تاريخ الإضافة : 08.05.2012 12:01
نحو رؤية تؤسس للفقه الثوري
لقد عاني تراثنا الفقهي السياسي من تلاعب علماء البلاط بمصطلحاته ومفاهيمه حتى حولوه إلى  فقه للخنوع، فنزعوا منه روح الإيجابية، وشحنات الغيرة على حرمات الله، والانتصار للدين، حتى صار فقها مكبلا وعائقا أمام الإصلاح والتغيير بدل أن يكون ملهما ومرشدا للشعوب المسلمة  في طموحاتها وكفاحها ضد الاستبداد السياسي.
ولذ احتاجت المسألة إلى دراسة ونظر، وإعادة قراءة لبعض هذه المصطلحات في ضوء نصوص الشرع وكلام الفقهاء الثقات حتى تعيد إلى الفقه السياسي اعتباره، وحتى تتكشف الحقائق ويفضح زيف المبطلين، { لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ }.
وقد ارتأيت في هذه العجالة تسليط الضوء على المصطلحات التالية لأنها الأكثر شيوعا، ولأبلغ تأثيرا في الفقه السياسي:
• الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
تعتبر فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم الفرائض الإسلامية، إذ أنها المهمة الأولى التي بعث الله من أجلها الأنبياء والمرسلين، قال الله تعالى : {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ }.
فمهمة الأنبياء التي بعثوا من أجلها هي تقويم اعوجاج البشرية وسياستهم بالحق والعدل : { حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله }.
والمهمة ذاتها منوطة بأتباع الأنبياء، وهي ميزة الأمة الخاتمة الشاهدة على البشرية، قال تعالى: { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله }.
وقد أجمع علماء الأمة بكل مذاهبهم وطوائفهم على وجوب شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى إن "المعتزلة" اعتبروها إحدى أصول دعوتهم، و"المعتزلة" لهم أخطاء، واجتهادات شاذة، ولكن هذا من اجتهاداتهم الموفقة، وآراءهم المضيئة.
بيد أن هذه الفريضة العظيمة تعرضت - كغيرها من فرائض الإسلام الكبرى – للتشويه، فحصر البعض المنكر الذي يراد تغييره في منكرات جزئية، وتصرفات سلوكية تتعلق بحياة الأفراد، وتجاهلوا المنكرات الكبرى ( منكرات السلطان، وفواحشه ).
وقد وعى الشيخ القرضاوي هذا المعنى فقال: ( من الخطأ الظن بأن المنكر ينحصر في الزنا، وشرب الخمر وما في معناهما.
إن الاستهانة بكرامة الشعب: منكر أي منكر، وتزوير الانتخابات منكر أي منكر، والقعود عن الإدلاء بالشهادة في الانتخابات: منكر أي منكر لأنه كتمان للشهادة، وتوسيد لأمر إلى غير أهله منكر أي منكر، وسرقة المال العام: منكر أي منكر، واحتكار السلع التي يحتاج إليها الناس لصالح فرد أو فئة: منكر أي منكر، واعتقال الناس بغير جريمة حكم بها القضاء العادل: منكر أي منكر، وتعذيب الناس داخل السجون والمعتقلات: منكر أي منكر، ودفع الرشوة وقبولها والتوسط فيها: منكر أي منكر، وتملق الحكام بالباطل وإحراق البخور بين أيديهم، منكر أي منكر... ) .
• ولي الأمــــــر:
لقد عانى هذا المصطلح من التكييف والتطويع الفقهي حتى فقه حمولته القيمية، وأصبح كل من أغتصب السلطة وفرض نفسه على المسلمين يسمى بـ"ولي الأمر".
إن ولاية أمر المسلمين لها شروط وقيود، وليس كل من قفز على الحكم عن طريق الغلبة أو الوراثة يثبت له هذا المعنى بمفهومه الشرعي، فقد روى البخاري عن أبي هريرة أن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم متى الساعة؟ فقال: ( فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة)، قال: وكيف إضاعتها؟ قال: ( إذا وسد الأمر إلى غير أهله ...).
