تاريخ الإضافة : 03.07.2012 13:31

العبودية في كتب المالكية ... لا كما يراها المتحاملون (4)

محمد يحيى بن محمد بن احريمو

محمد يحيى بن محمد بن احريمو

كنت قد قررت ختم هذا المقال عند الحلقة الثالثة بعد ما رأيت أني قد أوفيت الموضوع حقه _ بفضل الله وتوفيقه سبحانه _ ولكن ظهر لي بعد ذلك أن هناك أمورا ومسائل ما زالت بحاجة للبحث والمناقشة خصوصا ما يتعلق ببعض الانتقادات التي وجهها أخونا وشيخنا صاحب العلم والفضل والفكر المستنير الدكتور محمد بن المختار الشنقيطي –حفظه الله تعلى - لفقهاء الإسلام عموما وللمالكية خصوصا فلذلك رأيت إشفاع الحلقات السابقة بهذه الحلقة تكميلا للفائدة واستقصاء للموضوع .
ومما زاد عزمي على ذلك أني رأيت بعض الناس قد اقتنعوا بآراء الشيخ الكريم هذه وتقلدوها بجهل وتعصب فاجترؤوا على الطعن في علماء الإسلام وتراث الإسلام حتى خرج علينا بيرام في مقال له منشور على موقع السراج يقول _ سخافة وجهلا _ إن التسري لا يجوز في الإسلام وإن الفقهاء هم الذين استباحوه بتأويلاتهم الفاسدة وينسب ذلك إلى الشيخ الكريم حاشاه من ذلك, فرأيت أن من الواجب الذي لا محيد عنه بيان زيف سائر تلك الانتقادات وبطلانها .

تمييز الفقهاء بين الأحرار والأرقاء عملا بالأدلة ولطفا بالأرقاء

لقد تعرضنا في ما سبق لعدد من الآيات القرآنية التي زعم الشيخ الكريم محمد الشنقيطي أن الفقهاء تركوا العمل بها من غير حجة ولا دليل وبقيت آيات أخرى مما أورده الشيخ الكريم وسنتعرض لها هنا فمنها :
1- قوله تعلى ( وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) البقرة (228) أخرج الفقهاء من عموم هذه الآية الكريمة الأمة فجعلوا عدتها على النصف من عدة الحرة هذا مذهب جمهور العلماء مثل عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وابن مسعود وبه جرى عمل المسلمين منذ عهد الصحابة رضوان الله عليهم قال ابن القيم في زاد المعاد :
" قَالَ ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصّدّيق رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ قَالَ عِدّةُ الْأَمَةِ حَيْضَتَانِ . قَالَ الْقَاسِمُ مَعَ أَنّ هَذَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَلَا نَعْلَمُهُ سُنّةً عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَكِنْ قَدْ مَضَى أَمْرُ النّاسِ عَلَى هَذَا وَقَدْ تَقَدّمَ هَذَا الْحَدِيثُ بِعَيْنِهِ وَقَوْلُ الْقَاسِمِ وَسَالِمٍ فِيهِ لِرَسُولِ الْأَمِيرِ قُلْ لَهُ إنّ هَذَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللّهِ وَلَا سُنّةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَكِنْ عَمِلَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ ."( زاد المعاد لابن القيم 5\577) .
ومن الواضح أن القاسم بن محمد قائل بمذهب الجمهور في هذه المسألة كما رأينا إلا أنه قد استشكل هذا المذهب وبين أنه لم يجد له دليلا صريحا في القرآن والحديث ولكنه قياس قوي اعتضد بسنة الخلفاء الراشدين وعمل السلف الصالح .

