تاريخ الإضافة : 19.03.2012 13:59

حول العسكر والسلطة في موريتانيا

سيد أعمر ولد شيخنا
ما يستشف من الحراك الجاري في موريتانيا والإشارات الصادرة منه أن البلاد مقدمة بحول الله على تحول ديمقراطي حقيقي ،يعيد الجيش مكرما معززا لدوره التقليدي كجيش جمهوري يحفظ حدود البلاد ويدافع عن استقلالها الوطني على غرار جميع جيوش العالم ، حتى يتسنى للبلد- أخيرا- أن يتمتع بتنافس أبنائه على خدمته والنهوض بواقعه في ظروف يختفي فيها الإكراه السياسي والاقتصادي الممارس باسم الدولة وأجهزتها ، وفي ظل الحراك الجاري ينعقد إجماع سياسي وشعبي على أن لحظة المفاصلة النهائية بين العسكر - أومن يحكم باسمهم- وبين السلطة في موريتانيا قد حانت .

شيء من التاريخ

أثناء أحداث الصدام المؤسف عام 1966م بين تلاميذ "بيضان" وآخرين "زنوج" على خلفية قرار الحكومة بإلزامية اللغة العربية في التعليم ، وقف الجيش الوطني الناشئ موقفا وطنيا محترما في تلك الأزمة ،حينما ظهر كمؤسسة وطنية متماسكة في وقت انقسمت فيه النخب المدنية على نفسها ،ونجح في ظرف وجيز في حماية الوحدة الوطنية والسلم الأهلي، ثم توج ذلك برفض استغلال الظرف المحلي والدولي للسيطرة على الحكم وهو ما تم دفعه إليه من بعض الأطراف ، ،على خلفية صراع الأجنحة داخل السلطة المدنية بل داخل النواة الصلبة لنظام الرئيس المختار ولد داداه ، و يروي قائد الأركان –حينها- المصطفى ولد محمد السالك "أن عددا كبيرا من الشخصيات اتصلت به،وطلبت منه اغتنام فرصة سيطرته على العاصمة والصلاحيات الواسعة المخولة له لتنفيذ انقلاب على الرئيس المختار، وإعلان استيلاء الجيش على السلطة على غرار ما يجري في المنطقة بشكل عام ، وقد رفضت يقول العقيد المصطفى لعدة أسباب منها أولا انني لا أرى داعيا لهذا الانقلاب ،وثانيا لأن الجيش ليس مؤهلا للحكم ،وثالثا لأن الرئيس المختار استأمنني على مسؤولية ولا أريد أن أخونه فيها.
لكن العقيد المصطفى ولد محمد السالك وبعد 12 سنة من هذا التاريخ،و عندما كان قائدا للجيش-للمرة الثانية - لم يتردد هو ورفاقه الضباط في القيام بانقلاب عسكري ضد الرئيس المختار وحزبه الحاكم، عندما كانت ظروف البلاد تستدعي ذلك التدخل بإلحاح لإنقاذ البلد من النتائج الكارثية لحرب الصحراء،وهو الانقلاب الذي سيؤسس للدور السياسي للعسكر في التاريخ الموريتاني الحديث .

تحفظ على حكم العسكر

لقد كان تدخل الجيش في العاشر من يوليو 1978م صائبا من الناحية التاريخية ما في ذلك شك – حسب وجهة نظري على الأقل – حيث مثل طوق نجاة من تداعيات أزمة مستعصية كانت تفرض مخاطر جدية على حاضر ومستقبل البلد ، ومع وجاهة حجج انقلابيي العاشر من يوليو فإن عددا من كبار الضباط عبر عن مواقف متحفظة على الانقلاب بعضها كان لأسباب تتعلق بالحزازات بين الضباط والعلاقة مع النظام المطاح به ، لكن بعضها الآخر كان لأسباب وجيهة تتعلق برفض مبدأ الانقلابات وعدم القناعة بقدرة العسكريين على إدارة السلطة، وهي القناعة التي كان يشاركهم فيها قائد الانقلاب نفسه العقيد المصطفى ولد محمد السالك الذي كان يردد على مسامع رفاقه في اللجنة العسكرية للإنقاذ أن العسكر لا يصلحون للحكم وأن ضباطا لم يستطيعوا تسيير وحدات وكتائب من الجيش هم اعجز عن تسيير مؤسسات ووزارات .

من أجل فهم ما جرى

ومع أن قادة الانقلاب عسكريين ومدنيين رفعوا ثلاث أهداف رئيسية لحركتهم هي ،تحقيق السلام ، الديمقراطية ، والإصلاح الاقتصادي ، إلا أنهم وجدوا أنفسهم فجأة في أتون صراعات معقدة على السلطة بفعل مخطط محكم وضع من أطراف داخلية وخارجية للعبث بمشروع الانقلاب وعرقلة تنفيذ أهدافه السليمة في أصلها ، لقد تسللت تلك الجهات إلى ضباط المؤسسة العسكرية من ثغرة الطموحات الشخصية وهشاشة التكوين الفكري وانعدام الخبرة في شؤون الحكم .بعد تورط الجيش في معمعان السياسة عقب انقلاب العاشر من يوليو ،وفي ضوء الخلافات التي عصفت بوحدة رفاق الأمس ،جرى مالم يكن في حسبان جماعة العاشر من يوليو ،لقد تمت عملية قرصنة كبرى للدولة والجيش والشعب من قبل زمر عسكرية ذات "أجندات خاصة" ، كانت هي المسؤولة الحقيقية عن السجل الحافل بالفساد والاستبداد والانحراف في مسار الدولة وضرب أسس الوحدة الوطنية والتأسيس للوثة الحكم العشائري والجهوي ، لقد كانت عملية القرصنة هذه جزء من ظاهرة أكبر تكررت في عدد من البلدان العربية وكانت تقف خلفها دوائر استخبارية أجنبية في إطار استراتيجية تكريس التخلف والتبعية والعبث بحاضر ومستقبل شعوب المنطقة ،من خلال إرساء تحالف شرير بين هذه الزمر الموتورة والدوائر الاستراتيجية الغربية .