وهو نص صريح أن أمر المسلمين قد يؤول من لا تنطبق عليه هذه الشروط وليس هو من أهل هذا الشأن، وبالتالي فهو ليس ولي أمر بالمفهوم الشرعي، ذلك أن ولاية الأمر في المصطلح الشرعي هي ( خلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا به ) ، ومن شروطها العدالة والأمانة والكفاءة والعلم .
وهي شروط لعمر الله لا تتوفر في الرويبضات الذين فرضوا أنفسهم على الشعوب المسلمة بقوة الحديد والنار، وأخلاقهم وسلوكهم تفصح عن ذلك، وتكشف عن مدى عريهم من شروط ولاية الأمر.
ثم أن من شروط شرعية الحاكم إضافة إلى ذلك أن يكون اختياره نابعا من إرادة الأمة لا من الغلبة، والفقهاء القدامى حينما أقروا بإمامة المتغلب لم يكن ذلك منهم إلا رضوخا لأمر واقع، ولم يقل أيا منهم أن المتغلب ولي أمر بالمفهوم الشرعي الذي جاءت به النصوص.
• الطاعــــــــــــة:
يستدل كثير من علماء البلاط على وجوب طاعة الحكام الظلمة بالآية الكريمة {يأيها الذين أمنوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُم}، وهو استدلال في غير محله – كما يقول الشيخ القرضاوي -، إذ أن ولي الأمر إنما تثبت له الطاعة إذا ما تحقق هو بطاعة الله وطاعة رسوله، وقام بتنفيذ الشرع، وما تم الاتفاق عليه بينه وبين شعبه، أما إذا عطل شرع الله وأخلف الوعود ونقض العهود وأكثر الفساد والإفساد، فأنى له أن يطلب طاعة الناس!!.
وتمام الآية، وهو قوله سبحانه: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا }[النساء59]، يقضي بأن الشعب إذا كان في نزاع مع حاكمه، فإن الفيصل في هذا النزاع هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثم إن ولي الأمر الذي تجب له الطاعة ينبغي أن يكون من المؤمنين الملتزمين بعقد الإيمان وموجباته: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}، والطاعة المذكورة في الآية قد قيدتها النصوص الأخرى بالطاعة في المعروف، بل قال الله تعالى في بيعة النساء لرسوله صلى الله عليه وسلم: {ولا يعصينك في معروف}[الممتحنة:12] .
والحاكم الذي ينشر الظلم وينهب المال، ويهمل الشعب، ويزور الانتخابات ويقرب الناس على أساس الولاء لشخصه، ليست له طاعة، فقد تواترت النصوص القرآنية تنهى عن طاعة المسرفين والمفسدين والغافلين والكافرين والمنافقين يقول الله عز وجل: {ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون}[ الشعراء : 151-152]، ويقول تبارك وتعالى: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا}[ الكهف : 28 ]، ويقول عز وجل: {ولا تطع الكافرين والمنافقين}[ الأحزاب : 1]، ويقول تبارك وتعالى: {ولا تطع منهم آثما أو كفورا}[ الإنسان :24 ]
• الخروج على الحاكم:
وما أكثر ما دندن علماء البلاط حول مصطلح "الخروج على السلطان" ليشوشوا به على النشاط السلمي من أجل تغيير منكر السلطان. والخروج الذي عناه الفقهاء إنما هو حمل السيف على ولي الأمر الذي نصبته الشريعة، أما المظاهرات والاحتجاجات والاعتصامات وتبين منكرات السلطان فلم يقل أي من الفقهاء أنها تدخل في الخروج على السلطان، بل هي أقرب إلى تغيير المنكر السياسي والنصح لولاة المسلمين، وقد ورد في صحيح مسلم (205)عن تميم الداري أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال « الدين النصيحة » قلنا لمن قال « لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ».
