تاريخ الإضافة : 05.06.2012 11:57

مغالطات الشنقيطي

سيداحمد ولد سيدالخليل

سيداحمد ولد سيدالخليل


لست من هواة الكتابة في المواقع الإلكترونية لأسباب من أهما أن أغلب ما يكتب في هذه المواقع عادة ما يكون مقالات سياسية حزبية يتنابز أهلها بالألقاب ويغتاب بعضهم بعضا، يأكل أحدهم لحم أخيه حيا وميتا ... وأخيرا تكون الضحية هي الحقيقة والموضوعية. وهذا ألأمر لا يستهويني ولا أجد فيه ذاتي انطلاقا من تكويني ومن تربيتي...

أما الكتابات الفكرية أو العلمية التي يمكن أن أجد فيها ذاتي وتستميلني أكثر فهي من الندرة بمكان إن لم نقل منعدمة في تلك المواقع. لكن حادثة (محرقة الكتب الفقهية المالكية) البشعة والمدانة من الجميع باستثناء الأستاذ الشنقيطي ــ طبعا ــ الذي نصح أصحاب المحرقة بقراءة الكتب بدل حرقها ! هكذا ببرودة أعصاب زائدة ومن دون استهجان يقدم الصح "والإرشاد" لهؤلاء ويدعوهم للقراءة بدل الحرق وكأنها كتب مفكر أمريكي أو ألماني أو فرنسي، لا فرق...

هذه الحادثة وتسويغها فكريا من قبل الأستاذ الشنقيطي جعلتني أهم بالكتابة والرد انتصارا للحق، ودفاعا عن حملة الشريعة، وذلك بعد أن نشر موقع الأخبار المحترم مقالين بعنوان (قصة العبودية في كتب المالكية) للأستاذ المحترم محمد ولد المختار المملقب "الشنقيطي" ولم أكد أمتب بعض أسطر الرد حتى نشر الموقع نفسه مقالات لأساتذة محترمين يردون فيها على الشنقيطي ويؤنبونه فيها على ما اقترفت يداه، وخصوصا الأستاذ محمد الامين ولد المختار الذي رد عليه بلغة جميلة وأسلوب متماسك ومقنع، وكأنه تكلم على لساني، وقد يكون ذلك من باب توارد الخواطر.

هنا أحجمت عن الكتابة وقلت (وكفى الله المؤمنين القتال) إذ المقصود هو تبيين الحق وقد بينه الأساتذة في ردهم، لا الظهور الإعلامي، فلعل الأستاذ الشنقيطي بحكمته وتجربته وتواضعه يقرأ ما كتبه الأساتذة ويتبين له الحق، وينكشف له الخطأ فيرجع عما كتبه، أو على الأقل يمسك قلمه ويبتلع لسانه "عذرا عن العبارة" لأن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.

لكن شيئا من ذلك لم يقع لا التراجع ولا السكوت، بل أطل علينا بمحرقته الثلثة ــ عفوا تمقالته الثالثة ــ وهنا أضاف الأستاذ إلى ضحاياه الحافظ ابن عبد البر والإمام القرطبي، وكأنه يقول لأصحاب المحرقة لقد نسيتم من الحرق مجموعة من (الفقهاء المالكية) الانتهازيين الذين يلتفون على النصوص ويميعونها، وهؤلاء هم الحافظ ابن عبد البر صاحب "التمهيد لما في الموطأ من الأسانيد" و"الاستذكار" و"الاستيعاب في معرفة الأصحاب" وغيرها من الكتب العظام الفي تزخر بها المكتبات ومفخر بها الأمة الإسلامية، والإمام القرطبي صاحب التفسير الكبير "الجامع لأحكام القرآن" وكتاب "الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى" وكتابه الذي ننصح الأستاذ ــ إذا كان لنا أن ننصحه ــ بقراءته وهو كتابه العظيم "التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة" وغيرها من المؤلفات المفيدة والممتعة.

هنا أجمعت أمري إذ نفد صبري، وأيقنت أن الأمر أصبح ينحو منحى العناد والتعنت، ويطغى عليه البطر وتضخم الذات، فقد بدا لي أن الأستاذ يرى أن الذين ردوا عليه مجرد مغامرين ليس لهم من الشهرة مثل شهرته ولا من الصيت مثل صيته، لذلك أطل بمقالته الثالثة إمعانا في التجاهل، وتماديا في التحامل وإيغالا في الباطل واتلتهجم على ورثة الأنبياء. لهذا كله قررت أن أنضاف إلى هؤلاء "المغامرين" لأمشف بعض المغالطات الواردة في تلك المقالات.

