تاريخ الإضافة : 01.04.2012 09:16
إلى روحك الطاهرة في ذكراك التاسعة
إنها الأيام تمضي سراعا والحوادث تأتي تباعا و العيون تنهمر شجنا والتياعا، و القلوب ترنو وتصبو ارتفاعا إلى ذلك الزمن الجميل، إلى مرابع الأحبة " و إلى رجال رحلوا عنا وتركوا أثرا عميقا في نفوسنا وفي أفئدتنا لأنهم كانوا عظماء نبلاء صدقوا ما عهدوا الله عليه...
في 30| مارس 2003 مساء السبت أسلم روحه رجل لا كالرجال، رجل من أعظم وأعلم وأتقى رجال زمانه.. أسلم الروح إلى بارئها بعد أن عمّر ستا وتسعين في طاعة مولاه. أتدرون من هو؟
إنه الوالد المربي والشيخ المرقي حادي الركب وسابق السابقين إلى كل خير : الشيخ محمدُّ النحوي طيب الله ثراه.
تحاول كلماتي العاجزة وحروفي التائهة أن ترسم بعض ملامح الرجل وتدلي بشهادة للتاريخ وللأجيال القادمة عن حياة علم من أعلام الأمة سمتا وصلاحا وفقها وتدينا لعلها تؤدى النزر القليل من حقه كوالد وشيخ وتنشر بعض مآثره التي اختار لها الكتمان.
بدأت عظمة الشيخ باكرا وهو لا يزال فتى يافعا ينتقل بين محاضر لعكل وما جاورها، يأخذ من علم ذاك ويحفظ شعرهذا وينشد لذاك ليصبح مضرب مثل أهل الحي وليبهر الجميع بذكائه وبسرعة بديهته فحفظ "القرآن " وسنه لا تتجاوز السابعة، و حفظ عن ظهر غيب كثيرا من متون الفقه والنحو و درس أيام العرب وشعرهم وأدبهم فكان مكتبة الحي تتحرك علما وأدبا ووسامة وألقا...
لم يكتف الشيخ بما ناله من علوم نقلية في مرابع الأهل والأحبة بل قرر أن يخرج في رحلة بحث عن علوم أخرى خُلق ليكون رائدا معلِما لها أستاذا فيها، على أنه لم يبح بالكثير منها طول حياته.
وجد ضالته أخيرا في "السنغال " وتحديدا في سين سالم في كولخ وفي عالم آخر كان يسلك طريق العظماء الخالدين لينال لقب شيخ الاسلام " الشيخ إبراهيم انياس " طيب الله ثراه. التقى الرجلان وبعد عناق حار ومجلس نادر قرر الشيخ النحوي أن يرافق شيخ الإسلام ويكون ظله ورفيقه وصاحبه في الله ولله وبالله ...
...
وصف أحدهم تلك الأيام والليالي الجميلات الدمشقيات المزينة بذكر الله و بشذى محبة رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله :
حي دارا بكوسي دار بهاء *** وسناء ورحمة وهناء
حيث كانت لفيضة الشيخ مهدا *** أي مهد ترابه كالسماء
مكث الشيخ النحوي طويلا عند شيخه وحين رجوعه إلى موطنه وجد الدنيا انقلبت وحديث الحي عنه وعن صحبته التي اعتبرها البعض "خروجا عن المألوف " وإذلالا لمجد الآباء وإجحافا بالأحفاد. فما كان ينبغي -بالنسبة لهم- لابن الأكرمين وسليل الحبيب المصطفي صلي الله عليه وسلم أن يتبع ويُسلِم لرجل من وراء "النهر" كانوا يصفونه بعباراتهم الدارجة أنداك ويشيرون له بأصبع: " تلميذ كوري " ..
لم يضر الشيخ النحوي نكران الأقربين و لا مضايقة المجتمع ولا حديث بنات الحي عنه وعن فعلته، بل أصر على طريقه الذى اختار فقد وجد في شيخه ما وجده مولى معبد في معبد.