وفي حالة ما إذا لجأ الحاكم المستبد إلى استخدام القوة واستعمل سطوته في قمع الاحتجاجات، فإن (المنطق يوجب منح المستضعف حقه في المنازعة والثورة على الحاكم المعتدي الذي تجاوز حدود عقد تفويضه بممارسة الحكم سواء بسواء..!)
( وكان من السلف أقوام يرون السيف، منهم المحدث الحسن بن صالح بن حي الكوفي، فضعفه البعض من أجل ذلك، فاعترض ابن حجر اعتراضا قويا، وقال: "قولهم: كان يرى السيف، يعني: كان يرى الخروج بالسيف على أئمة الجور، وهذا مذهب للسلف قديم..) .
وأما الاستدلال بحديث "إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان"، فالجواب عليه أن الكفر في نصوص الشرع قد يرد بمعنى المعصية، وقد فسر بعض كبار العلماء لفظ الكفر هنا بمعنى المعصية، قال الإمام النووي رحمه الله: (المراد بالكفر هنا المعصية، ومعنى الحديث: لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منكرا محققا تعلمونه من قواعد الإسلام فإذا رأيتم ذلك فأنكروا عليهم وقولوا بالحق حيثما كنتم ) .
( وسيبقي صواب العمل بهذا الرأس مشروطًا بشروط الموازنة المصلحية، وشأن كل واجب شرعي أن يوزن بهذا الميزان، فتسد الذرائع عند نشوء فساد مقترن بتنفيذ أمر واجب أو مندوب، وتحتمل عند ذاك المفسدة اليسيرة لدرء المفسدة الكبيرة، وأما تقويم ظلم الفاجر بفتوى العدول، وحيثما لا يقترن بمفسدة أكبر، فهو المذهب السلفي الأول المستفاد من مجموع الآيات والأحاديث، والقديم على قدمه، ما لم تصرفه الصوارف، ولا حاجة لتكلف التفتيش عن كفر من لا يحكم بما أنزل الله، بل شيوع ظلمه وتفريطه يكفي لتوليد القناعة بضرورة التغيير، عند المقدرة، دون تهور وإن كان لا يزال له موضع قدم جانبي في أرض الإسلام الواسعة ولم يقف في أرض الكفر ) .
• الفـــتنــــــــــــة:
ثم يلوذ علماء البلاط من أجل التشويش على قافلة الخير بمصطلح "الفتنة" واصفين الاحتجاج السلمي والمطالبة برحيل النظام بأنه من الفتنة التي تؤدي إلى الخراب. والصحيح أن الفتنة في النصوص الشرعية تطلق على عدة معان هي في أغلبها تدور حول منكرات السلطان، ومن هذه المعاني:
- مصادرة عقائد الناس وقناعاتهم واضطهادهم في دينهم، وفرض عقائد ومبادئ وتوجهات أخرى عليهم، وهذا هو الأساس الذي قامت عليه الأنظمة المستبدة، (والقرآن يعتبر هذه الفتنة للناس: أشد من القتل، وأكبر من القتل، لأن القتل يتلف الجسم، والفتنة تتلف العقل والإرادة، وهما حقيقة الإنسان. ولذا رد القرآن على المشركين الذين أعظموا القتال في الشهر الحرام، وقد وقع خطأ من بعض المسلمين، وهونوا من صدهم عن سبيل الله، وإخراج الناس من ديارهم وفتنتهم في دينهم، فقال تعالى : {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}[البقرة:217] ) .
- ومن معاني الفتنة في المصطلح الشرعي الرجوع عن الحق خشية حاكم مستبد، أو خوفا من بطشه، يقول الله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ }[الحج: 11]
- ومن معانيها أيضا بيع الدين بالعرض الزائل، والتراجع عن المبادئ والقيم رغبة في وزارة أو في منزل أو سيارة، روى مسلم(328) عن أبى هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال «بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسى كافرا أو يمسى مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا ».
- ومن معانيها التخاذل والقعود عن نصرة الحق، قال تعالى: {ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين }، وقد نزلت الآية في الجد بن قيس وذلك حينما تعذر بالأعذار الواهية من أجل التخلف عن موكب الحق، والقعود عن الجهاد.
