تاريخ الإضافة : 29.07.2012 10:41
ما ذا يخسر العرب بصعود الإسلاميين؟!
يكثر الحديث هذه الفترة عن الربيع العربي أو الثورات الشعبية في الدول العربية وينبري عدد كبير من الكتاب والمفكرين والسياسيين الأكثر كلاما في العادة للحديث عن هذا الأمر بسلبية مطلقة، غير منتبهين إلى التحول ـ إن لم نقل التناقض ـ في مواقفهم وآرائهم من شعارات طالما رددوها ومططوها من قبيل "الثورة" و"الحرية" والجماهير"..
ولتسويغ هذا "التناقض" والتعبير عن "الاستياء" بأكثر الطرق التواء وغشا يتحدث هؤلاء عن مخاطر الفوضى وكوارث صعود الإسلاميين الإخوانيين خاصة، بل عن الاستعمار والمؤامرة وسايكس بيكو.. الخ.
في البداية لا بد من الإشارة إلى حقيقة مبدئية هي أن الربيع العربي أو الثورة الشعبية جاءت انفجارا شاملا كافة الأقطار العربية، لا يختلف إلا في مستويات تراكم الضغط ونوعية العقبات التي تعترض سبيله الجارف.. ومن حيث الجوهر فلم يسلم أي بلد عربي من هذه الثورة، لكن هناك بلدان بادرت قياداتها إلى التجاوب والاحتماء فخفضت رؤوسها وابتلعت بعض "كبريائها" لتتجنب عنف الانفجار، وهناك بلدان سارعت أنظمتها إلى إطلاق العنان لجبروتها وخبراتها المتقدمة جدا في مجال القمع والبطش بمواطنيها.. فجرفها الانفجار الكبير أو سحقها أو أحرقها.
وإذا كان هذا باديا في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا.. فإنه في الصورة الأولى يشمل البلدان العربية الأخرى كلها تقريبا، حيث نزلت سحائب "الإصلاحات" في بلدان ما كان يصح الحديث فيها عن ذلك، وعمت نسمات الحرية في بلدان أخرى. فمن كان يتصور أن تتحرر الكلمة وتعلو صيحات الحرية، وتنطلق المظاهرات والاعتصامات هنا وهناك، وشرطة الأنظمة وأجهزتها القمعية شاهدة تراقب من بعيد هذه المنكرات السياسية، بل وتؤثر السلامة وكبت غرائز القمع والبطش المؤصلة فيها.
لقد انتشرت حرية الصحافة والتنظيم وشوهدت عمليات اقتراع حرة وتجرع البعض نتائجها المرة أحيانا.. وهذا (سواء كان حقيقيا أو كان تمثيلا وكرها) لم يكن إلا ثورة وتحولا هائلا امتلك قدرة الاعتراف وقوة الإخضاع لأنظمة لم تكن سعيدة به على الإطلاق.
ومن جهة أخرى فإن أوجه التشابه والتناغم قائمة بشدة بين هذه الثورات، سواء من حيث نبعها الشعبي الذي لا فضل فيه لأحزاب ولا جماعات سياسية محددة، أو من حيث نزعتها السلمية التي لا يكدرها ولا يسلحها إلا محاولة كبتها بالقوة.
هناك بلد عربي واحد امتلك ـ رغم أسقامه الخاصة ـ المناعة ضد هذه الثورة هو لبنان. والسبب ببساطة ـ ومفارقة ـ هو أنه البلد العربي الوحيد الذي كان فيه للحرية والديمقراطية وجود حقيقي. ويتحدث البعض بالمناسبة عن أهلية "جزء" من هذا البلد العجيب لثورة الربيع العربي وهذا الجزء المحدود ما هو إلا الضاحية الجنوبية من بيروت!.
في الوقت الحالي هناك مواقف حادة من هذا التغيير الذي لا يجزم أحد بعواقبه بعدما حقق مطلبا أساسيا هو وضع حد لاغتصاب السلطة بالقوة وأساليب ممارستها السيئة. وهذا يعني أن مبررات القلق من المستقبل ما تزال قائمة وكثيرة وكبيرة.. فالتخلص من الواقع البائس هو خطوة جبارة ولكن على طريق طويل وعر.