2- قوله تعلى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) هذه الآية أصل في وجوب الحج وقد أخرج العلماء منها الرقيق فلا يجب عليه الحج عند الجمهور لحديث ابن عباس رضي الله عنه قال رسول الله صل الله عليه وسلم " أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة أخرى وأيما عبد حج ثم عتق فعليه حجة أخرى " أخرجه الشافعي في مسنده( 1 / 290 ) وأبو داوود الطيالسي وصححه الألباني وبين أنه له شواهد من حديث جابر ومحمد بن كعب القرظي مرسلا ( إرواء الغليل 4\156) وكذلك صححه ابن حزم والحاكم والذهبي وأقرهم ابن حجر (تلخيص الحبير201 - 202 ).
وهذا الحديث واضح في عدم وجوب الحج على الرقيق لأنه قد ألزمه قضاء حجه إذا عتق لأن حجه في حال الرق وقع على وجه الندب , وبالتالي فلا تسقط به فريضة الحج المتوجهة له بعد العتق .
ومع هذا فقد ذكر الفقهاء أن الرقيق إذا حضر مع سيده الحج فليس له أن يمنعه من الحج قال ابن عبد البر :
" إن استأذن العبد سيده في الحج فحسن أن يأذن له فإن لم يفعل فليس ذلك عليه.قال مالك: فإن حج معه فلا نرى أن يمنعه " (الكافي في فقه أهل المدينة 2\412).
وهذا يبين أن هذا الحكم ليس مشروعا لمنع العبد من العبادة بقدر ما هو محافظة على حق السيد ومصلحة العبد الذي ربما يعرضه السفر إلى الحج للخطر مع أنه غير واجب عليه في الأصل وبهذا نعلم أن كلام الشيخ الكريم الآتي ليس في محله وهو قوله معلقا على كلام الفقهاء السابق :
" وهو ما يعني عمليا ترجيح العبودية على العبادة!! وكأن خدمة السيد خمسة أيام أهم من أداء حجة الإسلام المفروضة، أو خدمته ساعتين أهم من عمرة مبرورة.وهكذا منع الفقهاء العبد القادر على الحج من الحج بغير إذن السيد. " .
إن هذه الدعوى مردودة بما ذكرناه سابقا خاصة مع ما تشتمل عليه من المصادرة عن المطلوب والخلط المنهجي , فالحج ليس بواجب على الرقيق عند من أوجب عليه استئذان السيد فيه ! والفقهاء لا يرون منع الرقيق من العبادة إذا حضر الحج وإنما يعطون السيد السلطة في تقدير ظروف الحج وإمكانيتها مع أنه غير واجب على الرقي كما قدمنا .
وقال الشيخ الكريم أيضا معلقا على مسألة حج الرقيق هذه :
" وليت ما فعله الفقهاء هنا كان إعفاء لا منعا، فيكون رخصة لصالح العبد، تراعي حاله البائسة، وتعترف بالقيود المفروضة عليه. لكن الأمر لم يكن كذلك، وإنما جاء قولهم مراعاة لحق السيد في الخدمة. وقد صرح بذلك القرطبي فقال: "قال أصحابنا : لا تجب عليه عبادة الأموال من زكاة وكفارات، ولا من عبادات الأبدان ما يقطعه عن خدمة سيده كالحج والجهاد وغير ذلك" .