ــ البداية

ما إن خمدت نار برام التي أشعلها في بعض مصادر الفقه المالكي وكتب أجلاء علماء المذهب حتى اشتعلت نار أخرى أخطر من نار برام وأبعد أثرا لأنها ــ ببساطة ــ أشعلت هذه المرة من قبل عاقل، مفكر! وليست من قبل جاهل بأحكام الشرع، متهور في السياسة كبرام.

إنها نار التبرير والتسويغ التي أشعلها الأستاذ الشنقيطي بكتاباته المسوغة والمبررة لتلك المحرقة الدنيئة والمستهجنة، تلك الكتابات التي كانت خطأ في شكلها ومضمونها في زمانها وسياقها، وحتى لا أطيل على القارئ أبدي تعض المغالطات التي تضمنتها تلك الكتابات:

ــ المغالطة الأولى: (قصة العبودية في كتب المالكية)
لقد بدأت مغالطات الأستاذ مبكرا ومن خلال عنوانه "قصة العبودية في كتب المالكية" فأي شخص بريء سمع هذا العنوان سيتوقع أن هناك قصة للرق الموريتاني ــ لاحظ السياق ــ في كتب المالكية، وسينتظر بلا ريب أن يسمع عبارات من شيوخ المالكية من قبيل (قال مالك الرق في موريتانيا شرعي) أو قال ابن القاسم وسحنون (لا بأس باستعباد الناس في موريتانيا) أو قال خليل (وإن استعبد محررا في موريتانيا ففيه قولان).

لكن ما إن تترك العنوان وتقرأ ما كتب تحته حتى ترى الرجل يهيم في واد آخر، أما العنوان فقد كان للإثارة والتشويق و"السويغ" حتى نقرأ ــ وتحت الإكراه المعنوي ــ ما كتبه مفكرنا الكبير !

كتب المالكية التي أحرقت لا تعرف موريتانيا ولا تتحدث عنها، ولو سئلت عن حالة الاسترقاق هنا لأفتت بعدم جوازه لا تحت الإكراه والتأثر بالحضارة الغربية بل بناء على النصوص ومقاصد الشرع.

ثم إن الأستاذ لم يكن وفيا حتى لعنوانه الموغل في الإيهام والمغالطة، فبينما يمحدث العنوان عن المالكية فقط ترى ما كتب تحت العنواو يضيف إليهم الحنفية والشافعية والحنابلة وحتى بعض الصحابة،ذلك أن الحقيقة المرة بالسبة للأساذ، والتي يبدو أنه نسيها عند صياغته للعنوان أن ما هو في كتب المالكية تلقوه عن بعض الضحابة واتفق عليه معهم بقية المذاهب من حنفية وشافعية وحنبلية.

أما كان الأجدر بالأستاذ ــ منهجيا على الأقل ــ أن ينسجم مع العنوان ويكتب عن المالكية وحدهم، ثم في الحلقة القادمة يكتب عن "قصة العبودية في أقوال الصحابة" ثم "قصة العبودية في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم" ثم " قصة العبودية في القرآن ((الحر بالحر والعبد بالعبد ...)) " وتتم إدانة الجميع ونستريح ويرضى الغرب عنا !

ــ المغالطة الثانية: اتهامه للفقهاء ب"الالتفاف على نصوص الوحي وتمييعها"

قبل مناقشتي لمضمون هذه المغالطة ننبه الأستاذ إلى أن هذا النوع من المصطلحات "التمييع، الالتفاف" ينبغي ادخاره لبرنامج (الاتجاه المعاكس) أو (في العمق) على شاشة الجزيرة، أو على الأقل يقابل به الخصوم السياسيين في المقالات المنشورة في الصحف أو المواقع الإلكترونية، أو مباشرة وجها لوجه، أما استعماله في مناقشة فقهاء الأمة ومفسريها فأقل ما يقال عنه إنه سوء أدب وتجن ومجازفة، هذا من ناحية وقاحة التعبير (الشكل) أما المضمون فأين التف فقهاء المالكية على النصوص وأين ميعوها؟

هنا يقدم الأستاذ دليلا لهذا التجني الخطير يتمثل في تعامل الفقهاء مع آية المتابة وهي قوله تعالى: ((فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا )) ويأتي الأستاذ هنا بالحطاب ممثلا للرأي المالكي ! وهنا تبلغ المعالطة أوجها وتحبك مسرحية تاريخية سيئة الصيت والإخراج لتقوم عملية تبرير المحرقة على ساقها.

