تاريخ الإضافة : 31.03.2012 10:50

بين مالي والسينغال أرض سائبة

كنت عرضت في مقال سلف عنونته : (علي هامش قرار حكيم) لفكرة التناوب التي حسبتها تستحق التمحيص و الدرس ، حين نمي إلي علمي عزم السيد خالد مشعل عدم الترشح لرئاسة المكتب السياسي لحركة حماس ، رغم ما حقق الرجل من إنجازات لا تخطئها عين الرائي ...

وقد خيل إلي بعد نشر ذلك المقال ـ رغم اعتقادي الراسخ أن القائمين علي الشأن العام في البلاد السائبة لا يقرؤون، و إن قرؤوا لا يفهمون و إن فهموا لا يفعلون ـ أن "أعين" قادة البلاد السائبة طالعته ، بعد تسريبات ـ كذبت لاحقا ـ مبناها اعتزام زعيم البلاد عدم ترشيح نفسه لولاية ثانية ... حرصا منه علي تناوب سلس ومرن ... حرصا تكذبه القرائن ...

وكنت سأترك خواطري ـ تلك ـ هملا، عطفا علي سابقاتها بعد يأس انتابني حين هبوط مستوي الحوار بين الفاعلين السياسيين، عضده شعور زائد بمستوي امتهان حكومة المنكب البرزخي مواطنيها شيبا وشبابا ... حين رأيت بأم عيني مشهد التزاحم أمام أحد الدكاكين ، التي يسمونها "دكاكين تضامن" والحال أنها دكاكين امتهان و إساءة لذوي العوز ، أثناء تقسيمها بعض رديء السمك و حشف التمر تزامنا وصدا عن مهرجان معارض .

لكن أهمية الأحداث الأخيرة في دولتي مالي و السنغال ، وما يربطني منفردا ويربطنا مجتمعين من وشائج قربي بهاتين الدولتين حدا به إلي تناول أحداثهما تقويما وحرصا علي أن لا تمر التجربتان دون سكب حبر ، قدر له أن يسكب في أمور أخالها أقل أهمية ... وفاء بالتزام ديني بتغيير المنكر علي الأقل في أدني مراتب ذلك الالتزام بعد أن عزت الطرق الأخرى ... و استشعارا لما لتينك التجربتين من آثار عاجلة وآجلة علي أبناء البلاد السائبة ... غبطة وخوفا ...

ولقائل أن يقول إن التجربتين لا تحتاجان مقارنة إذ البون شاسع إنما الأولي أن نغبط السنغال و نتوجس خيفة مما آلت إليه أوضاع مالي ... لكن مما استوقفني في هذا السياق كلمة كان تفوه بها رئيس الولايات المتحدة الأمريكية الحالي ـ و هو للذكري حقوقي متمرس ـ تذكيرا لزعيم البلاد الذي لا يري حاجتها للحقوقيين و لا للاقتصاديين عل الذكري تنفعه ـ حين زار دولة إفريقية فركز علي القول إن الدول الإفريقية تحتاج مؤسسات قوية لا قادة أقوياء ...

و لملاحظ القول إن التغيير في مالي تحول إلى انقلاب أطاح بالرئيس المنتخب، و التغيير دوما يأتي بطاقات من الأمل ... غير أن السنين الخوالي ـ العجاف ـ علمتنا أن العسكر كانوا دوما ــ ومازالوا ــ جزءا من المشكلة لا طريقا للحل .

كان أول انقلاب عرفته مالي عام 1968 وتزعمه ملازم لم يكن قد بلغ الثانية والثلاثين، لم تمنعه سنه الشابة من الرد بعنف مفرط على احتجاجات طلابية للمطالبة بالديمقراطية لم تتوقف طوال حكمه، تماما كما لم تمنعه البيئة الفقيرة التى نشأ فيها من تطبيق الوصفة الاقتصادية لصندوق النقد الدولي التي جعلت أكثر من نصف سكان البلاد يعيشون تحت خط الفقر.

أردت أن أقارن تاريخ انقلاب الملازم المالي "بانقلاب الجنرال" الموريتاني 2008 مع الفارق في التأريخ و السياق... أن أقارن تعاطي الملازم ذي الثانية والثلاثين من العمر مع مظاهرات طلاب بلاده المطالبين بالديمقراطية، بتعاطي جنرالنا الغابش رعيته مع مظاهرات طلاب المعهد العالي للدراسات و البحوث الإسلامية في مطالبتهم الإبقاء علي مؤسستنا العلمية التليدة... أن أقارن جنرال البلاد السائبة في إذعانه لوصفة المؤسسات النقدية الدولية في عام الرمادة ـ هذا ـ في زياداته أسعار المواد الأساسية ... تمنيت لو أرجع النظر إلي تراثنا الإسلامي عله يعي قول عمر بن الخطاب : " لو عثرت بغلة بالعراق لخشيت أن يسألني الله عنها يوم القيامة ... تذكرت قول النابغة الجعدي لا فض الله فاه : ولا خير في جهل إذا لم يكن له حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا

كل ذلك وعيني علي السنغال غبطة و تقديرا لتجربتها...الماليون يدخلون مطبا قد لا يخرجونه والسنغاليون يخرجون من انتخاباتهم مرفوعي الرؤوس ... قلت في نفسي في السنغال ثمة مؤسسات دستورية تعمل بطريقة شفافة ...يديرها أكفأهم و أرسخهم قدما في الميدان بيد أن مؤسساتنا الدستورية يديرها ـ في الغالب ـ متورطون ، ضالعون ...

في السنغال جيش يقف مع الخيار الديمقراطي، رغم فرص الانقلابات التي أتيحت له للسنغال رئيس ـ وهو للذكري حقوقي متمرس ـ غير دستورها خلال مأموريتيه خمس عشرة مرة ، لكن بطريقة قانونية ، له شجاعة الاعتراف بالهزيمة ،وبسرعة فائقة ودون تردد ...

في السنغال شعب لا يلهيه رديء السمك و لا حشف التمر عن الاطلاع بمسؤولياته القومية ... في السنغال شعب حريص علي نقل دولته من دولة خادمة لشرذمة قليلة إلي دولة راعية للكل... في السنغال شعب قال لرئيسه ومن خلال صناديق الاقتراع إن التناوب لازم... فقرؤوا وفهموا ا و ترادؤوا علي تجسيد عزم عمر بن الخطاب رضي الله عنه و أرضاه أن لا يترك أميرا على مصر من الأمصار أكثر من أربع سنوات، إن كان عادلا مله الناس، وإن كان ظالما فأربع سنوات من الظلم تكفى..."

لكن هيهات ففي البلاد السائبة ، المعارض الناصح متهم، مدان ... قلبا لقرينة البراءة ... الدستور معطل ... مغير بفعل برلمان منتهي الصلاحية ... و المرجع في ذلك مجلس دستوري لرئيسه سوابق ... في البلاد السائبة الجيش ضالع و الرئيس خالع بزته قبل حين ... في البلاد السائبة شعب استسلم للتسلط و استهان بكبري قضاياه كما استسلم المصريون ـ قديماـ لفرعون ونعى القرآن عليهم ذلك الاستسلام، فقال: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْما فَاسِقِينَ (الزخرف: 54)، والحمد لله الذي لم يقل إنهم كانوا قوما كافرين ...

والله من وراء القصد والهادي إلي سواء السبيل

المناخ

شكاوي

وكالة أنباء الأخبار المستقلة © 2003-2025