طرفا النقيض
من جهة هناك القوى الغربية (الاستعمارية) التي تبدو كالمهلل، وأحيانا الداعم لهذه الثورات، ومن جهة هناك "القوى الثورية"، "التقدمية" العربية التي تقف مصدومة وأحيانا مقارعة لهذه الثورات ومنددة بها. ولكل من الطرفين أساليبه العتيدة وغاياته البعيدة. فالقوة الغربية تعبت من مقاومة التغيير ويئست من كافة الأنظمة التي استخدمتها لتدجين هذه الشعوب واستغلالها بواسطة بيادق ظاهرة وخفية فأزمعت ـ مع ما تعانيه هي نفسها من تآكل ـ الاستجابة الظاهرة والتخفي وراء مبادئ الحرية والديمقراطية التي ترفعها، وتطبقها في نفسها إلى حد كبير، في انتظار أن تتضح عاقبة الأمور أو تتبين سبلا أخرى أكثر ملاءمة ونجاعة.
أما القوى الثورية العربية ومعها جزء هام من أتباع الغرب فقد دعت بالويل والثبور، من خلال سيل متلاطم من الكتابات والتصريحات التي تصف الربيع العربي بأبشع النعوت وتعود في سبيل ذلك إلى استخدام قاموس التخوين والمؤامرة والاستعمار والرجعية.. الخ.
ولكن ما هو السبب الحقيقي لهذا الموقف المعادي للتغيير والثورة؛ هل هو الانزعاج من وصول حركات الإخوان المسلمين إلى السلطة أم هو الأسى على فشل المشاريع الثورية وسقوط الأنظمة العروبية اليسارية؟
ويبدو أن الأمرين كليهما وراء المعارضة "النخبوية" للثورات العربية. فإلى أي حد يمكن أن تقنع هذه المعارضة "الحائرين" المترددين فضلا عن المؤيدين للثورة؟
تبدو مسألة وصول الإسلاميين إلى السلطة بهذه الطريقة الفجائية مناسبة جدا لنظرية المؤامرة، فحركة الإخوان المسلمين مع أنها التيار السياسي الإسلامي الأكثر اعتدالا ونضجا قد أذيقت ـ في معظم البلاد العربية ـ صنوف القمع والإقصاء على مدى نصف قرن. ولكن حين أعطي الشعب حق الاختيار اختارت غالبيته أبناءَ هذه الحركة. فكان من الصعب على من وضعوا أنفسهم لعقود طويلة أوصياء على عقول وميول الجماهير أن يقبلوا بهذا التحول الهائل.
والحقيقة أن وصول أحزاب الإخوان المسلمين إلى السلطة لم يكن مستحيلا في ذاته. فمن جهة عانى هذا التيار الحيف حتى حرم من الاعتراف بأحزابه السياسية، فكان من الإنصاف أن يمنح الفرصة (خاصة في ظل فشل الآخرين) كما أنه من الطبيعي أن تناصره الجماهير بحكم مرجعيته الإسلامية وشعبوية منتسبيه.
ومن جهة أخرى هناك أسئلة جوهرية يتناساها شانئو الإسلاميين من قبيل: ما هي السلطة في الدول العربية؟ ومن كان فيها؟ وكيف وصل إليها؟ وما ذا فعل بها؟؟ أليس أنظمة عاجزة عن إطعام أو تشغيل شعوبها، وقادة وصلوا للحكم بقوة السلاح أو بعادة التوريث دون مؤهلات شخصية ولا مبررات حقية، فالتصقوا بكراسي السلطة وسخروا كل شيء، كل شيء، للبقاء هناك دون منازع. إذن ماذا سنخسر بجلوس أحد الإسلاميين أو حتى الشياطين أنفسهم على هذا الكرسي الضائع أصلا؟!
