تاريخ الإضافة : 04.08.2012 03:27
أبو موريتانيا
يندر أن تجالس أحد أبناء وطنك ممن قذفت بهم صروف النوي وشطت بهم الدار حتي حنوا إلى المنكب البرزخي، إلا أتحفك بما ذاق من مرارة الانتماء لبلد مجهول..
ولكم أتمني أن ينبري أحد الكتاب الشباب لجمع وتدوين ما طاب من هذه القصص التي تتراوح بين المضحك والمبكي وإن كانت كلها جزء حزينا من تاريخ الوطن. وعلى تنوع المواقف التي وجدت فيها نفسي متى نطقت بكلمة "موريتانيا"، فلا أنسي ما حصل مع مسافر اتفق أن اشتركنا ساعات من الطيران.
في شتاء 2003، وفي قاعة انتظار بمطار خليجي (الدوحة أو أبو ظبي، لا أذكر)، التفت إلي رجل رومي قد بلغ أشده وبلغ أربعين سنة، قوي البنية حسن الهندام، كان جالسا بجانبي، وقال من أي بلد أنتم؟
أجبت باقتضاب "موريتانيا".
ابتسم ومد يده مصافحا فمددت يدي وأنا أتوقع أنه كان ضحية لاحتيال "تبتاب" أو أنه جرب "امبارات" الضيافة في ألاك.. مددت يدي ولا أشك أنه زار الوطن العزيز وقفل بتحفة من تحفه التي لا تخطئ زائرا ولا يغني منها الحذر..
قبض الرجل يدي وهزها في ارتياح باد على ابتسامته وقال "ألف شكر لك! لقد حللت لنا مشكلة كبيرة"
انتابني شيء من الحيرة سألت الرجل مستغربا: شكرا على ماذا؟ وأي مشكلة تقصد؟
أجاب في أدب: "إن زوجتي تترقب مولودا جديدا علمنا أنه بنت وقد أعيانا اسم جميل نختاره لها. ولا أشك أن زوجتي ستفرح كثيرا بهذا الاسم وستوافق علي اختياره لابنتنا. فأنا أشكرك علي هذا الاسم الجميل".
حاولت عبثا طي ضحكة غلبتني فقلت لصاحبي إذن من اليوم أنت أبو موريتانيا؟ ابتسم وتقبل الكنية في سرور.
وفي الطائرة سألني أبو موريتانيا عن ابنته فأخبرته بما يسره من صفاتها الجميلة حتي تاق إلي زيارتها: ألف كلم من الشواطئ، رمال ذهبية جميلة وقت الغروب والشروق، جبال ووديان، واحات نخيل، نهر عظيم، براري شاسعة.. لتطمئن أنك اخترت اسما جميلا لبنتك وقد سميتها علي بلد فسيح مشمس، ذي طقس مداري بعيدا عن زحام أوروبا وبردها القاتل وظلامها الدامس.. هنيئا لك موريتانيا! ليت الملاح يسمع حديثنا ويقرر تغيير الوجهة إلي حرارة انواكشوط ولا أمطار لندن الثلجية..
لم يقاطعني صاحبي حتي سكتُّ لأتيح له فرصة التعبير عن قسمات وجهه التي كانت تتنازعها الدهشة والاستغراب "أليست موريتانيا جزيرة في المحيط الهندي؟" هكذا سألني. أجبت مقللا من جمال المحيط الهندي وجزره "موريتانيا أكبر وأجمل من جزر المحيط الهندي مجتمعة! لقد أحسنت الاختيار. عرفت فالزم".
"لقد كنت أظنها جزيرة صغيرة قليلة السكان في عرض المحيط الهندي. هكذا أوحي إلي الاسم الجميل!"
وقبل أن يستفسر الرجل عن موقع وطننا العزيز، عرضت خدمات التسلية في الفيديو وكان من بينها فيلم وثائقي أعده الصحفي الرحالة البريطاني مايكل بيلين عن الصحراء (ونشر في كتاب بنفس العنوان).
عرضوا لقطة سريعة لخارطة الرحلة التي كادت تطابق طرق القوافل عابرة صحراءنا من الزويرات إلي شنقيط ثم انواذيبو وانواكشوط فطريق الأمل إلي النعمه وما طاب لهذا الرحالة من القرى والبوادي حتى وصل تمبكتو.
