تاريخ الإضافة : 21.04.2012 23:07

في الذكرى الثامنة لوفاة الشيخ محمد ولد اج رحمه الله (2|2)

بقلم سيدي محمود ولد الصغير  Sidymhd@hotmail.com

بقلم سيدي محمود ولد الصغير Sidymhd@hotmail.com


بعد أن عرجنا على بعض الصفات العلمية المميزة لشخصية شيخنا ((طالبن )) رحمه الله شرعنا في الحديث عن صفاته العملية ؛ متوقفين – فيما سبق - عند صفتين بارزتين له ، هما : الاستمرار وطول النفس ، والعبادة الدائمة ، وما زال الحديث يُساق ضمن الصفة الثانية .

كثرة النوافل :

رغم جدوله اليومي المشحون بالتعليم والقيام بشئون الأسرة ورعاية الطلاب وخدمة الناس فقد كان يكثر من النوافل ويطيلها - وكان يخفف الفرائض - وأطول نوافله بعد التهجد صلاة الضحى التي لم يكن يتركها رحمه الله

السواك

وكان يستاك عند كل فريضة على الأقل ، لا يخل شيء بعادته تلك ، ويجعل مسواكه في مكان معروف شبه ثابت أو أمكنة متعددة بحيث يجده بسهولة عند طلبه أو يجده من يرسله إليه .

الأذان :

ولم يكن يترك الأذان في الغالب بل يؤذن لكل صلاة وهو الإمام الراتب وربما أذن بعده بعض الطلاب أو المصلين .

3- تنظيم الوقت :

وهو مفتاح من مفاتيح شخصيته رحمه الله فقد كان منظما تنظيما عجيبا وكانت أعماله اليومية تتم في أوقاتها المحددة ، فكان له منذ الاستيقاظ آخر الليل برنامج إلى صلاة الفجر ، وهو القيام ، ومتابعة الطلاب في قراءة ما يحفظون من القرآن ، يستمر كذالك حتى يصلي الفجر وينقشع الظلام فيأخذ الطلاب ألواحهم كل يقرأ لحاله وإذا أراد أحدهم أن يعرض درسا – كتبة - تقدم وأسمعه للشيخ ، وانتقل إلى درس آخر ، فإذا انتهى الطلاب من قراءة ألواحهم وعرضها شرعوا في كتابة دروسهم الجديدة بإملاء من الشيخ ، ثم يصححونها ، فإذا ارتفعت الشمس قيد رمح انتصب الشيخ قائما يصلي الضحى ، وفي العادة لا يتكلم فيما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس ، وإذا احتاج إلى أمر مهم أشار إليه بما يناسبه من ألفاظ القرآن الكريم ، وبعد صلاة الضحى وفراغ الطلاب من كتابة دروسهم يكون اليوم قد ارتفع فتبدأ مهمة الاستقاء للحي وتأخذ ساعات من الوقت ، وهي مهمة تدور على الطلاب تحت إشراف الشيخ ، وفي أثناء ذالك يستمر برنامج الطلاب ، هذا يصحح ، وذاك يعرض كتبته ، و آخر " يقدم " متنا معينا والشيخ يشرحه ، فإذا انتهت هذه المهمة عاد الشيخ إلى بيته متفرغا لتدريس الطلاب بحسب برنامج المحظرة المرن كل وما هو فيه ، فإذا كان قبل الظهر بساعة تقريبا أخذ الشيخ راحة ونام ، وكان يحرص على هذه القيلولة ، قبل أن يقوم لصلاة الظهر فيؤذن ثم تبدأ دورة المساء حيث يأخذ الطلاب ألواحهم يقرؤون ويسمِّعون (يعرضون ) وهكذا إلى أن يدخل وقت العصر ، وبعد العصر راحة لصغار التلاميذ ووقت تصحيح لألواح طلبة (السلكة ) حيث ينتقد الشيخ كتابتها ، إلى أن يقترب وقت المغرب فيعود جميع الطلبة للقراءة والتسميع ، ثم يصلي المغرب ويتنفل بعدها وغالبا ما يكون معه طالب يعرض في هذا الوقت وعموم الطلبة يقرؤون لحالهم فإذا صلى العشاء تنفل بعدها ثم يذهب الطلاب ، و يعود هو إلى بيته للراحة ، فإذا بقي من الليل ثلاث ساعات تقريبا استيقظ وبدأ يوم جديد .

وهذا نموذج تقريبي لليوم العادي الذي ليس فيه سفر ، ولا ضغط في المهمات والطوارئ ، وعادة ما يختار الشيخ أيام عطلة الأسبوع للأسفار اللازمة ، ولا يخلو فيها من طالب يعرض أو طلاب يتعاقبون ، وبالأخص ممن يكونون على وشك أخذ إجازة في القرآن العظيم .

4- ثراء الشخصية (مؤسسة في رجل )

لم يكن الشيخ رحمه الله مجرد عالم أو عابد فقط ، بل كان رغم زهده الكبير وورعه النادر صاحب شخصية اجتماعية قيادية بامتياز ؛ مطلعا على أحوال الناس وقضايا المجتمع مهتما بالمشاركة حريصا على الإسهام النوعي .