وهكذا فإن وصول الإخوان المسلمين إلى السلطة بهذه الطريقة الشرعية ليس "اكبر من قدره"، والأهم أنه ليس نهاية المطاف. فالإسلاميون ليسوا ملائكة ولا معصومين ولو ادعوا ذلك ، كما أنهم ليسوا شياطين ولو اتهموا بذلك. فهم ببساطة تشكيلات سياسية وضعها الشعب تحت التجربة قد تنجح فتحدث المرجو وقد تخفق فيقبل منها العذر، وعلينا أن نقبل بذلك وألا نتوقع من حكوماتها المعجزات في ظل عدم خبرتها وتربص خصومها وصعوبة الأوضاع التي تواجهها.. بل علينا أن نركز على أمر واحد هو الاحتفاظ بالطريق إلى السلطة سالكا لمن يختاره الشعب بحرية فقط، أيا كان.. ولن يبقي الشعب إلا الأصلح.
بالطبع هناك من لا يزال يقول لنا: الإسلاميون يأخذون السلطة ليتمسكوا بها، ويؤمنون بالديمقراطية نفاقا واحتيالا ليصلوا السلطة ثم يكفرون بها.. الخ.
ولكن أين المؤمنون بالديمقراطية الذين لا يلبسون إيمانهم بها بطمع ولا تزوير؟
مرة أخرى لا شيء سيكون أسوأ مما كان، فالشعوب العربية لم تتحرك للتغيير ولم تتُق للثورة إلا حين أعياها إبداء رأيها وإنفاذ إرادتها وعايشت حكاما مخلدين في السلطة لا يريدون عنها حولا.. بل إن ما سفك ويسفك من دماء وما يحدث من دمار وما يخوفنا به "الغيورون" على الحرية الجدد من الفوضى والحروب الأهلية.. ما كان ليحدث لو أن الحكام الذين استهدفتهم الثورات كان لهم شعور بالمسئولية أو نصيب من الحياء فاكتفوا بما غنموا ورحلوا.. لكنهم يقدمون الأوطان وأمنها واستقرارها وأرواح شعوبها قرابين رخيصة لبقائهم في السلطة، ويحسبون المطالبة برحيلهم عين الفوضى وسبب الحرب الأهلية والدمار، منطقهم الحقيقي: أنا أو الفناء!!.
للقوميين العروبيين أسبابهم
لكن هل الخوف من الإسلاميين، أو كرههم على الأصح، هو السبب الوحيد لمعارضة التغيير العربي؟
لا، ليس ذلك كل شيء بالنسبة لليسار العربي على الأقل. فسقوط أنظمة ورموز سخرت الوسائل القومية وجندت العقول لتقديسها وتصنيمها، بتلك الطرق السريعة والمهينة قد أثار الحنق والإحباط في الأوساط النخبوية العروبوية التي كانت منخرطة في تيارات هؤلاء القادة ومشاريعهم القومية الفاشلة، وثوريتهم التي لم تسفر عن شيء سوى ما نشاهده من فرقة وتخلف وبؤس وإحباط.. قادت كلها إلى هذا الربيع الحائر.. إنهم ببساطة يأخذون بأسباب يرفضون مسبَّباتها وهو تناقض ضار.
في النهاية لجأ النائحون إلى حجج سخيفة وأساليب عتيقة للتنفير من الثورة وإظهارها ببساطة كما لو كانت مؤامرة من الغرب وأذنابه وإسرائيل.. وأمثلهم طريقة من يعتبر هذه الثورة فوضى وفتنة وخيمة العواقب.
وهي أمور كلها لا تقوم لها قائمة؛ فما ذا يعجب الغرب في الإسلاميين؟ وإذا كانوا "عملاء" أو أدوات له لما ذا انتظر قرنا من الزمن أضاع فيه جهوده وأمواله وأبناءه لتمكين أذنابه وتلامذته المخلصين من الحكم والنفوذ، ومظاهرتِهم على قمع الإسلاميين أنفسهم وإقصائهم؟!.
أما إسرائيل فهي الشماعة القذرة والوصمة المستهلكة لتبرير الإخفاق والقهر وتزوير العمالة أو النصر. لكن لا يصل الغباء بأحد أن يظن أن الربيع العربي أو أي تغيير جذري هو في مصلحة إسرائيل أو سائغ لها. فمصلحة إسرائيل ورغبتها الحقيقية هي في بقاء أنظمة قمع ديكتاتورية جاثمة على عروش جيرانها، وإبقاء الشعوب العربية مسلوبة الإرادة معدومة الحرية تعيش التخلف والبؤس، مهما كانت الشعارات والصور التي يرفعها هؤلاء الحكام وإعلامهم المحنط والشتائم التي يكيلونها لإسرائيل وقادتها.. فالمهم هو وجود أنظمة تضمن ـ بذلك ـ بقاء إسرائيل قوة الاحتلال التي تتمتع ـ وحدهاـ بالديمقراطية والقوة.. والأرض العربية، بما فيها بعض أراضي تلك الأنظمة!.