- ولسنا ننكر أنه إذا قامت احتجاجات ومظاهرات تريد تغيير منكر السلطان، قد يستغلها بعض للصوص لينهبوا ويسرقوا ويعتدوا، وأن من أنواع الفتنة الهرج والمرج الذي يكون في آخر الزمان – كما ورد في الحديث - ولكن الذين يوردون هذا المعنى يتجاهلون المعاني التي ذكرناها آنفا، ويتجاهلون كذلك أن النهب الذي يحدث في المظاهرات يوازيه نهب لأموال الشعب من طرف المستبد وأعوانه، ويتجاهلون الصفقات الخاسرة التي يعقدها المستبد والتي تجعل الوطن عرضة للنهب من قبل الأجنبي.
فإذا ما استحضرنا كل هذه المعاني فإنه يتبين لنا بأن الموازنة المصلحية تقضي بأن نصبر على هذا النهب والتخريب الجزئي من أجل القضاء على النهب الكبير والفتنة الحقيقة التي تتجلى في منكرات السلطان ومصادرته لحرية الناس، وقمعه للاحتجاجات المنددة بمنكره، وتبديده لثروات البلد، وتلاعبه بأمنه وبمؤسساته الدستورية وتعطيله لشرع لله.
وبعد.. فهذه مجرد إثارة للموضوع أردنا منها أن تساهم في نشر الوعي وترشيد مسار التغيير، وتفنيد بعض الشبه التي يثيرها المرجفون والمخذلون، ودحض الحجج التي يسوقها علماء البلاط. ولله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر لله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- القرضاوي، من فقه الدولة في الإسلام/93
- الماوردي، الأحكام السلطانية/ 3
- الماوردي، الأحكام السلطانية/ 4 - 5
- القرضاوي، تعقيب على علماء اليمن في تحريم الخروج على السلطان – موقع القرضاويqerdawi.net
- الشيخ محمد الأمين بن مزيد، براءة الدين من عجز المتدينين الحلقة الثانية – موقع البشير albechir.net
- الراشد، تنظير التغيير/46
- الراشد، المسار/441
- الشوكاني، نيل الأوطار (7/175)
- الراشد، المسار/442
- القرضاوي، الصحوة الإسلامية من المراهقة إلى الرشد /302
					
				ولذ احتاجت المسألة إلى دراسة ونظر، وإعادة قراءة لبعض هذه المصطلحات في ضوء نصوص الشرع وكلام الفقهاء الثقات حتى تعيد إلى الفقه السياسي اعتباره، وحتى تتكشف الحقائق ويفضح زيف المبطلين، { لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ }.
وقد ارتأيت في هذه العجالة تسليط الضوء على المصطلحات التالية لأنها الأكثر شيوعا، ولأبلغ تأثيرا في الفقه السياسي:
• الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
تعتبر فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم الفرائض الإسلامية، إذ أنها المهمة الأولى التي بعث الله من أجلها الأنبياء والمرسلين، قال الله تعالى : {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ }.
فمهمة الأنبياء التي بعثوا من أجلها هي تقويم اعوجاج البشرية وسياستهم بالحق والعدل : { حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله }.
والمهمة ذاتها منوطة بأتباع الأنبياء، وهي ميزة الأمة الخاتمة الشاهدة على البشرية، قال تعالى: { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله }.
وقد أجمع علماء الأمة بكل مذاهبهم وطوائفهم على وجوب شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى إن "المعتزلة" اعتبروها إحدى أصول دعوتهم، و"المعتزلة" لهم أخطاء، واجتهادات شاذة، ولكن هذا من اجتهاداتهم الموفقة، وآراءهم المضيئة.
بيد أن هذه الفريضة العظيمة تعرضت - كغيرها من فرائض الإسلام الكبرى – للتشويه، فحصر البعض المنكر الذي يراد تغييره في منكرات جزئية، وتصرفات سلوكية تتعلق بحياة الأفراد، وتجاهلوا المنكرات الكبرى ( منكرات السلطان، وفواحشه ).