هذا كلام الشيخ الكريم وفيه كثير من المجازفة والتمحل لإدانة الرأي الفقهي وإخراجه عن سياقه وتصويره على خلاف الواقع , ذلك أن الفقهاء إنما أسقطوا عن العبد وجوب الحج لطفا به ورفقا وقد قال تعلى : " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا " وقال صلى الله عليه وسلم " السبيل الزاد والراحلة " ومن المناسب لحال العبد ألا يكلف بهذه العبادة لما يصاحبها من مشقة السفر وبذل المال والتعرض للغارة والخطف, وهذا هو مقتضى مسلك المناسبة المعروف في أصول الفقه وهو : " وجود وصف مناسب لترتب الحكم حسب ما عرف من مجاري العادات وتصرفات الشارع بتحصيل المصالح ودفع المفاسد المتوقعة ," ( إرشاد الفحول للشوكاني2\128) فالمصلحة ظاهرة هنا من ترتب الحكم الذي هو إسقاط الحج عن الرقيق على الوصف الذي هو ضعفه ومعاناته, وإذا تحققنا هذا لم يسغ أن نحاكم سائر الفقهاء بكلمة صدرت من القرطبي في سياق التعليم والبيان لا في سياق الاستدلال والتعليل فهو كما رأينا يسعى إلى إيجاد ضابط يوضح ما يجب على الرقيق من العبادات وما لا يجب , مع أن اجتهادات الفقهاء إنما هي أخبار عن فهمم وتصورهم للأحكام الشرعية وليست بإنشاء محض كما هو حال نظريات علماء القانون السياسة في الغرب ’ فإذا ظهر المقصد الشرعي وفهمت العلة لم يبق بعد ذلك محل لأي كلام أو تعليل آخر .
وقد أشار القرطبي أيضا إلى هذا في من تفسير آية الحج حيث يقول :
" وكذلك العبد لم يدخل فيه؛ لأنه أخرجه عن مطلق العموم قوله تعالى في التمام: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} والعبد غير مستطيع؛" (تفسير القرطبي 4 \145).
ونبه عليه أيضا ابن الهمام الحنفي وابن أمير الحاج فذكرا أن حكمة إسقاط الحج عن العبد مراعاة حاله خصوصا ما يتعلق بنقص ملكيته للمال (التحرير والتحبير لابن أمير الحاج 3\ 455).
ومما ينتقد أيضا في مقال الشيخ الكريم أنه كثيرا ما يضرب الذكر صفحا عن أدلة الفقهاء التي استندوا إليها في التمييز بين الأحرار والأرقاء في بعض الأحكام , وتارة يفترض أدلة وهمية لم يستند إليها الفقهاء ولم يذكروها ثم يستفيض في ردها , وهو ما يشكل خروجا عن " المنهج العلمي " وتغريرا بالقارئ , ومن ذلك أنه ساق عدة آيات ذكر أن الفقهاء تركوا العمل بها ثم علق عليها قائلا :
" وأصل هذا التمييز في كل شيء هو القياس غير الموفق على حكم قرآني جاء تخفيفا على الأمة حينما جعل الله عز وجل عقوبتها على الزنا نصف عقوبة الحرة: "فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ" (سورة النساء، الآية 25) رفقا بها نظرا لما تنمِّيه العبودية من ضعف الحصانة الاجتماعية وضعف الإحساس بالكرامة ... وما كان من اللازم الخروج على ظواهر الآي المحكمات، والتعدي على حقوق الأرقاء، قياسا على هذه الجزئية التي جاءت لمصلحة الرقيق قبل أي شيء آخر" .
وهذا الكلام يوهم القارئ أنه لا جحة للفقهاء غير هذا القياس , وأنه هو أصل كل هذه المسائل , وليس الأمر كذلك فقد بينا فيما سبق أدلة الفقهاء القائلين بالتمييز بين الأحرار والأرقاء في بعض الأحكام وهذه الجزئية التي ذكرها الشيخ لم يقيسوا عليها إلا مسائل قريبة منها رأوا أنها تجتمع معها في أصل العلة الذي هو الرفق والتخفيف مثل مسألة تشطير حد القذف والسكر ومسألة تشطير عدة الأمة وجعلها على النصف عدة الحرة ... وأما بقية الأحكام الأخرى فهي ثابتة بأدلة منفصلة كما أوضحناه ولا صلة لها بهذه الجزئية إطلاقا .