أما جبهات المواجهة والممانعة وقنابلها الكلامية.. فلا تزعج إسرائيل طالما أنها تستطيع، وتنفذ باطمئنان، إرسال طائراتها الحربية لتدمير أهم حلم عربي بامتلاك رادع نووي في عقر دار العباسيين ، وتعيد الكرة بعد سنوات على آخر في عقر دار الأمويين.. ويكتفي الأشاوس المهانة كرامتهم ببيانات شجب وعبارات تهديد ووعيد بالثأر "في الوقت المناسب" (في الدار الآخرة).
لما ذا لم ينطلق الربيع العربي ساعتها.. بل لما ذا لم ينطلق قبل ذلك حين ردت إسرائيل على "القادة الأبطال" سنة 1967 باحتلال بقية فلسطين (القدس) وسيناء وغزة في مصر والضفة الغربية والغور في الأردن والجولان في سوريا.. في ستة أيام، ثم ردت على انتصاراتهم المزعومة سنة 1973 بمعاهدة كامب دافيد واتفاقية وادي عربة وضم الجولان.. وهي كلها بمثابة تشريع إقليمي ودولي لما احتلته سنة 1967؟؟.. بكل بساطة لأن كل تلك الأسلحة وكل تلك الحروب كان الهدفَ منها أمرٌ آخر لا علاقة له بالتحرير ولا بفلسطين: إنه تمجيد "القائد" وتعظيم شأنه وخلوده في السلطة.. وهي أمور لا تعترض عليها إسرائيل على الإطلاق!.
رغم ذلك ليس من المتوقع أبدا أن يغير وصول الإخوان للحكم في مصر ولا حتى في سوريا من هذا الوضع شيئا في الوقت المنظور بل لا يمكن استبعاد أن يبدو التعامل مع إسرائيل واقعا مكشوفا إذا سقطت الدعاية والعنتريات التي كانت تمسك عروشا وتوظف كُتابا ومفكرين.. ومع ذلك سيزداد قلق إسرائيل ويصبح أكثر جدية على المدى البعيد.
ولتسويغ هذا "التناقض" والتعبير عن "الاستياء" بأكثر الطرق التواء وغشا يتحدث هؤلاء عن مخاطر الفوضى وكوارث صعود الإسلاميين الإخوانيين خاصة، بل عن الاستعمار والمؤامرة وسايكس بيكو.. الخ.
في البداية لا بد من الإشارة إلى حقيقة مبدئية هي أن الربيع العربي أو الثورة الشعبية جاءت انفجارا شاملا كافة الأقطار العربية، لا يختلف إلا في مستويات تراكم الضغط ونوعية العقبات التي تعترض سبيله الجارف.. ومن حيث الجوهر فلم يسلم أي بلد عربي من هذه الثورة، لكن هناك بلدان بادرت قياداتها إلى التجاوب والاحتماء فخفضت رؤوسها وابتلعت بعض "كبريائها" لتتجنب عنف الانفجار، وهناك بلدان سارعت أنظمتها إلى إطلاق العنان لجبروتها وخبراتها المتقدمة جدا في مجال القمع والبطش بمواطنيها.. فجرفها الانفجار الكبير أو سحقها أو أحرقها.
وإذا كان هذا باديا في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا.. فإنه في الصورة الأولى يشمل البلدان العربية الأخرى كلها تقريبا، حيث نزلت سحائب "الإصلاحات" في بلدان ما كان يصح الحديث فيها عن ذلك، وعمت نسمات الحرية في بلدان أخرى. فمن كان يتصور أن تتحرر الكلمة وتعلو صيحات الحرية، وتنطلق المظاهرات والاعتصامات هنا وهناك، وشرطة الأنظمة وأجهزتها القمعية شاهدة تراقب من بعيد هذه المنكرات السياسية، بل وتؤثر السلامة وكبت غرائز القمع والبطش المؤصلة فيها.
