تاريخ الإضافة : 07.06.2012 12:10

علمتـــني الشاشة

بقلم /  بديـه ولد محمدو ولد سالم

بقلم / بديـه ولد محمدو ولد سالم

علمتـــني الشاشة أسمى معاني المحبة والوفاء للشاشة..علمتني كيف أحبها من أعماقي، لأنها علمتني أن ألأحلام وردية، وأن وجهها الساحر كالشموع التي تنير دروب اليافعين واليافعات..أشتاق إليها بكرة وعشيا..تجوب ذاكرتي ذهابا وإيابا وأنا في حجرة الدرس كالباعة المتجولين في " نقطة ساخنة"، ولولا سماعات الهاتف المنغرسة في أذنيَ، لما تحملت تلك الساعات الطويلة التي أقضيها في المدرسة، ولولا الموسيقى التي تنساب خلسة من جيبي إلى أعماق جمجمتي، لما تحملت شرح المعلم الطويل الذي يتراءى أمامي وكأنه مقدم النشرة بلغة الإشارة..!



علمتني الشاشة أنها الأم الثانية، البديلة، اللطيفة، المرحة.. التي أترقب عودتي إليها دائما من المدرسة، لأتخلص من تلك المحفظة الجاثمة على كتفي، لأقضي ساعات لطيفة جميلة، أستمتع خلالها بهمس الكلمات، وسحر الابتسامات، وعذب الرقصات والاشهارات، والجديد في الملاعب والموضة والمغامرات، وما لذ وطاب من الأغاني والأفلام والمسلسلات...

علمتني الشاشة الكثير والكثير..علمتني لهجات متعددة، ومصطلحات متنوعة، وتقنيات حديثة متطورة .. عززت رصيدي من اللغة الفصحى، وفتحت عيوني على هذا الكون الفسيح، وحياته الصاخبة .. أدخلتني عالم الكبار، كشفت النقاب عن اهتماماتهم، ومشاعرهم، وعلاقاتهم العاطفية، ما ظهر منها وما بطن..!

علمتني الشاشة كيف أطير عاليا في سماء الخيال، أمعن في التحليق والطيران، لأكتشف عوالم جديدة من الخيال.. ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر...

علمتني الشاشة أن بعض أفراد الأسرة يؤجل صلاته إلى أن ينتهي المسلسل خشية أن تفوته اللقطة الأخيرة.. كما تعلمت أن الوالدين يسمحان بذلك.

علمتني الشاشة أن الله لطيف بي، ومن لطفه الواسع بي أنه لما أصبح أبي مهموما، وأمي مشغولة، سخر الله لي هذه الشاشة، محمولة في الجيوب، وعلى الأكتاف، ومقيمة في الخيام و"الكزرات" والمنازل والمكاتب، ومنتصبة في الشوارع والطرقات ..لتصبح والدي الثالث الذي يؤنسني، ويربيني، ويعلمني، ويسليني، يطيعني ولا يأمرني...

علمتني الشاشة أن الكون كتلة واحدة، وأن الهوية واحدة، وأن الذوق واحد، وأن قيم الشعوب تسير نحو التجانس .. وأن الجمال التي كنت أصنع من الطين، والأكواخ التـي كنـت أبنـي من الرمـــل والطـــــين، و"الأوزار" التي كانت تصنعها أختي الصغيرة.. كل هذه الألعاب وغيرها ذابت في الشاشة.. كما علمتني أيضا أن العالم مترابط ومتكامل، وأنه يسعى لتعميم نمط حضاري واحد، يرتكز على قيم العدل والحرية والتسامح والديمقراطية.. غير أنها علمتني كذلك أن الروابط الاجتماعية بدأت تلملم أوراقها استعدادا للرحيل نحو المتحف الوطني أو المجهول..!