مضت السنون وعاد الشيخ إلى أرض الوطن الذى أحبه و جاهد من أجل استقلاله ليعايش استقلاله ويساهم في بنائه وتوطيد دعائمه الفتية وفي تعميق العلاقة مع دول الجوار خصوصا السنغال وغامبيا.
...
لقد كان الشيخ النحوي الشاب حمال ألوية، نزال أودية، للخير جلابا..
كان صخر القوم :
إذا القوم مدوا بأيديهم
إلى المجد مد إليه يدا
فنال الذي فوق أيديهم
من المجد ثم مضى مصعدا
يحمله القوم ما عالهم
وإن كان أصغرهم مولدا
فكم ساعد ضعيفا مظلوما مسلوب الحق على استرداد حقه من ظالميه بطريقة دبلوماسية رائعة تجعل الظالم يسلم الحق لصاحبه دون جدال وبنفس راضية مقتنعة.
...
لوقدر لأزقة دكار وبانجول أن تتحدث عن مكارم رجل عرفته طويلا لبكت واستبكت ووقفت واستوقفت.
بكت جوده وكرمه و عطفه على آلاف المساكين خصوصا في زمن القحط وفي سنوات الجفاف العجاف.
واستوقفت عند سعيه في شفاء المريض وسد مسغبة الجائع و المسح على المسكين تأسيا بالحبيب صلي الله عليه وسلم. قيل عنه وعن أعماله:
وما جلبتم لهم من نفحة *** وما أزحتم عنهم من كربة
وما لكم بالمصطفى من أسوة *** تبارك الرحمن رب العزة
سُئل مرة كيف لك أن تحل كل هذه المشاكل والمعضلات التي عجز عنها أهل الحل والعقد وتقاعس عنها كبار القوم؟ ألك معرفة بهؤلاء أو أسيادهم؟
أجاب الشيخ : لا أعرفهم ولكن أعرف سيدهم.
نعم، فقد عرف الله حق المعرفة. ومع ذلك تراه ساجدا قانتا متبتلا مجتهدا في أداء الحقوق منطبقا عليه قول القائل :
مازال يحملها على مكروهها***حتى زكت وصفت صفاء العسْجد
قد نال غاية مايروم المنتهي***من ربه وله اجتهاد المبتدي
كان الشيخ النحوي أبا حنونا يعطف على الجميع يحب الجميع. كان مدرسة أخلاق وقيم تمشي على الأرض. لعل موقفه في الثمانينات يلخص مئات المواقف الأخرى، ففي خريف 1982 تسللت أيادي النظام الغادرة إلى رابع "بدور الشيخ " وأخذته بعيدا إلى سجن بومديد. ذنبه الوحيد أنه كان فتى متألقا علما وأدبا وفكرا وثقافة وحبا لوطنه وأمته على حداثة سنه.
تحركت الوساطات لإطلاق "خليل موريتانيا" ورفاقه. وفي مرة من المرات التقى رئيس الوزراء آنذاك العقيد معاوية ولد سيد أحمد الطائع بالشيخ وعرض عليه أن يسعى في إطلاق سراح نجله ترضية له وإكراما لمقامه ولكن دون بقية الرفاق..
لكن تصوروا ما قال الشيخ : لا أريد الخليل إلا مع أخلائه..
تلكم هي نظرة الشيخ الجامعة المانعة وذلك هو قلب الشيخ الكبير الذى اتسع لكل سجناء موريتانيا يومئذ، وما أكثرهم في جميع أنحاء الوطن ..
كان الشيخ النحوي صداعا بالحق لا تأخذه في الله لومة لائم لا يجامل ولا يداري في سبيل مصلحة وطنه وأمته ومن أبرز الأمثلة على ذلك اللقاء الذى جمعه مع "هيدالة" ونجله لا يزال يقبع في سجن الأخير .