لقد انتشرت حرية الصحافة والتنظيم وشوهدت عمليات اقتراع حرة وتجرع البعض نتائجها المرة أحيانا.. وهذا (سواء كان حقيقيا أو كان تمثيلا وكرها) لم يكن إلا ثورة وتحولا هائلا امتلك قدرة الاعتراف وقوة الإخضاع لأنظمة لم تكن سعيدة به على الإطلاق.
ومن جهة أخرى فإن أوجه التشابه والتناغم قائمة بشدة بين هذه الثورات، سواء من حيث نبعها الشعبي الذي لا فضل فيه لأحزاب ولا جماعات سياسية محددة، أو من حيث نزعتها السلمية التي لا يكدرها ولا يسلحها إلا محاولة كبتها بالقوة.
هناك بلد عربي واحد امتلك ـ رغم أسقامه الخاصة ـ المناعة ضد هذه الثورة هو لبنان. والسبب ببساطة ـ ومفارقة ـ هو أنه البلد العربي الوحيد الذي كان فيه للحرية والديمقراطية وجود حقيقي. ويتحدث البعض بالمناسبة عن أهلية "جزء" من هذا البلد العجيب لثورة الربيع العربي وهذا الجزء المحدود ما هو إلا الضاحية الجنوبية من بيروت!.
في الوقت الحالي هناك مواقف حادة من هذا التغيير الذي لا يجزم أحد بعواقبه بعدما حقق مطلبا أساسيا هو وضع حد لاغتصاب السلطة بالقوة وأساليب ممارستها السيئة. وهذا يعني أن مبررات القلق من المستقبل ما تزال قائمة وكثيرة وكبيرة.. فالتخلص من الواقع البائس هو خطوة جبارة ولكن على طريق طويل وعر.
طرفا النقيض
من جهة هناك القوى الغربية (الاستعمارية) التي تبدو كالمهلل، وأحيانا الداعم لهذه الثورات، ومن جهة هناك "القوى الثورية"، "التقدمية" العربية التي تقف مصدومة وأحيانا مقارعة لهذه الثورات ومنددة بها. ولكل من الطرفين أساليبه العتيدة وغاياته البعيدة. فالقوة الغربية تعبت من مقاومة التغيير ويئست من كافة الأنظمة التي استخدمتها لتدجين هذه الشعوب واستغلالها بواسطة بيادق ظاهرة وخفية فأزمعت ـ مع ما تعانيه هي نفسها من تآكل ـ الاستجابة الظاهرة والتخفي وراء مبادئ الحرية والديمقراطية التي ترفعها، وتطبقها في نفسها إلى حد كبير، في انتظار أن تتضح عاقبة الأمور أو تتبين سبلا أخرى أكثر ملاءمة ونجاعة.
أما القوى الثورية العربية ومعها جزء هام من أتباع الغرب فقد دعت بالويل والثبور، من خلال سيل متلاطم من الكتابات والتصريحات التي تصف الربيع العربي بأبشع النعوت وتعود في سبيل ذلك إلى استخدام قاموس التخوين والمؤامرة والاستعمار والرجعية.. الخ.
ولكن ما هو السبب الحقيقي لهذا الموقف المعادي للتغيير والثورة؛ هل هو الانزعاج من وصول حركات الإخوان المسلمين إلى السلطة أم هو الأسى على فشل المشاريع الثورية وسقوط الأنظمة العروبية اليسارية؟
ويبدو أن الأمرين كليهما وراء المعارضة "النخبوية" للثورات العربية. فإلى أي حد يمكن أن تقنع هذه المعارضة "الحائرين" المترددين فضلا عن المؤيدين للثورة؟
تبدو مسألة وصول الإسلاميين إلى السلطة بهذه الطريقة الفجائية مناسبة جدا لنظرية المؤامرة، فحركة الإخوان المسلمين مع أنها التيار السياسي الإسلامي الأكثر اعتدالا ونضجا قد أذيقت ـ في معظم البلاد العربية ـ صنوف القمع والإقصاء على مدى نصف قرن. ولكن حين أعطي الشعب حق الاختيار اختارت غالبيته أبناءَ هذه الحركة. فكان من الصعب على من وضعوا أنفسهم لعقود طويلة أوصياء على عقول وميول الجماهير أن يقبلوا بهذا التحول الهائل.