علمتني الشاشة أن أصدقائي في "الكزرة" والرياض، وتفرغ زينة، ولوس أنجلوس، وشنكهاي، ومكة المكرمة، وكنكوصة، واسطنبول..كلهم أصدقاء، يتبادلون الرسائل، ويقومون بالدردشة عبر الفيسبوك Facebook وسكايب Skypeوغيرهما، ويمكن لأحدهم أن يشمت لصديقه إذا عطس، في الوقت الذي لا يسمعه من في الدار.. كما أنهم يتابعون سويا الدوري الإسباني والإنجليزي والإيطالي ..

لكن الشاشة علمتني أيضا أن التخلف عن المدرسة عادة مستحسنة إذا كان المبرر هــــــــــو التفرج على مباراة مهمة لكرة القدم، كلقاء برشلونة (برسا) مع اريال مدريد ونحو ذلك.

علمتني الشاشة أن الإنسان يمكن أن يكون بطلا شجاعا، وقائدا مغوارا، وزعيما محنكا.. ولكنه بدون هوية ولا مرجعية!

علمتني الشاشة أن صاحب الوجهين أو الثلاثة أو الأربعة.. بطل ذكي، وقدوة حسنة، وأن صاحب الوجه الواحد ضعيف، لا حول له ولا قوة.

علمتني الشاشة أن المرأة الصديقة لطيفة، أنيقة، رقيقة المشاعر.. وأن المرأة الأم فظة، لوامة، أمارة، مزعجة..

قالوا لي قارن بين الشاشة وأمك التي حملتك تسعة أشهر، وأرضعتك حولين كاملين. قلت لهم هذا صحيح، ولكن الشاشة حملتني منذ فطامي، تقوم بخدمتي، ولا تطلب مني أية خدمة.

علمتني الشاشة أن الكبار يتابعـــون ويستمتعون أحيانا ببعض المشاهد الغرامية، ويعلقون عليها ببعض العبارات المتعلقة بالعلاقات العاطفية.. لهذا أصبحت أعبر عن مشاعري بكل تلقائية إزاء هذه المشاهد ونحوها..!

علمتني الشاشة أن الحب سطحي، وأن الفتاة تحب الرجل انطلاقا من شكله وثروته، لا لأنه صاحب قضية نبيلة، أو شأن إنساني متميز. كما علمتني أن بعد كل تجربة حب فاشل تصاب الفتاة بالانهيار إلى حد التفكير بـ (...)


علمتني الشاشة أن أواكب الموضة بتقليد النجوم، كما أكسبتني ذوقا راسخا في الأزياء، والحلاقة والتجميل..حيث أصبح يروق لي انحدار البنطلون وتقعراته، كما أعشق حلاقة "دكراد" و "اكريست" و"ابلاك"، وأفضل أحيانا تدليك الشعر ب"جيل".

علمتني الشاشة السيرة الكاملة لنجوم الكرة اللامعين من أمثال " ميسي" و"كاكا" و"اكريستانو" و"رونالدو".. وأصحابهم الصاعدين المميزين، ومن تبعهم بامتياز من اللاعبين المحترفين إلى يوم الدين.. أما أخي الصغير الملقب بـ"مراد" فهو يفضل مشية "ميماتي"، لكنه يقلد "زازا" أحيانا في نبرته الصوتية، لكن أختي الكبيرة المعروفة عند أهل الكزرة بـ" ماريتشوي" تعتبر أرشيفا لحياة الممثلين الأتراك.

علمتني الشاشة أن تركيز أفراد الأسرة على متابعة المسلسل، يتسبب أحيانا في تفحم واحتراق وجبة الغداء أو العشاء.. ولهذا اقترحت على أمي أن تتعلم إعداد المقليات والوجبات السريعة.

علمتني الشاشة معنى التأثر والتأثير، لأقول لمن حولي من أفراد الأسرة:

أنا موجود، دعوني وشأني، أرجوكم دعوني وشأني في هذه الحياة..!

وأخيرا، علمتني الشاشة قراءة الطلاسم، وكيف أبكي لأمي من غير بكاء، وكيف أبتسم لأبي من غير ابتسام...!!

الجاليات

شكاوي

وكالة أنباء الأخبار المستقلة © 2003-2025