في إحدى زيارات الرئيس هيدالة لبرينة، أمسك الشيخ بيده وطلب منه أن لا يغادر حتي يؤدى له كرم الضيافة. فامتنع أولا ثم رضخ بعد إصرار الشيخ على إكرام سجان ابنه. وفعلا دخل هيدالة إلى الحفل الذى أقامه الشيخ له في ساحة قرب مسجد الفتح جنوبي قرية برينة العتيقة.
يلخص هذا الموقف كرم الشيخ ونبل أخلاقه و ترفعه عن الرذائل والصغائر فقد كان يقابل السيئة بالحسنة.
كان الموقف الثاني بعد عقود حيث كانت موريتانيا مقبلة على أزمات سياسية واقتصادية، وقد عانى الناس ما عانوا في تلك الفترة، وكان دأب جل الأعيان الخضوع أو المداراة، إلا قلة قليلة كان الشيخ النحوي طيب الله ثراه منها.
التقي الشيخ بالرئيس الأسبق أنذاك العقيد معاوية ولد سيد أحمد الطائع فجرى بينهم الحديث التالي :
الشيخ : إنما أتيتك لحاجة شخصية ولا حاجة لي إلا إلى الباري جل وعلا، لكن أرجو أن تتذكر يوم التقينا في مكتبك وأنت رئيس الوزراء وتحدثنا عن الخليل ورفاقه في السجن فقلت لك:"أن ثقتي عظيمة بالله وأن رجائي كبير فيه، وأريد إطلاق سراح جميع السجناء"، فأجبتني:لو كان الأمر بيدي لكان ما تريد، فقلت لك جزاك الله خيرا وسيؤول الأمر إليك بإذن الله ولا تنس وعدك.
فقال الرئيس معاوية: أذكر ذلك أذكر ذلك جدا، فعاد الشيخ إلى الحديث وقال: لقد أنجزتَ وعدك وجزاك الله خيرا، واليوم جئت لأنصحك في الله وأخبرك أن ظروف الناس صعبة جدا، والأسعار مرتفعة والمظالم كثيرة، وأرجوا أن تعامل الله وتتقيه في هذه الأمانة التي وصلت إليك، وتذكر القاعدة: لو دامت لغيرك لما وصلت إليك، واحذرْ من البطانة السيئة وركز على بطانة الخير. فأجاب معاوية: البلاد بخير والظروف جيدة وهذا يا والدي كلام المعارضة ودعايتها المغرية. فقال الشيخ: لقد أديت الأمانة في نصحك ولله الأمر من قبل ومن بعد.
----
لم يكن الشيخ النحوي يجامل الحكام ولا المسؤولين.. كان إذا قابل أحدهم يقول له: أنا لا حاجة لي، وإنما جئتك في حاجتك، ثم يشرع في نصيحته. وكان همه الدائم نفع البلاد والعباد ويردد كلماته الخالدة : "عبادة النساء الصوم والصلاة وعبادة الرجال منافع المسلمين ".
في بلد آخر شقيق كانت هناك قصة أخرى جمعته مع الملك "الحسن الثاني طيب الله ثراه. بدأت تفاصيل القصة حينما دعا الملكُ الشيخَ الذى سمع به من قبل، وكان الملك الراحل لحكمته وسعة علمه مهتما بالصالحين والعلماء الربانيين. وفي اللقاء الأول في قصر فاس نظر الشيخ النحوي إلى الملك وهو يصافحه مرفوع الرأس عالي الهامة، ولكن في تواضع قل نظيره وقال :" أن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه ".
ما أكثر تواضعه وما أعظم قدره و أحسن سجيته.
بعد اللقاء الأول كان اللقاء الثاني الذى كان فريدا دار فيه حديث يستحق أن يكتب بماء الذهب قال الملك للشيخ : "ما تريد ان أقضي لك من حوائج الدينا ؟ " وكأنه يمتحنه، فرد الشيخ على الملك وقال "من هم في سني وسنك لا حاجة لهم في الدنيا ".