ومن يرى كيف كان يدير برنامجه اليومي في محظرته وحيِّه يعرف أنه كان مؤسسة في رجل فقد كان هو الذي يدرس الطلاب وينفق عليهم ، لا يُسأل أحد منهم عن شيء ، وينفق على الأسر المحتاجة من حيه ، بل هو من يوفر الماء لكل أسر الحي كل يوم من خلال طلابه تحت إشرافه المباشر وهو ينفق الوقت جيئة وذهابا وراء آلة السقي التي يحملها الطلاب حتى يقف قريبا من بيت الأسرة التي تفرغ لديها ، ثم يعود وهكذا ، دون أن يضيع شيءٌ من ذالك الوقت دون لوح يصحَّح أو طالب يعرٍض ، ثم هو يهتم بشئون الماشية ويتابعها حتى تسرح وتروح ، غير ناس عيادة المريض أو قِرى الضيف ، ويذهب إلى المدينة للامتيار وجلب النفقة ، ويسعى في الشفاعات ، ويقوم بالصلح في خصومات المجتمع .

ويحث على الصدقة ، وينادي بها بأعلى صوته من حيث يكون بعد طلوع الشمس فيقول (في ندائه ) : " باكروا بالصدقة يبارك لكم في المال والنفقة " ، " باكروا بها فإن البلاء لا يتعداها " فيبادر بها أهل الحي حسب الطاقة والإمكان ثم يقوم بتوزيعها في المحتاجين .

وهذه الأمثلة – وهي أمثلة فقط – كافية لندرك كيف كان الشيخ مؤسسة تقوم بمهمة التعليم ، وكفالة الطلاب ، ورعاية المحتاجين ، والسعي في حوائج الناس ومختلف وجوه البر .

5- مضاء العزيمة

أوتي الشيخ رحمه الله قوة إصرار نادرة فقد كان إذا عزم على أمر لا يكاد يصرفه عنه شيء ، ومن ذالك أنه حين قرر النزول بالموضع الذي استقر فيه إلى أن توفي رحمه الله تناهت إليه أخبار أن ذالك المكان ليس صالحا للسكنى لانعدام الماء ولملوحته الغالبة إن وجد ، لكنه كان قد اتخذ قرارا بحفر بئر عنده فواصل في حفرها فلم يعثر على ماء - بعد القيام بالحفر المعتاد في المنطقة - فواصل فلم يعثر على ماء ، فاستمرَّ إلى أن بلغت البئر 27 قامة (وكفة بالجيم المصرية ) وذالك ما يزيد على المعدل المعتاد في المنطقة بقرابة ثلاثة أضعاف ، فنبع منها الماء ولم يكن شديد العذوبة غير أنه استعذبها واغتبط بها ، ولم يكن أحد يجرؤ مهابة للشيخ أن يعبر عن ملوحتها ، وما زال يشربها هو وطلابه وأهل حيه مع مشقة الوصول إلى ما فيها ، حيث كان نزع الدلو منها يحتاج إلى دابة تسحب الرشاء ، وبالضرورة تحتاج الدابة إلى من يطردها إلى المسافة المحددة ثم يعود ، وكثيرا ما كان الشيخ نفسه يسير في تلك المشاوير المكررة لارتباط الطالب الذي يقوم بتلك المهمة به في العرض مثلا ، إلى أن أغنى الله عنها بمنه وكرمه (خاصة في شرب الناس ) .

6- سلامة اللسان

كان الشيخ رحمه الله مضرب المثل في الصدق وعفة اللسان ، فلم يكن يتكلم في أحد وكان يشدد في أمر الغيبة كثيرا ، ومن الكلمات التي تؤثر عنه في التحذير منها - تقريبا منه لأذهان المخاطبين - : " إذا كان أحدكم لا بد أن يغتاب فليغتب أباه أو أمه ؛ لأنه يعطيهم حسناته " ! ، وكان لا يقبل أن يدعو على أحد مهما قيل عنه .

7- غض البصر

وله في أمر غض البصر شأن عجيب ، خاصة عندما كنا ندخل معه السوق لحاجة لازمة .

عطاء يجدِّد ويتجدَّد
مثَّل الشيخ رحمه الله تعالى حلقة مباركة في مسيرة عطاء علمي وتربوي فريد حمل مشعله ثلة من الرجال الأخيار ممن نذروا أنفسهم لعبادة الله تعالى وحمل رسالته إلى الناس من خلال ما بثوه في صدور الأجيال المتعاقبة من ساكنة هذا البلد وغيرهم من كلام الله عز وجل وعلوم الشرع الحنيف ، وهكذا واصل الشيخ رحمه الله عطاء أعلام كبار أخذ العلم على أيديهم فقدمه غضا طريا إلى الأجيال اللاحقة من طلبته ، ومن شيوخه الأعلام الذين جدد سمتهم وواصل مسيرتهم وكان يتحدث عنهم ويحدِّث : الشيخ السالك ولد حمادي المسومي رحمه الله ، و لمرابط اباه ولد محمد الأمين اللمتوني رحمه الله ، ثم لمرابط الحاج ولد فحفو المسومي حفظه الله وشفاه ، وأحسب أن منهم المصطفى ولد اعلمبطالب الشريف الجكني (إن لم تخني الذاكرة )