وقد وعى الشيخ القرضاوي هذا المعنى فقال: ( من الخطأ الظن بأن المنكر ينحصر في الزنا، وشرب الخمر وما في معناهما.
إن الاستهانة بكرامة الشعب: منكر أي منكر، وتزوير الانتخابات منكر أي منكر، والقعود عن الإدلاء بالشهادة في الانتخابات: منكر أي منكر لأنه كتمان للشهادة، وتوسيد لأمر إلى غير أهله منكر أي منكر، وسرقة المال العام: منكر أي منكر، واحتكار السلع التي يحتاج إليها الناس لصالح فرد أو فئة: منكر أي منكر، واعتقال الناس بغير جريمة حكم بها القضاء العادل: منكر أي منكر، وتعذيب الناس داخل السجون والمعتقلات: منكر أي منكر، ودفع الرشوة وقبولها والتوسط فيها: منكر أي منكر، وتملق الحكام بالباطل وإحراق البخور بين أيديهم، منكر أي منكر... ) .
• ولي الأمــــــر:
لقد عانى هذا المصطلح من التكييف والتطويع الفقهي حتى فقه حمولته القيمية، وأصبح كل من أغتصب السلطة وفرض نفسه على المسلمين يسمى بـ"ولي الأمر".
إن ولاية أمر المسلمين لها شروط وقيود، وليس كل من قفز على الحكم عن طريق الغلبة أو الوراثة يثبت له هذا المعنى بمفهومه الشرعي، فقد روى البخاري عن أبي هريرة أن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم متى الساعة؟ فقال: ( فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة)، قال: وكيف إضاعتها؟ قال: ( إذا وسد الأمر إلى غير أهله ...).
وهو نص صريح أن أمر المسلمين قد يؤول من لا تنطبق عليه هذه الشروط وليس هو من أهل هذا الشأن، وبالتالي فهو ليس ولي أمر بالمفهوم الشرعي، ذلك أن ولاية الأمر في المصطلح الشرعي هي ( خلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا به ) ، ومن شروطها العدالة والأمانة والكفاءة والعلم .
وهي شروط لعمر الله لا تتوفر في الرويبضات الذين فرضوا أنفسهم على الشعوب المسلمة بقوة الحديد والنار، وأخلاقهم وسلوكهم تفصح عن ذلك، وتكشف عن مدى عريهم من شروط ولاية الأمر.
ثم أن من شروط شرعية الحاكم إضافة إلى ذلك أن يكون اختياره نابعا من إرادة الأمة لا من الغلبة، والفقهاء القدامى حينما أقروا بإمامة المتغلب لم يكن ذلك منهم إلا رضوخا لأمر واقع، ولم يقل أيا منهم أن المتغلب ولي أمر بالمفهوم الشرعي الذي جاءت به النصوص.
• الطاعــــــــــــة:
يستدل كثير من علماء البلاط على وجوب طاعة الحكام الظلمة بالآية الكريمة {يأيها الذين أمنوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُم}، وهو استدلال في غير محله – كما يقول الشيخ القرضاوي -، إذ أن ولي الأمر إنما تثبت له الطاعة إذا ما تحقق هو بطاعة الله وطاعة رسوله، وقام بتنفيذ الشرع، وما تم الاتفاق عليه بينه وبين شعبه، أما إذا عطل شرع الله وأخلف الوعود ونقض العهود وأكثر الفساد والإفساد، فأنى له أن يطلب طاعة الناس!!.
وتمام الآية، وهو قوله سبحانه: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا }[النساء59]، يقضي بأن الشعب إذا كان في نزاع مع حاكمه، فإن الفيصل في هذا النزاع هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثم إن ولي الأمر الذي تجب له الطاعة ينبغي أن يكون من المؤمنين الملتزمين بعقد الإيمان وموجباته: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}، والطاعة المذكورة في الآية قد قيدتها النصوص الأخرى بالطاعة في المعروف، بل قال الله تعالى في بيعة النساء لرسوله صلى الله عليه وسلم: {ولا يعصينك في معروف}[الممتحنة:12] .