إثبات حق الملكية للرقيق في المذهب المالكي

ومن المسائل التي أثارها الشيخ أيضا قضية حق الرقيق في الملكية , وقد افتات فيها على المالكية ونسب لهم خلاف مذهبهم وحاسبهم على ما لم يقولوه ومما قاله في هذا السياق :
" وفي الصراع بين مفهوم الملكية المطلقة التي لا تدع للعبد هامش تصرف في نفسه وماله، والملكية النسبية التي تترك له هامش تصرف ينفق منه على نفسه وأسرته ... نحا الفقه المالكي منحى الملكية المطلقة. وقد تحدث القرطبي عن رأي المالكية في هذا باعتزاز، فقال: "ولعلمائنا النكتة العظمى في أن مالكية العبد استغرقتها مالكية السيد" (تفسير القرطبي 2/241). وهكذا جرد فقهاؤنا العبد من حق تملك المال، رغم أن أكثرهم ألزموه بالإنفاق على زوجته وإكسائها ...".
هذا كلام الشيخ الكريم وفيه ملاحظتان :
1- ما ذكره من أن المالكية جردوا الرقيق من حق ملكية المال ليس بصحيح فالمعروف من مذهب مالك أن الرقيق يملك المال ملكا ناقصا وقد تحدث عن ذلك القرطبي فقال :
" قال أهل العراق: الرق ينافي الملك، فلا يملك شيئا البتة بحال... ومنهم (العلماء ) من قال: يملك إلا أنه ناقص الملك... وهو قول مالك ومن اتبعه، ... وأدل دليل لنا قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ} [الروم: 40] فسوى بين العبد والحر في الرزق والخلق. وقال عليه السلام: "من أعتق عبدا وله مال... " فأضاف المال إليه. " (تفسير القرطبي 10\147).
فظهر بهذا غلط هذه الدعوى وأن المالكية يثبتون للعبد حق الملكية . وأما كلام القرطبي الذي قال فيه إن مالكية العبد استغرقتها مالكية السيد فلا صلة له بهذا الموضوع لأنه ورارد في سياق آخر يتعلق بجواز جبر السيد رقيقه على النكاح إذا رأى في ذلك مصلحة له وبالرجوع إلى كلام القرطبي يتضح ذلك فإنه قال :
" أكثر العلماء على أن للسيد أن يكره عبده وأمته على النكاح؛ وهو قول مالك وأبي حنيفة وغيرهما. قال مالك: ولا يجوز ذلك إذا كان ضررا وري نحوه عن الشافعي، ثم قال: ليس للسيد أن يكره العبد على النكاح." ثم ذكر القرطبي أدلة كلا المذهبين إلى أن قال : " ولعلمائنا النكتة العظمى في أن مالكية العبد استغرقتها مالكية السيد؛ ولذلك لا يتزوج إلا بإذنه بإجماع. والنكاح وبابه إنما هو من المصالح، ومصلحة العبد موكولة إلى السيد، هو يراها ويقيمها للعبد" (تفسير القرطبي 12\240-241).
فظهر بهذا أن الشيخ الكريم قد تصرف في كلام القرطبي واقتطعه من سياقه ووظفه في أمر آخر لا صلة له به البتة ومن هنا جاء الخطأ ! .
2- أن الشيخ الكريم ذكر أن المالكية أو أكثرهم أوجبوا على الرقيق نفقة زوجته مع أنهم سلبوه حق تملك المال , وليس هذا كما قال , فإن فقهاء المالكية إنما أوجبوا على العبد نفقة زوجته نظرا لإقرارهم له حق التملك قال البرادعي : " ونفقة زوجة العبد في ماله إن كان له مال " (تهذيب المدونة 1\333) وأما الشافعية فقد جعلوا نفقتها في كسبه إن كان له كسب فإن لم يكن له كسب فعلى سيده بناء على أصلهم في أنه لا يملك ( روضة الطالبين للنووي 2\ و297 9\ 81), فظهر بهذا أن ما ذكره الشيخ معاكس للواقع تماما .
مع أن الذي استقر عليه العمل عند المالكية في المغرب العربي أن نفقة زوجة العبد على سيده قال التسولي بعد ما ذكر عن خليل أن نفقة زوجة الرقيق في كسبه إن جرى بذلك عرف :
" والعرف عند الناس اليوم على ما شهدناه أن نفقة زوجته وكسوتها حرة كانت أو أمة في خراجه وكسبه إذ عادتهم أن العبد يصرف همته في خدمة سيده وسيده يجري النفقة عليه وعلى زوجته " ( التسولي البهجة في شرح التحفة 1: 601).