كانت هذه الجملة الخالدة دستور العلاقة بين الرجلين التى كانت خالصة في الله ولعباد الله.
رحم الله الملك الراحل كان يحسن اختيار أصدقائه من العلماء والصالحيين , وقد حفظ خلفُه عاهل المغرب محمد السادس عهد أبيه ووده وعرف عنه اهتمامه بالعلماء والصالحيين لعل الدروس الحسنية مثال بارز على ذلك.
...
شيد الشيخ النحوي مدرسة رائدة في مقامات الإسلام والإيمان والإحسان يتوزع أتباعها بين قارات الدنيا الخمس وتعتبر عاصمتها "باب الفتح " قرية الشيخ التي تحوي مسجده و كان لها الشرف أن ضمت بين كثبانها جسده الطاهر.
وصف خليفته وحافظ عهده الشيخ محمد الحافظ أهل تلك البلدة الطيبة -التى تبعد عن انواكشوط 200 كلم- وأحوالهم فقال:
وسام التقى حازوا به اليوم منزلا *** تسامى بفضل الله فوق النعائم
فهم سادة الأيام شرعا حقيقة *** وهم قادة للعارفين الأكارم
تراهم وذكر الله يعلوا جموعهم *** قعودا قياما وفق ذوق ملازم
حيارى بذات الذات لما فنوا بها *** سكارى بخمر الحب في كل عالَم
في تلك الربوع الطيبة شربت الجموع نخب المحبة ونهلوا من زلال معين الشيخ الذي لا ينضب
...
لقد كان الشيخ النحوي ذلك الكبريت الأحمر، لا يفارق القرآن ، كان صاحبَه في حله وترحاله. سئل عنه أحد رفاقه وقد عاشره عقودا، تنهد وقال : "لقد كان الشيخ النحوي مدرسة قرآنية تمشي على الأرض، لم أشاهده يوما يخالف سنن المصطفي ولا يحيد عن نهجه القويم ".
سئل عنه خليفته الأسمى ونجله "الثالث " حافظ عهده ومن ورث عنه سمته وصلاحه وعلمه فكان رائدا في منافع المسلميين، فأجاب : منذ أن كان عمري 10 سنين لم أر الشيخ يتوقف عن قراءة جزئه اليومي من القرآن إلا حين اشتد به المرض في الثلاثة أيام الأخيرة من حياته.
وسئل عنه أحد أتباعه وقد رافقه عشر سنين: "ماهي خصال شيخك؟" فرد وغصة في حلقه ودمعة تنزل على خده بالقول : "لا أعرف له سوى خصلة واحدة، كنت أخرج عنه في الساعات الأخيرة من الليل وأعود في الصباح الباكر وأجده على نفس الحال :يرتل القرآن أو يصلي على حبيبه المصطفي صلي الله عليه وسلم."
...
هكذا انقضت ستة وتسعون سنة من حياة القطب الرباني بين دفتي مصحف ومناجاة حبيب أو مناجاة رب الحبيب أو نفع لعباد الرحمن...
سيبقي الكثير والكثير ليُكتب ويُسطر عن الشيخ النحوي، فمناقبه وصفاته ومآثره لا تحيط بها الكتب أحرى مقالات فتي مشتاق مغترب. ولعل صمتنا سيعبر عن مكنوننا وهو أبلغ الأوصاف مرددين قول القائل وما أبلغه :
يال عهد من المدينة شهد 00 ولعهد من كوسي عذب قديم
في حريم الشيخ الخليل وطوبى 00 للحريم الأنقى وأهل الحريم
ورعا الله روح عبد مخبت 00 ومنيب وحبيب لعهده وكليم
كفه لا تكف عن بذل 00 فضل لفقير أو أيم أويتيم
بجنان من اليقين ملئ 00 ولسان رطب بقول حكيم
لقد كان الشيخ النحوي صفحة عظيمة ولوحة مجيدة من الصلاح والسمت والإخبات والتواضع والحب والمحبة طواها الردى. طيب الله ثراه وأدام على الأمة خليفته.