والحقيقة أن وصول أحزاب الإخوان المسلمين إلى السلطة لم يكن مستحيلا في ذاته. فمن جهة عانى هذا التيار الحيف حتى حرم من الاعتراف بأحزابه السياسية، فكان من الإنصاف أن يمنح الفرصة (خاصة في ظل فشل الآخرين) كما أنه من الطبيعي أن تناصره الجماهير بحكم مرجعيته الإسلامية وشعبوية منتسبيه.
ومن جهة أخرى هناك أسئلة جوهرية يتناساها شانئو الإسلاميين من قبيل: ما هي السلطة في الدول العربية؟ ومن كان فيها؟ وكيف وصل إليها؟ وما ذا فعل بها؟؟ أليس أنظمة عاجزة عن إطعام أو تشغيل شعوبها، وقادة وصلوا للحكم بقوة السلاح أو بعادة التوريث دون مؤهلات شخصية ولا مبررات حقية، فالتصقوا بكراسي السلطة وسخروا كل شيء، كل شيء، للبقاء هناك دون منازع. إذن ماذا سنخسر بجلوس أحد الإسلاميين أو حتى الشياطين أنفسهم على هذا الكرسي الضائع أصلا؟!
وهكذا فإن وصول الإخوان المسلمين إلى السلطة بهذه الطريقة الشرعية ليس "اكبر من قدره"، والأهم أنه ليس نهاية المطاف. فالإسلاميون ليسوا ملائكة ولا معصومين ولو ادعوا ذلك ، كما أنهم ليسوا شياطين ولو اتهموا بذلك. فهم ببساطة تشكيلات سياسية وضعها الشعب تحت التجربة قد تنجح فتحدث المرجو وقد تخفق فيقبل منها العذر، وعلينا أن نقبل بذلك وألا نتوقع من حكوماتها المعجزات في ظل عدم خبرتها وتربص خصومها وصعوبة الأوضاع التي تواجهها.. بل علينا أن نركز على أمر واحد هو الاحتفاظ بالطريق إلى السلطة سالكا لمن يختاره الشعب بحرية فقط، أيا كان.. ولن يبقي الشعب إلا الأصلح.
بالطبع هناك من لا يزال يقول لنا: الإسلاميون يأخذون السلطة ليتمسكوا بها، ويؤمنون بالديمقراطية نفاقا واحتيالا ليصلوا السلطة ثم يكفرون بها.. الخ.
ولكن أين المؤمنون بالديمقراطية الذين لا يلبسون إيمانهم بها بطمع ولا تزوير؟
مرة أخرى لا شيء سيكون أسوأ مما كان، فالشعوب العربية لم تتحرك للتغيير ولم تتُق للثورة إلا حين أعياها إبداء رأيها وإنفاذ إرادتها وعايشت حكاما مخلدين في السلطة لا يريدون عنها حولا.. بل إن ما سفك ويسفك من دماء وما يحدث من دمار وما يخوفنا به "الغيورون" على الحرية الجدد من الفوضى والحروب الأهلية.. ما كان ليحدث لو أن الحكام الذين استهدفتهم الثورات كان لهم شعور بالمسئولية أو نصيب من الحياء فاكتفوا بما غنموا ورحلوا.. لكنهم يقدمون الأوطان وأمنها واستقرارها وأرواح شعوبها قرابين رخيصة لبقائهم في السلطة، ويحسبون المطالبة برحيلهم عين الفوضى وسبب الحرب الأهلية والدمار، منطقهم الحقيقي: أنا أو الفناء!!.
للقوميين العروبيين أسبابهم
لكن هل الخوف من الإسلاميين، أو كرههم على الأصح، هو السبب الوحيد لمعارضة التغيير العربي؟
لا، ليس ذلك كل شيء بالنسبة لليسار العربي على الأقل. فسقوط أنظمة ورموز سخرت الوسائل القومية وجندت العقول لتقديسها وتصنيمها، بتلك الطرق السريعة والمهينة قد أثار الحنق والإحباط في الأوساط النخبوية العروبوية التي كانت منخرطة في تيارات هؤلاء القادة ومشاريعهم القومية الفاشلة، وثوريتهم التي لم تسفر عن شيء سوى ما نشاهده من فرقة وتخلف وبؤس وإحباط.. قادت كلها إلى هذا الربيع الحائر.. إنهم ببساطة يأخذون بأسباب يرفضون مسبَّباتها وهو تناقض ضار.