ولاية السيد على الرقيق تنظيم إجرائي لا يمس الحقوق الأساسية

ومن المسائل التي انتقد فيها الشيخ الكريم الفقهاء مسألة ولاية السيد على الرقيق فيما يتعلق بالنكاح وقد أ طال الشيخ فيها الكلام واتهم الفقهاء بأنهم وقفوا مع السيد ضد الرقيق واقتطع بعض النصوص من سياقها مثل مار أينا سابقا , مع أن هذه المسألة ثابتة بالحديث الصحيح وليست من اجتهاد الفقهاء فعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أيما عبد تزوج بغير إذن سيده فهو عاص " - أو كما قال صلى الله عليه وسلم - أخرجه أبو داود ( 2078 ) والترمذي ( 1 / 207 ) وحسنه الألباني في إرواء الغليل 6\352) وصححه في (صحيح الجامع حديث : 2731 ) وروي أيضا عن ابن عمر مرفوعا أخرجه أبو داود ( 2079 ).
إن ولاية السيد على الرقيق في النكاح وكونه لا يتزوج إلا بإذنه أمر إجرائي وتجسيد لعلاقة السيد بعبده وليس من شانه أن يكون عائقا دون تحقيق مآرب الرقيق خاصة وأن كثيرا من العلماء يوجب على السيد تزويج عبده إذا كان متضررا من عدم وقد بين ذلك الإمام القرطبي فقال :
"والنكاح وبابه إنما هو من المصالح، ومصلحة العبد موكولة إلى السيد هو يراها ويقيمها" (تفسير القرطبي 12/241).
وهناك مسألة أخرى أطال فيها الشيخ الكريم الكلام وهي مسألة تشيء الرقيق واعتباره من طرف الفقهاء شيئا ومالا من الأموال ... إلى تلك العبارات ’ وذلك كله تهويل وتشنيع ليس في محله , فالفقهاء مجمعون على كرامة الرقيق واعتباره إنسانا مكلفا وهم منحازون دائما للعتق وحفظ حقوق الرقيق وهذه العبارة إنما وردت في سياق آخر , ذلك أن الرقيق في النظام العالمي القديم كان معرضا دائما للبيع والإرث والهبة والتقويم وغيرها من أمور التي فرع عن العبودية او جزء من مفهومها وهي أمور يشترك فيها مع بقية أصناف المال الأخرى , لذلك فلا غضاضة في هذه العبارات ولا حرج فيها إذا فهمت في سياقها الطبيعي .
وأما اتهام الشيخ للفقه بأنه لا يعرف سبيلا على تعميم الحقوق فهو اتهام باطل ليس عليه من دليل , والحق أن الفقه الإسلامي مبني على إيتاء كل ذي حق حقه , ولكن في إطار الآليات والوسائل المتوفرة في العالم القديم ,ولقد أعجبني كلام لأحد علماء أصول الفقه من الحنفية وهو عبد العزيز بن أحمد البخاري (ت 730) يدخل في هذا الإطار حيث أسس فيه لنظرية " حقوق الرقيق " تأسيسا علميا بديعا يراعي حقه في الحياة وفي متطلبات العيش الكريم وبين أن الرق لا ينتقص من حقوقه ولا يسلبه إنسانيته وهذا نص المراد منه :

" وَالرِّقُّ لَا يُنَافِي مَالِكِيَّةَ غَيْرِ الْمَالِ وَهُوَ النِّكَاحُ وَالدَّمُ وَالْحَيَاةُ لِأَنَّ الْجِهَةَ مُخْتَلِفَةٌ فَإِنَّ الْعَبْدَ لَمْ يَصِرْ بِالرِّقِّ مَمْلُوكًا مِنْ حَيْثُ النِّكَاحُ وَالدَّمُ وَالْحَيَاةُ فَلَمْ يَمْتَنِعْ مَالِكِيَّتُهُ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِهِ وَكَانَ فِي حَقِّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُبْقِى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ لِأَنَّهُ مِنْ خَوَاصِّ الْإِنْسَانِيَّةِ وَالضَّرُورَةُ دَاعِيَةٌ إلَى إثْبَاتِ هَذِهِ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا لِأَنَّ الْعَبْدَ مَعَ صِفَةِ الرِّقِّ أَهْلٌ لِلْحَاجَةِ إلَى النِّكَاحِ وَإِلَى الْبَقَاءِ فَيَكُونُ أَهْلًا لِقَضَائِهَا ...
وَإِنَّمَا تَوَقَّفَ نَفَاذُهُ ( أي النكاح ) مِنْهُ عَلَى إذْنِ الْمَوْلَى دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ فَإِنَّ النِّكَاحَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْمَهْرِ وَفِي إيجَابِهِ بِدُونِ رِضَاءِ الْمَوْلَى إضْرَارٌ بِهِ ... وَكَذَا الدَّمُ وَالْحَيَاةُ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى الْبَقَاءِ وَلَا بَقَاءَ لَهُ إلَّا بِبَقَائِهِمَا فَثَبَتَ لَهُ مِلْكُ الدَّمِ وَالْحَيَاةِ كَمَا يَثْبُتُ مَالِكِيَّةُ النِّكَاحِ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى إتْلَافَ دَمِهِ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ فِيهِ " ( عبد العزيز البخاري: كشف الأسرار على أصول البزدوي : 4\ 288).
وهذا كلام جميل واعتراف بحق الرقيق في الحياة الكريمة واعتبار ولاية السيد عليه أمرا إجرائيا مشروعا للمصلحة وهو صريح في تبرئة الفقهاء من تهمة إزدراء الرقيق وعدم تعميم الحقوق ودليل على وعيهم بحقوق الأرقاء وفهمهم لنسبية الاسترقاق والله الموفق .

الرياضة

الثقافة والفن

وكالة أنباء الأخبار المستقلة © 2003-2025