في 30| مارس 2003 مساء السبت أسلم روحه رجل لا كالرجال، رجل من أعظم وأعلم وأتقى رجال زمانه.. أسلم الروح إلى بارئها بعد أن عمّر ستا وتسعين في طاعة مولاه. أتدرون من هو؟
إنه الوالد المربي والشيخ المرقي حادي الركب وسابق السابقين إلى كل خير : الشيخ محمدُّ النحوي طيب الله ثراه.
تحاول كلماتي العاجزة وحروفي التائهة أن ترسم بعض ملامح الرجل وتدلي بشهادة للتاريخ وللأجيال القادمة عن حياة علم من أعلام الأمة سمتا وصلاحا وفقها وتدينا لعلها تؤدى النزر القليل من حقه كوالد وشيخ وتنشر بعض مآثره التي اختار لها الكتمان.
بدأت عظمة الشيخ باكرا وهو لا يزال فتى يافعا ينتقل بين محاضر لعكل وما جاورها، يأخذ من علم ذاك ويحفظ شعرهذا وينشد لذاك ليصبح مضرب مثل أهل الحي وليبهر الجميع بذكائه وبسرعة بديهته فحفظ "القرآن " وسنه لا تتجاوز السابعة، و حفظ عن ظهر غيب كثيرا من متون الفقه والنحو و درس أيام العرب وشعرهم وأدبهم فكان مكتبة الحي تتحرك علما وأدبا ووسامة وألقا...
لم يكتف الشيخ بما ناله من علوم نقلية في مرابع الأهل والأحبة بل قرر أن يخرج في رحلة بحث عن علوم أخرى خُلق ليكون رائدا معلِما لها أستاذا فيها، على أنه لم يبح بالكثير منها طول حياته.
وجد ضالته أخيرا في "السنغال " وتحديدا في سين سالم في كولخ وفي عالم آخر كان يسلك طريق العظماء الخالدين لينال لقب شيخ الاسلام " الشيخ إبراهيم انياس " طيب الله ثراه. التقى الرجلان وبعد عناق حار ومجلس نادر قرر الشيخ النحوي أن يرافق شيخ الإسلام ويكون ظله ورفيقه وصاحبه في الله ولله وبالله ...
...
وصف أحدهم تلك الأيام والليالي الجميلات الدمشقيات المزينة بذكر الله و بشذى محبة رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله :
حي دارا بكوسي دار بهاء *** وسناء ورحمة وهناء
حيث كانت لفيضة الشيخ مهدا *** أي مهد ترابه كالسماء
مكث الشيخ النحوي طويلا عند شيخه وحين رجوعه إلى موطنه وجد الدنيا انقلبت وحديث الحي عنه وعن صحبته التي اعتبرها البعض "خروجا عن المألوف " وإذلالا لمجد الآباء وإجحافا بالأحفاد. فما كان ينبغي -بالنسبة لهم- لابن الأكرمين وسليل الحبيب المصطفي صلي الله عليه وسلم أن يتبع ويُسلِم لرجل من وراء "النهر" كانوا يصفونه بعباراتهم الدارجة أنداك ويشيرون له بأصبع: " تلميذ كوري " ..
لم يضر الشيخ النحوي نكران الأقربين و لا مضايقة المجتمع ولا حديث بنات الحي عنه وعن فعلته، بل أصر على طريقه الذى اختار فقد وجد في شيخه ما وجده مولى معبد في معبد.
مضت السنون وعاد الشيخ إلى أرض الوطن الذى أحبه و جاهد من أجل استقلاله ليعايش استقلاله ويساهم في بنائه وتوطيد دعائمه الفتية وفي تعميق العلاقة مع دول الجوار خصوصا السنغال وغامبيا.