في النهاية لجأ النائحون إلى حجج سخيفة وأساليب عتيقة للتنفير من الثورة وإظهارها ببساطة كما لو كانت مؤامرة من الغرب وأذنابه وإسرائيل.. وأمثلهم طريقة من يعتبر هذه الثورة فوضى وفتنة وخيمة العواقب.
وهي أمور كلها لا تقوم لها قائمة؛ فما ذا يعجب الغرب في الإسلاميين؟ وإذا كانوا "عملاء" أو أدوات له لما ذا انتظر قرنا من الزمن أضاع فيه جهوده وأمواله وأبناءه لتمكين أذنابه وتلامذته المخلصين من الحكم والنفوذ، ومظاهرتِهم على قمع الإسلاميين أنفسهم وإقصائهم؟!.
أما إسرائيل فهي الشماعة القذرة والوصمة المستهلكة لتبرير الإخفاق والقهر وتزوير العمالة أو النصر. لكن لا يصل الغباء بأحد أن يظن أن الربيع العربي أو أي تغيير جذري هو في مصلحة إسرائيل أو سائغ لها. فمصلحة إسرائيل ورغبتها الحقيقية هي في بقاء أنظمة قمع ديكتاتورية جاثمة على عروش جيرانها، وإبقاء الشعوب العربية مسلوبة الإرادة معدومة الحرية تعيش التخلف والبؤس، مهما كانت الشعارات والصور التي يرفعها هؤلاء الحكام وإعلامهم المحنط والشتائم التي يكيلونها لإسرائيل وقادتها.. فالمهم هو وجود أنظمة تضمن ـ بذلك ـ بقاء إسرائيل قوة الاحتلال التي تتمتع ـ وحدهاـ بالديمقراطية والقوة.. والأرض العربية، بما فيها بعض أراضي تلك الأنظمة!.
أما جبهات المواجهة والممانعة وقنابلها الكلامية.. فلا تزعج إسرائيل طالما أنها تستطيع، وتنفذ باطمئنان، إرسال طائراتها الحربية لتدمير أهم حلم عربي بامتلاك رادع نووي في عقر دار العباسيين ، وتعيد الكرة بعد سنوات على آخر في عقر دار الأمويين.. ويكتفي الأشاوس المهانة كرامتهم ببيانات شجب وعبارات تهديد ووعيد بالثأر "في الوقت المناسب" (في الدار الآخرة).
لما ذا لم ينطلق الربيع العربي ساعتها.. بل لما ذا لم ينطلق قبل ذلك حين ردت إسرائيل على "القادة الأبطال" سنة 1967 باحتلال بقية فلسطين (القدس) وسيناء وغزة في مصر والضفة الغربية والغور في الأردن والجولان في سوريا.. في ستة أيام، ثم ردت على انتصاراتهم المزعومة سنة 1973 بمعاهدة كامب دافيد واتفاقية وادي عربة وضم الجولان.. وهي كلها بمثابة تشريع إقليمي ودولي لما احتلته سنة 1967؟؟.. بكل بساطة لأن كل تلك الأسلحة وكل تلك الحروب كان الهدفَ منها أمرٌ آخر لا علاقة له بالتحرير ولا بفلسطين: إنه تمجيد "القائد" وتعظيم شأنه وخلوده في السلطة.. وهي أمور لا تعترض عليها إسرائيل على الإطلاق!.
رغم ذلك ليس من المتوقع أبدا أن يغير وصول الإخوان للحكم في مصر ولا حتى في سوريا من هذا الوضع شيئا في الوقت المنظور بل لا يمكن استبعاد أن يبدو التعامل مع إسرائيل واقعا مكشوفا إذا سقطت الدعاية والعنتريات التي كانت تمسك عروشا وتوظف كُتابا ومفكرين.. ومع ذلك سيزداد قلق إسرائيل ويصبح أكثر جدية على المدى البعيد.







