاني.. (ولسنا بصدد السفسطائية وسؤال الأسبقية بين البيضة والدجاجة).
من منا سينسى أساتذة التعليم الثانوي الذين وقفوا معنا وساندونا في أصعب مراحل الدراسة، وعلمونا طرائف المعرفة ومكارم الأخلاق..؟!!
من منا سينسى الأستاذ الذي يجد ويجتهد لينجح طلابه في أهم شهادة "من الناحية المفصلية" وهي شهادة البكلوريا..؟!!
من سينسى كيف يصبر الأستاذ على شظف العيش وبلاء الثوب مضحيا بزخرف الحياة من أجل أن ينال طلابه تلك الشهادة، ليجني ثمرة تلك المتاعب يوم نجاهم وهو يزف إليهم الخبر بعد جهد في البحث وتواضع في الخدمة..؟!!
إن أساتذة التعليم الثانوي تيجان على رؤوسنا ويجب ألا ننساهم ما حيينا، ولا ننسى خدماتهم التي يقدمونها للدولة عبر "تهذيب" وتعليم و تخريج الأجيال.
ليس هذا انتقاصا من قيمة أساتذة التعليم العالي ولا من الجهود التي يبذلونها في خدمة المجتمع.
ولكنها دعوة لإنزال أساتذة الثانوية منازلهم والاعتراف لهم بالفضل، الذي لا ينال فقط "بالرواتب" المادية..!!
ومهما بذل أساتذة التعليم العالي من جهد في التدريس (وبعضهم ينشغل أساسا بالسياسة والبحث عن الوزارة...) فإنهم لن ينافسوا أساتذة التعليم العالي من وجة نظري في القيمة التي يستفيدها المتلقي من الجميع.
فلنقل للأستاذ تقدم وناضل عن حقوقك فأنت لست "ثانويا".. وكل من علمته يناصرك في محنتك و يقف معك في وجه الإهانة.
ولنقل لأساتذة التعليم العالي احترموا الأستاذ الذي علمكم فله الشأو عليكم مهما بلغتم.. وأمسكوا من يسيء إلى سمعتكم فقد صار "ملكيا أكثر من الملك"، وأهان التعليم والتهذيب.. وحتى "الثقافة".
ويدخل بعد سنوات من النجاح إلى الجامعة، فيصير"طالبا جامعيا".. يعتبر أستاذ التعليم العالي مجرد موجه ومؤطر، فلا تستقبل نفسيته "المغرورة" من العلم إلا النزر اليسير.. إذ هي "عامرة" بالزهو و الشعور بالاكتفاء الذي هو بداية "الجهل المركب".
ولأن أستاذ التعليم العالي يدرك جيدا أبعاد هذه النظرة "الاكتفائية" التي تطبع عقلية الطالب الجامعي فإنه غالبا ما يتعامل معه بأسلوب "عقابي".. ليس الإهمال وعدم الحضور أقل مظاهره..!.
ومن ثم فإن البون شاسع ما بين أستاذ التعليم الثانوي وأستاذ التعليم العالي..!!
فالأول يعلمك أبجديات العلوم ويغوص معك في التفاصيل ويستقبل أسئلتك في المادة وخارجها.. بصدر رحب، ويستطرد في الشرح – ولو خارج المقرر- بأسلوب مبسط، آسر يجعلك تخاله فيلسوفا بمنزلة أرسطو إن كان أستاذ فلسفة، أو أديبا بمنزلة العقاد إن كان أستاذ أدب، أو فيزيائيا بمنزلة آيناشتاين إن كان أستاذ فيزياء..!!
أما الثاني – مع كامل الإجلال – فإنه يكِلك إلى نفسك، ويتركك تائها في طرائق البحث وإشكالات المعرفة، فلا يكاد يلبي حاجتك في أحسن الأحوال إلا في مادة التدريس، وهو الذي يفترض أن يجيبك في بقية مواد التخصص، بل وجميع أسئلة المعرفة.
إنه يقنعك أنه أستاذ موجه، وليس أستاذا معلما، وأن حاجتك إليه ينبغي أن تنحصر في تعلم "مناهج البحث عن العلوم".. أما الوصول إليها فهو وظيفتك لا وظيفته..!!
وكلما تقدمت في أسلاك التعليم العالي كلما تعمقتْ هذه الرؤية، بل وانقلبت إلى رؤية أخرى تجعل الأستاذ يستفيد منك بدل أن تستفيد منه..!!
فأنت الذي تقدم الدرس وتنجز البحث.. وهو إنما يستمع إلى "العرض" ويوجه النقاش ويصحح المعلومات..!!
أما "المحاضرات" المحكمة فاقرأ عليها السلام مع نهاية مرحلة الإجازة، وبداية مرحلة الماستر، وطلق كل علاقة بالتلقي "العلمي" من الأستاذ وأنت تدلف إلى مرحلة الدكتوراه، فلقد صرت حينئذ أستاذا تزاحمه "الرتبة" وعلاقتك به لا تتجاوز التأطير عن بعد.