...
لقد كان الشيخ النحوي الشاب حمال ألوية، نزال أودية، للخير جلابا..
كان صخر القوم :
إذا القوم مدوا بأيديهم
إلى المجد مد إليه يدا
فنال الذي فوق أيديهم
من المجد ثم مضى مصعدا
يحمله القوم ما عالهم
وإن كان أصغرهم مولدا
فكم ساعد ضعيفا مظلوما مسلوب الحق على استرداد حقه من ظالميه بطريقة دبلوماسية رائعة تجعل الظالم يسلم الحق لصاحبه دون جدال وبنفس راضية مقتنعة.
...
لوقدر لأزقة دكار وبانجول أن تتحدث عن مكارم رجل عرفته طويلا لبكت واستبكت ووقفت واستوقفت.
بكت جوده وكرمه و عطفه على آلاف المساكين خصوصا في زمن القحط وفي سنوات الجفاف العجاف.
واستوقفت عند سعيه في شفاء المريض وسد مسغبة الجائع و المسح على المسكين تأسيا بالحبيب صلي الله عليه وسلم. قيل عنه وعن أعماله:
وما جلبتم لهم من نفحة *** وما أزحتم عنهم من كربة
وما لكم بالمصطفى من أسوة *** تبارك الرحمن رب العزة
سُئل مرة كيف لك أن تحل كل هذه المشاكل والمعضلات التي عجز عنها أهل الحل والعقد وتقاعس عنها كبار القوم؟ ألك معرفة بهؤلاء أو أسيادهم؟
أجاب الشيخ : لا أعرفهم ولكن أعرف سيدهم.
نعم، فقد عرف الله حق المعرفة. ومع ذلك تراه ساجدا قانتا متبتلا مجتهدا في أداء الحقوق منطبقا عليه قول القائل :
مازال يحملها على مكروهها***حتى زكت وصفت صفاء العسْجد
قد نال غاية مايروم المنتهي***من ربه وله اجتهاد المبتدي
كان الشيخ النحوي أبا حنونا يعطف على الجميع يحب الجميع. كان مدرسة أخلاق وقيم تمشي على الأرض. لعل موقفه في الثمانينات يلخص مئات المواقف الأخرى، ففي خريف 1982 تسللت أيادي النظام الغادرة إلى رابع "بدور الشيخ " وأخذته بعيدا إلى سجن بومديد. ذنبه الوحيد أنه كان فتى متألقا علما وأدبا وفكرا وثقافة وحبا لوطنه وأمته على حداثة سنه.
تحركت الوساطات لإطلاق "خليل موريتانيا" ورفاقه. وفي مرة من المرات التقى رئيس الوزراء آنذاك العقيد معاوية ولد سيد أحمد الطائع بالشيخ وعرض عليه أن يسعى في إطلاق سراح نجله ترضية له وإكراما لمقامه ولكن دون بقية الرفاق..
لكن تصوروا ما قال الشيخ : لا أريد الخليل إلا مع أخلائه..
تلكم هي نظرة الشيخ الجامعة المانعة وذلك هو قلب الشيخ الكبير الذى اتسع لكل سجناء موريتانيا يومئذ، وما أكثرهم في جميع أنحاء الوطن ..
كان الشيخ النحوي صداعا بالحق لا تأخذه في الله لومة لائم لا يجامل ولا يداري في سبيل مصلحة وطنه وأمته ومن أبرز الأمثلة على ذلك اللقاء الذى جمعه مع "هيدالة" ونجله لا يزال يقبع في سجن الأخير .
في إحدى زيارات الرئيس هيدالة لبرينة، أمسك الشيخ بيده وطلب منه أن لا يغادر حتي يؤدى له كرم الضيافة. فامتنع أولا ثم رضخ بعد إصرار الشيخ على إكرام سجان ابنه. وفعلا دخل هيدالة إلى الحفل الذى أقامه الشيخ له في ساحة قرب مسجد الفتح جنوبي قرية برينة العتيقة.