ديكتاتورية فردية

لا يمكن للمراقب المنصف أن يحسب التركة الثقيلة للأنظمة خلال العقود الثلاثة الماضية على المؤسسة العسكرية،لقد كانت تلك الأحكام عبارة عن ديكتاتوريات موغلة في الفردية تساندها تجمعات نفعية من الزعماء القبليين ورجال الأعمال وشخصيات سياسية من خلفيات مختلفة، لقد عانت المؤسسة العسكرية خلال هذه العقود من الحيف والتهميش وعانت مما عانت منه بقية قطاعات الشعب الموريتاني ،ولذلك كان من الطبيعي أن تنتفض قطاعات من المؤسسة العسكرية صيف 2003م من أجل وضع حد للنظام القائم ، ،لقد كان جوهر مشروع تلك التحركات يتمثل في إقامة مرحلة انتقالية وتسليم السلطة لمن ينتخبه الشعب ،وهو نفس المشروع الذي فرض نفسه في الأخير على الجميع ،ووجد التطبيق الفعلي على يد قادة انقلاب الثالث من اغسطس 2005م ،وكان هذا البرنامج يمكن بالفعل أن يمثل مخرجا مشرفا للجيش من ورطة السياسة ،ويضمن للبلد عبورا آمن نحو المستقبل ،لولا أن الزمر الموتورة ذات الأجندات الخاصة كانت تتربص الدوائر بالجيش والشعب معا.

قناعة متزايدة

عشية تسليم المجلس العسكري للعدالة والديمقراطية للسلطة إلى الرئيس المدني المنتخب سيدي محمد ولد الشيخ عبدالله ، قال العقيد المتقاعد فياه ولد المعيوف في مقابلة مع مجلة أخبار الجيش عدد ابريل 2008م:"إنني أعتقد أن هناك تعارضا وظيفيا بين الجندية والسياسة، إن المهمة التقليدية للقوات المسلحة هي حماية الاستقلال والدفاع عن الحوزة الترابية للوطن، وقد أكدت هذه القوات خلال المراحل المختلفة على أهليتها الكبيرة في مجال الاضطلاع بهذه المهمة ،لقد كانت هذه القوات على موعد مع التاريخ حينما أنقذت البلاد في الثالث من أغسطس ،لتضع بذلك حدا لمرحلة انتقالية بدأت منذ العاشر من يوليو1978م لتنتهي عمليا وفعليا مع انتخاب رئيس مدني للبلاد،ووضع دستور وقوانين متطورة تنظم اللعبة الديمقراطية وتضمن تدولا سلميا للسلطة".
لقد أصاب الرئيس السابق العقيد اعلي ولد محمد فال كبد الحقيقة عندما قال :"أن انقلاب 06اغسطس 2008م كان تمردا عسكريا وليس انقلابا تقليديا منظما من قبل المؤسسة العسكرية" ، صحيح أن المؤسسة متماسكة ولله الحمد وتجد نفسها أحيانا مرغمة على السير خلف قادتها بفعل قيم الانضباط العسكري ،لكنني أزعم أن الجيش الموريتاني في تكوينه النفسي وعقيدته هو جيش جمهوري ولاتوجد لديه اعتراضات على الديمقراطية والحكم المدني وهو غير حريص على التشبث بالسلطة على النحو المزمن الموجود في بعض البلدان الأخرى ، وهو تطور يستحق التنويه والإشادة .

الأكثرية تضع حدا لحكم الأقلية

في تشريح عميق لواقع التحديات المحيطة بأنظمة الأقليات العسكرية في زمن الربيع العربي ،كتب المفكر والمؤرخ الفلسطيني الدكتور بشير نافع مؤخرا مقالا جاء فيه : إن نزوع أنظمة الحكم العسكرية إلى إعادة توليد نفسها واستمرار سيطرتها على الحكم والدولة لعقود طويلة من الزمن أصاب الفئات العسكرية الحاكمة بالتحلل ، لتنقلب الدوافع السياسية والاجتماعية المثالية المبكرة تدريجيا إلى رغبة جامحة في السيطرة المجردة على مقاليد القوة والثروة ، بل وصناعة طبقة حليفة من رجال الأعمال الوسطاء للشركات والمصالح والصناعات الأجنبية،و بانطلاق حركة الثورات العربية يتعرض حكم الأقليات الاجتماعية والطائفية والإيديولوجية لتحديات لم يواجه ها من قبل، تحديات توشك أن تطيح بكل أنظمة الحكم الأقلوية ،كما لم يحدث من قبل ،بفعل التسارع الهائل في وسائل الاتصال وتدفق المعلومات هذه المرة ، على أية حال ، لاتواجه أنظمة الحكم العربية تهديدا انقلابيا أو مؤامرة من حزب أقلوي آخر ، بل حركات شعبية واسعة النطاق ، بكلمة أخرى ، الأكثرية تضع نهاية لحكم الأقليات.

الجاليات

شكاوي

وكالة أنباء الأخبار المستقلة © 2003-2025