علمت أن أسئلة كثيرة ستتولد عند أبي موريتانيا وأن طرافة مايكل بيلين وتعليقاته الساخرة ستشوش علي الصورة التي حرصت علي إيحائها. تابعنا الفيلم الذي بدأ الجزء الموريتاني منه برفات جمل (ركزت الكاميرا علي أسنانه) في الزويرات تبعتها مظاهر من "الشارع العام والمحلات التجارية" ووسيلة النقل الأكثر انتشارا في الوطن.. ثم انتقل التصوير إلي أطول قطار في العالم وعمليات "لكزير" الضرورية لركوب عربة المسافرين وتبين للصحفي وفريقه أن شراء وحجز تذاكر الدرجة الأولي لا يضمن اللحاق بالقطار... لا بد من لكزير أو الرشوة!
ظهر علي الشاشة مشهد من عشوائية المرور وزحامه في عاصمتنا. توقف كل شيء إلا أزيز محركات الديزل المنهكة وروائحها التي أكاد أجزم أنها أزكمت أنوفنا.. تأمل الرجل المشهد ثم سألني في تردد: هذه الكائنات.. هل هي تصنيع محلي يحاكي مرسيدس أم أنها خرجت في يوم من الأيام من مصانع ألمانيا؟.
طمأنته علي أن بلدنا دولة قانون تحترم حقوق الملكية التجارية والفكرية ولامجال لمصانع المحاكاة (أو غيرها) عندنا.
تجولت الكاميرا في الأسواق والمتحف الوحيد في البلد وعلق مايكل بيلين علي إقامته في فندق نوفوتيل وقارنها بفنادق أخري قاده إليها الترحال في أدغال الهند والتيبيت وما زال يختار من هنا وهناك حتى أذن بالخروج من انواكشوط شرقا في رحلته الطويلة والممتعة.
استأذن صاحبي في تغيير القناة قائلا في أدب: لا أريد أن أري الباقي على الشاشة، سأنتظر أن أعيشه بنفسي!.
انتقل إلي خيارات أخري تركني أتابع بايلين يغوص في موريتانيا الأعماق.. شعرت كأن الصلة انقطعت وقل الحديث وحان وقت العشاء والنوم.
ولما أوشكنا علي الهبوط في لندن شكرني علي تعريفه بزاوية أخري من الأرض لم يسمع عنها من قبل وقال: ما أقل ما نعرف عن كوكبنا!.
أما تسمية البنية، فسأفكر في الموضوع قبل أن أعرضه علي أمها. إن بلدكم يحمل اسما جميلا ولكنه في كل مرة يفاجئني بعكس ما أتوقع.. لا أريد أن تكون ابنتي كذلك".
ولكم أتمني أن ينبري أحد الكتاب الشباب لجمع وتدوين ما طاب من هذه القصص التي تتراوح بين المضحك والمبكي وإن كانت كلها جزء حزينا من تاريخ الوطن. وعلى تنوع المواقف التي وجدت فيها نفسي متى نطقت بكلمة "موريتانيا"، فلا أنسي ما حصل مع مسافر اتفق أن اشتركنا ساعات من الطيران.
في شتاء 2003، وفي قاعة انتظار بمطار خليجي (الدوحة أو أبو ظبي، لا أذكر)، التفت إلي رجل رومي قد بلغ أشده وبلغ أربعين سنة، قوي البنية حسن الهندام، كان جالسا بجانبي، وقال من أي بلد أنتم؟
أجبت باقتضاب "موريتانيا".
ابتسم ومد يده مصافحا فمددت يدي وأنا أتوقع أنه كان ضحية لاحتيال "تبتاب" أو أنه جرب "امبارات" الضيافة في ألاك.. مددت يدي ولا أشك أنه زار الوطن العزيز وقفل بتحفة من تحفه التي لا تخطئ زائرا ولا يغني منها الحذر..
قبض الرجل يدي وهزها في ارتياح باد على ابتسامته وقال "ألف شكر لك! لقد حللت لنا مشكلة كبيرة"
انتابني شيء من الحيرة سألت الرجل مستغربا: شكرا على ماذا؟ وأي مشكلة تقصد؟
أجاب في أدب: "إن زوجتي تترقب مولودا جديدا علمنا أنه بنت وقد أعيانا اسم جميل نختاره لها. ولا أشك أن زوجتي ستفرح كثيرا بهذا الاسم وستوافق علي اختياره لابنتنا. فأنا أشكرك علي هذا الاسم الجميل".
حاولت عبثا طي ضحكة غلبتني فقلت لصاحبي إذن من اليوم أنت أبو موريتانيا؟ ابتسم وتقبل الكنية في سرور.