هي وضعية معقدة إذن.. يمكن تفهمها في البلدان المتقدمة التي ينشغل فيها الأستاذ الجامعي بالبحث العلمي انشغالا جديا ويجد من الدعم والأدوات والمختبرات ما يؤهله لأن يقدم إنجازات مهمة للدولة تقدم اقتصادها، وتُحكِم قانونها، وتنهض بمشاريعها التنموية.. وتبوؤه لأن يستحق عليها العناية به أكثر من أستاذ التعليم الثانوي.. في "المادة" والمعنى..!!
أما في البلدان المتخلفة التي تستنسخ التجارب دون فهم الفوارق، فلا أرى مجالا لأن يجلس أستاذ التعليم العالي مفاخرا ومتبجحا على أستاذ التعليم الثانوي وقد صار عليه وزيرا، وله مديرا ثم يعلمه دروس الأخلاق..؟!!
مقارنة استحضرتها وأنا أتابع السجال الدائر في البرلمان وخارجه بين "وزارة" يقودها أساتذة التعليم العالي الموقرين، و"نقابة" تقودها نخبة من خيرة أساتذة التعليم الثانوي "المعاقبين" بالتحويل و"الإبعاد" غير المبرر، تصفية للحسابات، و"تسييسا" للوائح الإدارية, وإجراءات الدولة وقراراتها التي ينبغي أن تكون عادلة و"محايدة".
إن المتتبع للسجال يلاحظ أن مجتمعنا لا يزال - للأسف- يغمط أساتذة التعليم الثانوي حقهم.. في التقدير والتضامن والإجلال..!! ويضن عليهم بالمكانة التي يمنحها لأساتذة التعليم العالي الموقرين..!!
وهكذا يستقوي وزير الدولة للتهذيب – وهو أستاذ تعليم عال – بتلك المكانة وهو يخاطب الأساتذة المذكورين أمام نواب الشعب المنتخبين، بطريقة مهينة قائلا "إن أخلاق الأساتذة شنيعة وغريبة على المجتمع الموريتاني، وإنهم تميزوا بالتقصير وسوء المعاملة والانتقام ممن درسوهم خلال السنوات الماضية".
هل كان الوزير سيتحدث بهذا الأسلوب المَعيب لو أن المجتمع احتضن الأساتذة وانتصر لهم في محنتهم وقدرهم حق قدرهم..؟!! إذن لتوقع هبة في وجهه عبر نواب الشعب ومن بعدهم جميع أفراده..؟!!
أما وقد شعر الوزير بهذا التهميش فقد تطاول على الأساتذة اليوم حين وجه لهم هذا السباب، كما تطاول عليهم بالأمس حين استبدل فصولهم بالمخافر والزنازين..؟!!
إنها دعوة لاحترام الأستاذ الذي هو "المعلم الأول" لي ولك أيها الوزير..
وإذا كنت قد علمته في الجامعة فإنه قد علمك في الثانوية وأنت أحوج ما تكون إليه، فكلاكما علم الثاني.. (ولسنا بصدد السفسطائية وسؤال الأسبقية بين البيضة والدجاجة).
من منا سينسى أساتذة التعليم الثانوي الذين وقفوا معنا وساندونا في أصعب مراحل الدراسة، وعلمونا طرائف المعرفة ومكارم الأخلاق..؟!!
من منا سينسى الأستاذ الذي يجد ويجتهد لينجح طلابه في أهم شهادة "من الناحية المفصلية" وهي شهادة البكلوريا..؟!!
من سينسى كيف يصبر الأستاذ على شظف العيش وبلاء الثوب مضحيا بزخرف الحياة من أجل أن ينال طلابه تلك الشهادة، ليجني ثمرة تلك المتاعب يوم نجاهم وهو يزف إليهم الخبر بعد جهد في البحث وتواضع في الخدمة..؟!!
إن أساتذة التعليم الثانوي تيجان على رؤوسنا ويجب ألا ننساهم ما حيينا، ولا ننسى خدماتهم التي يقدمونها للدولة عبر "تهذيب" وتعليم و تخريج الأجيال.
ليس هذا انتقاصا من قيمة أساتذة التعليم العالي ولا من الجهود التي يبذلونها في خدمة المجتمع.
ولكنها دعوة لإنزال أساتذة الثانوية منازلهم والاعتراف لهم بالفضل، الذي لا ينال فقط "بالرواتب" المادية..!!
ومهما بذل أساتذة التعليم العالي من جهد في التدريس (وبعضهم ينشغل أساسا بالسياسة والبحث عن الوزارة...) فإنهم لن ينافسوا أساتذة التعليم العالي من وجة نظري في القيمة التي يستفيدها المتلقي من الجميع.
فلنقل للأستاذ تقدم وناضل عن حقوقك فأنت لست "ثانويا".. وكل من علمته يناصرك في محنتك و يقف معك في وجه الإهانة.
ولنقل لأساتذة التعليم العالي احترموا الأستاذ الذي علمكم فله الشأو عليكم مهما بلغتم.. وأمسكوا من يسيء إلى سمعتكم فقد صار "ملكيا أكثر من الملك"، وأهان التعليم والتهذيب.. وحتى "الثقافة".