والحاكم الذي ينشر الظلم وينهب المال، ويهمل الشعب، ويزور الانتخابات ويقرب الناس على أساس الولاء لشخصه، ليست له طاعة، فقد تواترت النصوص القرآنية تنهى عن طاعة المسرفين والمفسدين والغافلين والكافرين والمنافقين يقول الله عز وجل: {ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون}[ الشعراء : 151-152]، ويقول تبارك وتعالى: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا}[ الكهف : 28 ]، ويقول عز وجل: {ولا تطع الكافرين والمنافقين}[ الأحزاب : 1]، ويقول تبارك وتعالى: {ولا تطع منهم آثما أو كفورا}[ الإنسان :24 ]
• الخروج على الحاكم:
وما أكثر ما دندن علماء البلاط حول مصطلح "الخروج على السلطان" ليشوشوا به على النشاط السلمي من أجل تغيير منكر السلطان. والخروج الذي عناه الفقهاء إنما هو حمل السيف على ولي الأمر الذي نصبته الشريعة، أما المظاهرات والاحتجاجات والاعتصامات وتبين منكرات السلطان فلم يقل أي من الفقهاء أنها تدخل في الخروج على السلطان، بل هي أقرب إلى تغيير المنكر السياسي والنصح لولاة المسلمين، وقد ورد في صحيح مسلم (205)عن تميم الداري أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال « الدين النصيحة » قلنا لمن قال « لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ».
وفي حالة ما إذا لجأ الحاكم المستبد إلى استخدام القوة واستعمل سطوته في قمع الاحتجاجات، فإن (المنطق يوجب منح المستضعف حقه في المنازعة والثورة على الحاكم المعتدي الذي تجاوز حدود عقد تفويضه بممارسة الحكم سواء بسواء..!)
( وكان من السلف أقوام يرون السيف، منهم المحدث الحسن بن صالح بن حي الكوفي، فضعفه البعض من أجل ذلك، فاعترض ابن حجر اعتراضا قويا، وقال: "قولهم: كان يرى السيف، يعني: كان يرى الخروج بالسيف على أئمة الجور، وهذا مذهب للسلف قديم..) .
وأما الاستدلال بحديث "إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان"، فالجواب عليه أن الكفر في نصوص الشرع قد يرد بمعنى المعصية، وقد فسر بعض كبار العلماء لفظ الكفر هنا بمعنى المعصية، قال الإمام النووي رحمه الله: (المراد بالكفر هنا المعصية، ومعنى الحديث: لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منكرا محققا تعلمونه من قواعد الإسلام فإذا رأيتم ذلك فأنكروا عليهم وقولوا بالحق حيثما كنتم ) .
( وسيبقي صواب العمل بهذا الرأس مشروطًا بشروط الموازنة المصلحية، وشأن كل واجب شرعي أن يوزن بهذا الميزان، فتسد الذرائع عند نشوء فساد مقترن بتنفيذ أمر واجب أو مندوب، وتحتمل عند ذاك المفسدة اليسيرة لدرء المفسدة الكبيرة، وأما تقويم ظلم الفاجر بفتوى العدول، وحيثما لا يقترن بمفسدة أكبر، فهو المذهب السلفي الأول المستفاد من مجموع الآيات والأحاديث، والقديم على قدمه، ما لم تصرفه الصوارف، ولا حاجة لتكلف التفتيش عن كفر من لا يحكم بما أنزل الله، بل شيوع ظلمه وتفريطه يكفي لتوليد القناعة بضرورة التغيير، عند المقدرة، دون تهور وإن كان لا يزال له موضع قدم جانبي في أرض الإسلام الواسعة ولم يقف في أرض الكفر ) .