يلخص هذا الموقف كرم الشيخ ونبل أخلاقه و ترفعه عن الرذائل والصغائر فقد كان يقابل السيئة بالحسنة.
كان الموقف الثاني بعد عقود حيث كانت موريتانيا مقبلة على أزمات سياسية واقتصادية، وقد عانى الناس ما عانوا في تلك الفترة، وكان دأب جل الأعيان الخضوع أو المداراة، إلا قلة قليلة كان الشيخ النحوي طيب الله ثراه منها.
التقي الشيخ بالرئيس الأسبق أنذاك العقيد معاوية ولد سيد أحمد الطائع فجرى بينهم الحديث التالي :
الشيخ : إنما أتيتك لحاجة شخصية ولا حاجة لي إلا إلى الباري جل وعلا، لكن أرجو أن تتذكر يوم التقينا في مكتبك وأنت رئيس الوزراء وتحدثنا عن الخليل ورفاقه في السجن فقلت لك:"أن ثقتي عظيمة بالله وأن رجائي كبير فيه، وأريد إطلاق سراح جميع السجناء"، فأجبتني:لو كان الأمر بيدي لكان ما تريد، فقلت لك جزاك الله خيرا وسيؤول الأمر إليك بإذن الله ولا تنس وعدك.
فقال الرئيس معاوية: أذكر ذلك أذكر ذلك جدا، فعاد الشيخ إلى الحديث وقال: لقد أنجزتَ وعدك وجزاك الله خيرا، واليوم جئت لأنصحك في الله وأخبرك أن ظروف الناس صعبة جدا، والأسعار مرتفعة والمظالم كثيرة، وأرجوا أن تعامل الله وتتقيه في هذه الأمانة التي وصلت إليك، وتذكر القاعدة: لو دامت لغيرك لما وصلت إليك، واحذرْ من البطانة السيئة وركز على بطانة الخير. فأجاب معاوية: البلاد بخير والظروف جيدة وهذا يا والدي كلام المعارضة ودعايتها المغرية. فقال الشيخ: لقد أديت الأمانة في نصحك ولله الأمر من قبل ومن بعد.
----
لم يكن الشيخ النحوي يجامل الحكام ولا المسؤولين.. كان إذا قابل أحدهم يقول له: أنا لا حاجة لي، وإنما جئتك في حاجتك، ثم يشرع في نصيحته. وكان همه الدائم نفع البلاد والعباد ويردد كلماته الخالدة : "عبادة النساء الصوم والصلاة وعبادة الرجال منافع المسلمين ".
في بلد آخر شقيق كانت هناك قصة أخرى جمعته مع الملك "الحسن الثاني طيب الله ثراه. بدأت تفاصيل القصة حينما دعا الملكُ الشيخَ الذى سمع به من قبل، وكان الملك الراحل لحكمته وسعة علمه مهتما بالصالحين والعلماء الربانيين. وفي اللقاء الأول في قصر فاس نظر الشيخ النحوي إلى الملك وهو يصافحه مرفوع الرأس عالي الهامة، ولكن في تواضع قل نظيره وقال :" أن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه ".
ما أكثر تواضعه وما أعظم قدره و أحسن سجيته.
بعد اللقاء الأول كان اللقاء الثاني الذى كان فريدا دار فيه حديث يستحق أن يكتب بماء الذهب قال الملك للشيخ : "ما تريد ان أقضي لك من حوائج الدينا ؟ " وكأنه يمتحنه، فرد الشيخ على الملك وقال "من هم في سني وسنك لا حاجة لهم في الدنيا ".
كانت هذه الجملة الخالدة دستور العلاقة بين الرجلين التى كانت خالصة في الله ولعباد الله.
