تاريخ الإضافة : 25.05.2013 12:46

في محراب الجمال (ح: 2)

الأستاذ / سيدي محمود ولد الصغير - كاتب وشاعر موريتاني مقيم بالكويت

الأستاذ / سيدي محمود ولد الصغير - كاتب وشاعر موريتاني مقيم بالكويت

لـُذْنا من ورطة الحديث عن اللحن في اللقاء الأخير بنقطة النهاية، وتفرقنا في مناكب الأرض نجأر بالتسبيح، ثمَّ قررنا أن أنعود – كما وعدنا – لنتابع جولتنا في محراب الجمال مع دليلنا الرائع؛ فعدنا.. فما ذا عسانا أن نقول؟

دعونا ننشدْ ما قاله الشابي أولا:
عذبة أنت كالطفولة كالأحـــــــــــــــــــــــــلام كاللحن كالصباح الجديد
كالسماء الضحوك كالليلة القمـــــــــــــــــراء كالورد كابتســــــام الـوليد

إن في ذالك لمتعةً لذي أثارةٍ من إحساس بالجمال..!

وكأن حديث "اللحن" بات مؤكدا فما ذا أصنَع؟! ..اللهم إني أكرَه "اللحن" منذ أن تناهى إلى مسمعي قول علي رضي الله عنه إن بعض اللحن بلاء..!

ذلك همٌّ آخر!

دعونا من اللَّحن المؤذي للأسماع، المفسد للأمزجة، المعكر لصفاء الأنس، واعرُجوا مع الحرف قليلا إلى عالم الأسرار حينَ يأذن الله لأستار الغيب أن تنكشف عن بعض وجوه
الإعجاز المخبوءة في العالم البديع!

أزيحو هذا الستار؛ ثم انظروا.. أو اسمعوا.. ما وراء تلك الأصوات؟!

إنها الحروف التي يتهجاها الأطفال في صباحات المدرسة، وينقشها المسنون في القراطيس الصفراء، إنها هي.. ولكن ما بالها تكتسي هذا البهاء الفريد لتُوَلِّدَ الأنغامَ المعجزات؟! وهي تتألَّق في صعود أو هبوط عبر حبال الصوت فتسحر المكانَ وتحبِس أنفاس الأثير! ثم تُبَادَلُ مواقعُها وتُعادُ مَوْضَعَتُها فتنهمرُ الألحان الطافحة من جديد...

وفي كل مرة يعاد الترتيب تتكشَّف "نفس الحروف" عن النَّغَم البكر؟! ما هذا السرُّ الرَّهيب؟ والأعجَبُ أن ينتقل ذالك البوْحُ المثير إلى الصَّوامت الجامدة، فإذا "بالعود" الذابل يتغنى كالعاشق الحزين، وإذا بـ"الرَّبابة" الميِّتة تتدفق بالنشيد العذب، وإذا "بالنايِ" المُخَرَّق سيدُ الوالهين! وإذا بهذه الأنغام المشجية تتصاقب معا في تكثُّف بَهِجٍ لتؤلف "سيمفونية" أخاذة القسمات!

ونجلسُ نحن على كراسيِّ التأمل أمام هذا المشهد الغريب، فلا نستطيع التأمل بيسر؛ لأن لتلك الألحان على النفس سلطانا يُدحرجها في اتجاهات النغَم ووِجْهات الألحان، لكننا ما نلبث أن نتماهى مع تلك الأصوات وكأنها إنما تصدر عنا نحن، فإذا بالشيخ الوقور منا يتذكر صباه ويعوده الفارط من عمره القديم، وإذا بالرجل الجـــــــادِّ يطارد أخيلة العشق على كثبان الذكريات، وإذا بالأم المُوَقَّرة غارقة في الدمع وعلى أطراف لسانها تمتمات "تبراع" كن لها مع مطالع الشباب، وإذا بالفتاة الناضرة سادرة في رسم صورة ملامح الغد القادم...

ما الذي يحدث يا رب؟!

وما هذا السر العجيب الذي تملكه الألحان؟!

إن في الألحان لما هو أبهر من ذلك، فقد ثبت – ولا داعي للتسليم بذلك – أن لها تأثيرا عضويا لتسلطها على المخ الذي يصدر إشارات للأعصاب تجاوبا مع طبيعة اللحن المثير، فلا عجب أن لحنا معينا يشعرك بالسرور، وآخر يبعثك على الحزن، وثالثا يمدك بالحماس، ورابعا يغشاك بالنعاس، وخامسا يمَنِّيكَ بشيء آخر!!

ولعلَّ هذا ما جعل الألحان منذ القدم تنبت قريبا من محاريب العبادة ومقامات التبتل والخشوع! وهذا نبينا صلى الله عليه وسلم يقول: (ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن) ويقول لأبي موسى الأشعري: (لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود)!

فهل نستطيع أن نجعل لحون الكون وأنغام الوجود تتجاوب بتسبيح بارئها الحكيم؟!

نقلا عن أسبوعية الأخبار إنفو

الجاليات

الصحة

وكالة أنباء الأخبار المستقلة © 2003-2025