• الفـــتنــــــــــــة:
ثم يلوذ علماء البلاط من أجل التشويش على قافلة الخير بمصطلح "الفتنة" واصفين الاحتجاج السلمي والمطالبة برحيل النظام بأنه من الفتنة التي تؤدي إلى الخراب. والصحيح أن الفتنة في النصوص الشرعية تطلق على عدة معان هي في أغلبها تدور حول منكرات السلطان، ومن هذه المعاني:
- مصادرة عقائد الناس وقناعاتهم واضطهادهم في دينهم، وفرض عقائد ومبادئ وتوجهات أخرى عليهم، وهذا هو الأساس الذي قامت عليه الأنظمة المستبدة، (والقرآن يعتبر هذه الفتنة للناس: أشد من القتل، وأكبر من القتل، لأن القتل يتلف الجسم، والفتنة تتلف العقل والإرادة، وهما حقيقة الإنسان. ولذا رد القرآن على المشركين الذين أعظموا القتال في الشهر الحرام، وقد وقع خطأ من بعض المسلمين، وهونوا من صدهم عن سبيل الله، وإخراج الناس من ديارهم وفتنتهم في دينهم، فقال تعالى : {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}[البقرة:217] ) .
- ومن معاني الفتنة في المصطلح الشرعي الرجوع عن الحق خشية حاكم مستبد، أو خوفا من بطشه، يقول الله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ }[الحج: 11]
- ومن معانيها أيضا بيع الدين بالعرض الزائل، والتراجع عن المبادئ والقيم رغبة في وزارة أو في منزل أو سيارة، روى مسلم(328) عن أبى هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال «بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسى كافرا أو يمسى مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا ».
- ومن معانيها التخاذل والقعود عن نصرة الحق، قال تعالى: {ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين }، وقد نزلت الآية في الجد بن قيس وذلك حينما تعذر بالأعذار الواهية من أجل التخلف عن موكب الحق، والقعود عن الجهاد.
- ولسنا ننكر أنه إذا قامت احتجاجات ومظاهرات تريد تغيير منكر السلطان، قد يستغلها بعض للصوص لينهبوا ويسرقوا ويعتدوا، وأن من أنواع الفتنة الهرج والمرج الذي يكون في آخر الزمان – كما ورد في الحديث - ولكن الذين يوردون هذا المعنى يتجاهلون المعاني التي ذكرناها آنفا، ويتجاهلون كذلك أن النهب الذي يحدث في المظاهرات يوازيه نهب لأموال الشعب من طرف المستبد وأعوانه، ويتجاهلون الصفقات الخاسرة التي يعقدها المستبد والتي تجعل الوطن عرضة للنهب من قبل الأجنبي.
فإذا ما استحضرنا كل هذه المعاني فإنه يتبين لنا بأن الموازنة المصلحية تقضي بأن نصبر على هذا النهب والتخريب الجزئي من أجل القضاء على النهب الكبير والفتنة الحقيقة التي تتجلى في منكرات السلطان ومصادرته لحرية الناس، وقمعه للاحتجاجات المنددة بمنكره، وتبديده لثروات البلد، وتلاعبه بأمنه وبمؤسساته الدستورية وتعطيله لشرع لله.
وبعد.. فهذه مجرد إثارة للموضوع أردنا منها أن تساهم في نشر الوعي وترشيد مسار التغيير، وتفنيد بعض الشبه التي يثيرها المرجفون والمخذلون، ودحض الحجج التي يسوقها علماء البلاط. ولله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر لله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- القرضاوي، من فقه الدولة في الإسلام/93
- الماوردي، الأحكام السلطانية/ 3
- الماوردي، الأحكام السلطانية/ 4 - 5
- القرضاوي، تعقيب على علماء اليمن في تحريم الخروج على السلطان – موقع القرضاويqerdawi.net
- الشيخ محمد الأمين بن مزيد، براءة الدين من عجز المتدينين الحلقة الثانية – موقع البشير albechir.net
- الراشد، تنظير التغيير/46
- الراشد، المسار/441
- الشوكاني، نيل الأوطار (7/175)
- الراشد، المسار/442
- القرضاوي، الصحوة الإسلامية من المراهقة إلى الرشد /302

 
            