وهنا نسأل الأستاذ سؤالين بسيطين:

أــ ما معنى الإتيان بالحطاب هنا؟ هل الحطاب مفسر حتى يؤخذ رأيه في تفسير الآية؟ وهل ما قاله الحطاب مخالف لما قاله الشافعي وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل حتى ينست هذا الرأي إلى الحطاب المالكي؟ ما معنى هذا الانتقاء إذن؟

لتذكير القراء فإن الحطاب من الكتب التي طالتها محرقة برام، وكأن الأستاذ يؤصل لبرام ما فعله بهذا الكتاب، ويقول له هو يستحق ذلك، وها هي إدانته من خلال ما كتبه، وإلا فما معنى اختيار الحطاب؟ أليس في المالكية مفسرون؟

ما قاله الحطاب لا يختلف عما قاله ابن العربي المالكي في تفسيره "أحكام القرآن" والقرطبي في تفسيره... والطبري وغيره من المفسرين من جميع المذاهب، فإقحام الحطاب هنا إن لم يكن تزكية لمحرقة بيرام فهولغز إذن .

بقي أن نذكر بأن ما يسميه الاستاذ "التفافا وتمييعا" هو منهج أصولي متبع من جميع الفقهاء من لدن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الى عصرنا هذا ، باستثناء الظاهرية طبعا.

هذا المنهج الأصولي الذي وجدت بذوره الاولى عند الصحابة ، وجهد الامام الشافعي في إبرازه و تنقيحه عن طريق تاليفه لكتابه العظيم "الرسالة" وتابعه على ذلك علماء المسلمين من جميع المذاهب ، فألفوا في اصول الفقه كتبا عظيمة أوضحوا فيها قواعد التفسير ومناهج الاستنباط التي تمنع العقل المسلم من الإنحراف ، والقول في كتاب الله بالرأي والتخمين ، هذه المناهج والقواعد التي من ضمنها "هل الأمر يحمل على الوجوب ام لا....؟" في تفصيل لا يسمح المقام بذكره ، هذا الجهد العظيم يشطبه الاستاذ بجرة قلم ويسميه "التفافا وتمييعا" .

من مغالطات الأستاذ هنا أنه يأتي بالآية القرآنية ، مثلا آية "الكتابة" ويقول "هذا أمر واضح وصريح" متجاهلا هذا المنهج الذي أشرنا اليه ، واصفا له "بالالتفاف والتمييع" .

وهنا يسمح لي الاستاذ محمدالأمين ولد المختار أن أستعير منه مصطلحه الذي استعمله في الرد على الاستاذ الشنقيطي ، وهو "الإلزام" وهو مصطلح قديم يستعمل عادة في الجدل لإفحام المخالف وتعنيته ،وإلزامه بما لم يصرح به لكن قوله يقتضيه ، وإليه إشارة بقول الناظم :

هل لازم القول يعد قولا .

وفي هذه النقطة بالذات استعمل مع الاستاذ الشنقيطي هذا الاسلوب ، فأقول له قال الله تعالى (فقتلوا المشركين حيث وجدتموهم )وهذا "امر واضح وصريح " كما يكرر الاستاذ حين يسوق الايات التي يستدل بها ، وبما أن الأستاذ كان مقيما في تكساس بالولايات المتحدة الامريكية ، ولاشك ان المشركين كانوا يمرون عليه صباحا ومساءا ، هل قتل أحدا منهم ؟ إمتثالا لهذا الامر القرآني "الواضح والصريح "!

لو أخدنا بمنطق الاستاذ -الظاهري - لكان طيلة إقامته بالولايات المتحدة الامريكية آثم وعاص لله تعالى بمخالفته للأمر القرآني " الواضح والصريح" لكن لو أخذنا بالمنهج الأصولي الذي يسميه الأستاذ "التفافا وتمييعا " وهو المنهج الذي ينظر الى الآيات القرآنية في سياقها ، ويأخذها مجتمعة لامتفرقة ، مع النظر الى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وفهم السلف الصالح لهذه الآية ، لخرج الأستاذ من تبعات منطقه الخطير! وهنا أحيل الأستاذ إلى كلام رائع للإمام الشاطبي يقسم به الناس إلى قسمين : قسم يأخذ الدليل مأخذ الإفتقار ، وقسم يأخذ الدليل مأخذ الاستظهار ، ونتيجة ذلك تنظر في الموافقات هناك .