رحم الله الملك الراحل كان يحسن اختيار أصدقائه من العلماء والصالحيين , وقد حفظ خلفُه عاهل المغرب محمد السادس عهد أبيه ووده وعرف عنه اهتمامه بالعلماء والصالحيين لعل الدروس الحسنية مثال بارز على ذلك.
...
شيد الشيخ النحوي مدرسة رائدة في مقامات الإسلام والإيمان والإحسان يتوزع أتباعها بين قارات الدنيا الخمس وتعتبر عاصمتها "باب الفتح " قرية الشيخ التي تحوي مسجده و كان لها الشرف أن ضمت بين كثبانها جسده الطاهر.
وصف خليفته وحافظ عهده الشيخ محمد الحافظ أهل تلك البلدة الطيبة -التى تبعد عن انواكشوط 200 كلم- وأحوالهم فقال:
وسام التقى حازوا به اليوم منزلا *** تسامى بفضل الله فوق النعائم
فهم سادة الأيام شرعا حقيقة *** وهم قادة للعارفين الأكارم
تراهم وذكر الله يعلوا جموعهم *** قعودا قياما وفق ذوق ملازم
حيارى بذات الذات لما فنوا بها *** سكارى بخمر الحب في كل عالَم
في تلك الربوع الطيبة شربت الجموع نخب المحبة ونهلوا من زلال معين الشيخ الذي لا ينضب
...
لقد كان الشيخ النحوي ذلك الكبريت الأحمر، لا يفارق القرآن ، كان صاحبَه في حله وترحاله. سئل عنه أحد رفاقه وقد عاشره عقودا، تنهد وقال : "لقد كان الشيخ النحوي مدرسة قرآنية تمشي على الأرض، لم أشاهده يوما يخالف سنن المصطفي ولا يحيد عن نهجه القويم ".
سئل عنه خليفته الأسمى ونجله "الثالث " حافظ عهده ومن ورث عنه سمته وصلاحه وعلمه فكان رائدا في منافع المسلميين، فأجاب : منذ أن كان عمري 10 سنين لم أر الشيخ يتوقف عن قراءة جزئه اليومي من القرآن إلا حين اشتد به المرض في الثلاثة أيام الأخيرة من حياته.
وسئل عنه أحد أتباعه وقد رافقه عشر سنين: "ماهي خصال شيخك؟" فرد وغصة في حلقه ودمعة تنزل على خده بالقول : "لا أعرف له سوى خصلة واحدة، كنت أخرج عنه في الساعات الأخيرة من الليل وأعود في الصباح الباكر وأجده على نفس الحال :يرتل القرآن أو يصلي على حبيبه المصطفي صلي الله عليه وسلم."
...
هكذا انقضت ستة وتسعون سنة من حياة القطب الرباني بين دفتي مصحف ومناجاة حبيب أو مناجاة رب الحبيب أو نفع لعباد الرحمن...
سيبقي الكثير والكثير ليُكتب ويُسطر عن الشيخ النحوي، فمناقبه وصفاته ومآثره لا تحيط بها الكتب أحرى مقالات فتي مشتاق مغترب. ولعل صمتنا سيعبر عن مكنوننا وهو أبلغ الأوصاف مرددين قول القائل وما أبلغه :
يال عهد من المدينة شهد 00 ولعهد من كوسي عذب قديم
في حريم الشيخ الخليل وطوبى 00 للحريم الأنقى وأهل الحريم
ورعا الله روح عبد مخبت 00 ومنيب وحبيب لعهده وكليم
كفه لا تكف عن بذل 00 فضل لفقير أو أيم أويتيم
بجنان من اليقين ملئ 00 ولسان رطب بقول حكيم
لقد كان الشيخ النحوي صفحة عظيمة ولوحة مجيدة من الصلاح والسمت والإخبات والتواضع والحب والمحبة طواها الردى. طيب الله ثراه وأدام على الأمة خليفته.







