تاريخ الإضافة : 26.12.2012 15:04

المستشار بهلول

الأستاذ / مولاي عبد الله ولد مولاي عثمان

الأستاذ / مولاي عبد الله ولد مولاي عثمان

يعجّ القصر الرئاسي في موريتانيا بالمستشارين العاطلين عن العمل، وهم - رغم أن من بينهم فضلاء – يعرفون حق المعرفة أنّ غاية مبلغ مشورتهم أن تمرّ كالصفير في أذن الرئيس، وأنّ منتهى أثرها غالبا أن تكتب بحبر على ورق!

حال هؤلاء العاطلين عن العمل شبيهة بحال "بني تيم" الذين هجاهم الشاعر الأموي جرير بن عطية فقال:

ويقضي الأمر حين تغيب تيمٌ *** ولا يستأذنون وهم شهود

وقد شبّه علي رضي الله عنه المعجب برأيه الذي لا يقبل النصيحة من نصحائه بالمريض الذي يترك رأي الطبيب ويعمل ما يشتهي بغير علم، وذكر الإمام الحضرمي في كتاب "السياسة" أن الحاجة إلى المستشار قائمة لأربعة أوجه منها كون الحب والبغض قد يحجب عن المستشير وجوه الرأي والروية فيحتاج إلى مشورة من رأيه صاف من كدر الهوى!

لكن شرط صفاء الرأي من كدر الهوى وشروطا أخرى للمستشار منعدمة في بعض مستشاري الرئيس من "المثقفين" و"الكتاب" الذين حظوا بـ"شرف" التعيين في القصر الرمادي مكافأة مستحقة بعد شهور من الهجوم الدائب على أطراف في المعارضة تزعج الرئيس ورجال حكمه لأسباب مفهومة ودواع معلومة.

الدكتور إسحاق الكنتي الذي عيّن قبل يومين مستشارا إعلاميا لرئيس الجمهورية كان رجلا هجّاما على الإسلاميين لا يفتر ولا يهدأ وقد كتب فيهم من معلقات الهجاء والنقد المجمل والمفصل الكثير الكثير، انتقد منهجهم الفكري وسياساتهم العملية حتى ملّ فعرج على شخصياتهم بأسمائها وصفاتها بدءا من شبابهم في الميدان وانتهاء بالعلامة محمد الحسن الددو.

أحيانا يحاول الدكتور الكنتي أن يؤصل شرعا وعقلا لما يقول في الإسلاميين، ويبرُز أحيانا في شعار المتعصب للحق المنتصر له الذي لا يخاف في ذلك لومة، وشهادةً للتاريخ: ما رأيت مدمنا على نقد الإسلاميين مثل الكنتي، حتى إنه صارا شهيرا بذلك وأصبح شيئا مذكورا في موريتانيا التي عاد إليها من ليبيا بعد سقوط نظام القذافي.

لكن الغريب والمؤسف أن الكنتي "تبهلل" (نسبة إلى بهلول) فجأة يوم أعلن مجلس الوزراء تعيينه مفتشا عاما بوزارة التهذيب قبل أشهر، فتخلى عن "الانتصار للحق" وترك الإسلاميين وشأنهم وما عاد يذكرهم بخير ولا بشرّ! فهل كان الرجل يهاجم الإسلاميين طمعا في وظيفة ويوم أن ظفر بها صمت!!؟

تجربة الكنتي - إن صح وصفها بـ"التجربة" - تؤكد حقيقتين وتكشف ثالثة .. أما الأولى فهي أن المستبدين والطغاة صنيعة "المثقفين" بدرجة أولى قبل أن يكونوا صنيعة نزواتهم وخلائقهم، ويعرف الموريتانيون مدى الفرق بين خطابات الرئيس الأسبق ولد الطايع التي يشاهدونها في التلفزيون أو يسمعونها في الإذاعة وخطاباته التي يقرؤونها بعد ذلك وقد صدرت في كتاب نقحته عصبة من "المثقفين" !! الأولى طريفة وسطحية وعديمة الرؤية، أما الثانية – التي يقولون إنها نفس الأولى - فهي حكيمة وبليغة ورائعة!

الموريتانيون أيضا يدركون مدى الفرق بين ما قاله الرئيس ولد عبد العزيز للصحافة في القصر الرئاسي قبل حوالي شهر وبين ما قال الكنتي وعصبته من المثقفين إنه قال!!

أما الحقيقة الثانية فهي أن الأقلام كأصحابها؛ تجوع وتظمأ، وتأكل الطعام وتمشي في الأسواق، بل ربما تأكل فيها إذا أمضّها الجوع تمثلاً لحكمة شيخ النوكى والموسوسين ديسيموس اليوناني الذي مرّ به رجل وهو يأكل في السوق فقال : ما بال ديسيموس يأكل في السوق، قال: إذا جاع في السوق أكل في السوق.

وأما الحقيقة المكتشفة فهي أن الدكتور الكنتي - الذي احترم شخصه الكريم – أحيا سنّة ثابتة من سنن بهلول أشهر مجانين الكوفة، فقد ذكر الجاحظ في البيان والتبيين من نوادر بهلول أنه "كان يغنّي بقيراط ويسكت بدانق".

المناخ

الثقافة والفن

وكالة أنباء الأخبار المستقلة © 2003-2025