وفي الطائرة سألني أبو موريتانيا عن ابنته فأخبرته بما يسره من صفاتها الجميلة حتي تاق إلي زيارتها: ألف كلم من الشواطئ، رمال ذهبية جميلة وقت الغروب والشروق، جبال ووديان، واحات نخيل، نهر عظيم، براري شاسعة.. لتطمئن أنك اخترت اسما جميلا لبنتك وقد سميتها علي بلد فسيح مشمس، ذي طقس مداري بعيدا عن زحام أوروبا وبردها القاتل وظلامها الدامس.. هنيئا لك موريتانيا! ليت الملاح يسمع حديثنا ويقرر تغيير الوجهة إلي حرارة انواكشوط ولا أمطار لندن الثلجية..
لم يقاطعني صاحبي حتي سكتُّ لأتيح له فرصة التعبير عن قسمات وجهه التي كانت تتنازعها الدهشة والاستغراب "أليست موريتانيا جزيرة في المحيط الهندي؟" هكذا سألني. أجبت مقللا من جمال المحيط الهندي وجزره "موريتانيا أكبر وأجمل من جزر المحيط الهندي مجتمعة! لقد أحسنت الاختيار. عرفت فالزم".
"لقد كنت أظنها جزيرة صغيرة قليلة السكان في عرض المحيط الهندي. هكذا أوحي إلي الاسم الجميل!"
وقبل أن يستفسر الرجل عن موقع وطننا العزيز، عرضت خدمات التسلية في الفيديو وكان من بينها فيلم وثائقي أعده الصحفي الرحالة البريطاني مايكل بيلين عن الصحراء (ونشر في كتاب بنفس العنوان).
عرضوا لقطة سريعة لخارطة الرحلة التي كادت تطابق طرق القوافل عابرة صحراءنا من الزويرات إلي شنقيط ثم انواذيبو وانواكشوط فطريق الأمل إلي النعمه وما طاب لهذا الرحالة من القرى والبوادي حتى وصل تمبكتو.
علمت أن أسئلة كثيرة ستتولد عند أبي موريتانيا وأن طرافة مايكل بيلين وتعليقاته الساخرة ستشوش علي الصورة التي حرصت علي إيحائها. تابعنا الفيلم الذي بدأ الجزء الموريتاني منه برفات جمل (ركزت الكاميرا علي أسنانه) في الزويرات تبعتها مظاهر من "الشارع العام والمحلات التجارية" ووسيلة النقل الأكثر انتشارا في الوطن.. ثم انتقل التصوير إلي أطول قطار في العالم وعمليات "لكزير" الضرورية لركوب عربة المسافرين وتبين للصحفي وفريقه أن شراء وحجز تذاكر الدرجة الأولي لا يضمن اللحاق بالقطار... لا بد من لكزير أو الرشوة!
ظهر علي الشاشة مشهد من عشوائية المرور وزحامه في عاصمتنا. توقف كل شيء إلا أزيز محركات الديزل المنهكة وروائحها التي أكاد أجزم أنها أزكمت أنوفنا.. تأمل الرجل المشهد ثم سألني في تردد: هذه الكائنات.. هل هي تصنيع محلي يحاكي مرسيدس أم أنها خرجت في يوم من الأيام من مصانع ألمانيا؟.
طمأنته علي أن بلدنا دولة قانون تحترم حقوق الملكية التجارية والفكرية ولامجال لمصانع المحاكاة (أو غيرها) عندنا.
تجولت الكاميرا في الأسواق والمتحف الوحيد في البلد وعلق مايكل بيلين علي إقامته في فندق نوفوتيل وقارنها بفنادق أخري قاده إليها الترحال في أدغال الهند والتيبيت وما زال يختار من هنا وهناك حتى أذن بالخروج من انواكشوط شرقا في رحلته الطويلة والممتعة.
استأذن صاحبي في تغيير القناة قائلا في أدب: لا أريد أن أري الباقي على الشاشة، سأنتظر أن أعيشه بنفسي!.
انتقل إلي خيارات أخري تركني أتابع بايلين يغوص في موريتانيا الأعماق.. شعرت كأن الصلة انقطعت وقل الحديث وحان وقت العشاء والنوم.
ولما أوشكنا علي الهبوط في لندن شكرني علي تعريفه بزاوية أخري من الأرض لم يسمع عنها من قبل وقال: ما أقل ما نعرف عن كوكبنا!.
أما تسمية البنية، فسأفكر في الموضوع قبل أن أعرضه علي أمها. إن بلدكم يحمل اسما جميلا ولكنه في كل مرة يفاجئني بعكس ما أتوقع.. لا أريد أن تكون ابنتي كذلك".