المغالطة الثالثة : إصرار الأستاذ على التفرقة بين الشريعة والفقه

وهو أمر كثر دعاته والمنظرين له في هذا العصر ، والغرض منه الإجهاز على الفقه " وتمييعه والالتفاف عليه " بإظهاره قسيما للشريعة بل ومناقضا لها ، حتى يسهل علينا انتقاده ،ولم لا حرقه!

ومن ثم نخرج للناس فقها جديدا يتواءم ومايراد منا .

وهنا أذكر الأستاذ بأن الفقه ليس قسيما للشريعة ولامضادا لها ، الفقه تطبيق عملي لنصوص الوحي وإجتهاد على ضوءه ولهذا عرفه علماء الأصول فقالوا إن الفقه هو "العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية "، وقد عوّل الله سبحانه وتعالى على استنباط الفقهاء- المنتجين للفقه- من نصوص الوحي وأعطاهم الإذن في ذلك قائلا (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) فأمر بالرد إلى الرسول وإلى أولي الأمر وهم العلماء المستنبطون لأحكام الشريعة من نصوص الوحي .

فالفقه الإستنباطي إنتاج بشري ، لكنه مبني على نصوص مقدسة ، ومن هنا أخذ مكانته ، وهو في عمومه إما نصوص قرآنية وأحاديث نبوية ،وإما مستنبط منهما ، هذه حقيقة الفقه التي لايخرج عنها.

نعم يجوز أن تكون بعض اجتهادات الفقهاء خطأ ، ومن عظيم رحمة الله تعالى وجزيل فضله أنهم يثابون على ذلك كما جاء في الحديث "إذا اجتهد الحاكم وأصاب فله أجران وإذا اجتهد وأخطأ فله أجر" .

وهذه دعوة صريحة للفقهاء لأن يجتهدوا وينتجوا الفقه بوعدهم بالأجر في الحالين " الإصابة والخطأ ".
أما أن يكون ذلك مدخلا لاحتقار الفقه وعدم احترامه فتلك مغالطة كبيرة ، وقلب للحقائق وتسور على كلام العلماء ، وهذا التمويه والمغالطة شارك فيه أصحاب المحرقة أنفسهم ، فقد رفعوا لافتات كتبوا عليها " الله ربنا والرسول نبينا وبيرام قائدنا " لاحظ الإلتقاء.

وأخيرا ختم الأستاذ مقاله الثلث بكلام لابن الجوزي يعضد به هجومه على العلماء .

ورغم أن ابن الجوزي لم يصرح ولم يلوح في ذلك الكلام بأن الهجوم على العلماء أمر محمود فلا أدري أين موضع الدليل من ماساقه الأستاذ ، لكن وبما أن كلام "المميعين والملتفين على نصوص الوحي " لامناص من اللجوء اليهم حتى من طرف مفكرنا الكبير ، فليسمح لنا أن نشاركه في ذلك اللجوء وننقل كلام الإمام ابن الجوزي الإمام أحمد ابن حنبل وهو قوله "إذا رأيت الرجل يبغض مالكا فاعلم أنه مبتدع ،أو أخشى عليه البدعة" الاعتصام للشاطبي.

فالإمام أحمد هنا مقدس للأشخاص ينبغي أن نأخذ منه موقفا ، خصوصا الأشخاص الممجدين للرق كالإمام مالك !

وقد سئل الامام أحمد : الرجل يريد أن ينظر في الحديث والرأي ، حديث من ينظر، ورأي من ينظر، فقال "حديث مالك ورأي مالك " الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية ، وترتيب المدارك للقاضي عياض ، فالإمام أحمد هنا يحض الناس على قراءة فقه مالك ورأي مالك ، فينبغي أن نحرق كتبه في الحلقة القادمة ، لأنه يحث ويشجع على قراءة الفقه البشري" المميع لنصوص الوحي والملتف عليها " وهو أمر لايروق قطعا لمن زيفا ونفاقا شعار " الله ربنا والرسول نبينا وبيرام قائدنا" كما أنه لا يروق للاستاذ المشكك في الفقه المتهم له بالاستعباد والاسترقاق، وهنا نقطة الإلتقاء بين الأستاذ وأصحاب المحرقة.


الرياضة

الصحة

وكالة أنباء الأخبار المستقلة © 2003-2025