وكما جدد الشيخ عطاء سلفه من العلماء فقد جدد عطاءه من بعده عدد من طلابه الأخيار ممن أسسوا المحاضر ودرسوا في مؤسسات التعليم ، وتحملوا أعباء القضاء ، وشاركوا في مسيرة الإصلاح ، وتوزعوا في مناكب الأرض ؛ تجارا ، ومعلمين ، وأئمة ، وموجهين ، وفي نفس كل منهم – بإذن الله - جذوة نور لا تنطفئ وعزيمة خير لا تُفـَلُّ .

وإن كنت في حرج من الدخول في الأمثلة حتى آخذ للأمر عدته في حديث آخر غير هذه الشذرات فإني لا أستطيع أن لا أذكر الشيخ الفقية الناسك : شيخنا المبارك : الحسين ولد لعزيز - حفظه الله ومد في عمره - حيث يواصل اليوم عملية التدريس والتوجيه في محضرة الشيخ رحمه الله ضاربا بذالك مثلا رائعا لخَلَّة الوفاء تقبل الله منه وأجزل له المثوبة والأجر .

نسأل الله تعالى أن يجزي شيخنا خير الجزاء ويغفر له ويرحمه ويرفعه في عليين ويجعلنا ممن انتفع بصحبته واستفاد من سيرته ، ويبارك في خلفه من أبناء وحفدة وطلاب ، ويكثر من أمثاله في هذا القطر وغيره من أقطار المسلمين .



رحم الله شيخنا وجزاه


كل خير وما يسوء كفاه

كان إذ كان أمة وإماما
يتبع الناس في الصلاح خطاه

أشهد الله ما رأيت مثالا
يشبه الشيخ في عظيم تقاه

عاش طودا من المكارم دهرا
فاح في الناس والبلاد شذاه

كم أقام الليل الطويل شغوفا
بالمـثاني وكم تســــــــامت رؤاه
كل لوح ، وكل قطرة حبر
ويراع ، وكل سطر نعاه


ونعاه الخير العميم إذا ما
غاب في الناس للمعالي نِداه

ونعاه الليل الحزين وغاضت
بسمة البدر في غضون أساه

وبكته السماء والأرض حزنا
أي شيء ولا أراه بكاه

خلق الله للخلود رجالا
هم يمدون للوجود مداه

ما عساه اليراع يكتب قل لي
ما عسى ينفع الأسى ما عساه


ختاماً
وفي الختام نحمد الله تعالى على ما وفق إليه من كتابة هذه الكلمات ؛ فقد كان يحز في النفس منذ بعض الوقت أن لا يكتب عن رجل بهذه المزايا – وأكثر بكثير- لا لحاجة الشيخ إلى ذالك فالشيخ أفضى إلى ما قدم ، نسأل الله أن يجعله مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، ولكننا نحن بحاجة إلى الوفاء ، ومن لا يعرفون الشيخ بحاجة إلى التعرف على سيرته العطرة ، ومن ثم رأيت ذالك واجبا لا يقبل التأخير أكثر مما سبق ، وإن لم أكن أولى طلابه أو أجدرهم بالكتابة عنه .

وفي ظل غياب دراسة علمية وافية تتبع حياته من خلال المصادر المتاحة -وأغلبها طلابه ومعارفه من أجيال متعددة - حتى تكون قادرة على إعطاء صورة قريبة من الكمال عن الشيخ والمحضرة : تاريخا ومنهجا وتأثيرا وامتدادا ، هربتُ إلى الذكريات التي قصارى أمرها أن تعطي الصورة من زاوية ضيقة يحدها قصر المدة طولا – نسبة ً إلى عمر الموضوع - ، ويحدها ضعف الذاكرة ومحدودية الإدراك عرضا ، خصوصا ممن هو في عمري في بعض تلك السنين .

ولكن المعول عليه بعد توفيق الله هو الحرص على الدقة وتسجيل الأمور كما

تُتذَكر بالضبط ، حتى لا أقول كما هي .

وفي الأخير لا يسعني إلا أن أعلن عن وجود رغبة عارمة لدي في كتابة ترجمة شاملة للشيخ تتطرق بالتفصيل لأهم أدوار حياته وإشعاع محظرته ، وتعرف بشيوخه ، وطلابه ، وهو عبء ليس باليسير ولكنه هو وحده الذي يعطي صورة مكتملة الأبعاد عن الموضوع الذي دندنت حوله في الصفحات الماضية ، سائلا الله تعالى الإعانة والتوفيق ، وآملا ممن أمكنه الإسهام في الموضوع من طلبة الشيخ الكرام أن يتفضل بالكتابة إلي على العنوان المبين أعلاه حتى تمكنني الاستفادة منه والرجوع إليه فيما لديه ، والله يوفق الجميع لكل خير .

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

المناخ

شكاوي

وكالة أنباء الأخبار المستقلة © 2003-2025