تاريخ الإضافة : 03.05.2013 20:13

في محراب الجمال (ح1)

الأستاذ / سيدي محمود ولد الصغير - كاتب وشاعر موريتاني مقيم بالكويت

الأستاذ / سيدي محمود ولد الصغير - كاتب وشاعر موريتاني مقيم بالكويت

(1)
الكوْنُ مِحرَابٌ واسع الأرجاء لِمنْ أراد أن يَتَحنَّثَ فيه الأيام أو الليالي ذوات العدد، ومن كلِّ زاوية من زوايا هذا المحْرابِ الخاشع تنسدلُ محاريبُ فرْعيةٌ تجتذب صُنُوفا وأنماطا من العباد والمتبتِّلين، فيتحوَّل الكونُ إلى أصْداءٍ تتجاوبُ بالتسبيح الصَّاعد إلى الله، في معارجَ من صُنْعِه اللطيف.

واليوم يجتذبنا محراب الجمال، وتلك "شِنْشِنَتُه..." الأولى، ولكن من أيْنَ نتسوَّر هذا المِحرابَ حتَّى نرْميَ إليكمْ ببعضِ الوُرود المنثورَةِ في حضنه الخصيب..؟

لقدْ خطر لي أنْ أستعينَ بدليلٍ سياحي كما يفعله زُوَّارُ المتاحف والآثار، ولكن بشرط توافر خصال نادرة إذا استجمعها فهنيئا لكم برحلة سياحية ماتعة، وإلا فلنْ أغامرَ بِوقتكم الثمين.

ولنا في هذا الدليل شرط واحد مُركَّب: هو القدرة الفائقة على الإحساسِ بالإجمال والنفوذِ إلى التعبير عنه بأسمائه التي تفتح لنا بابا للتأمل الرحيب، وتطلق لنا أجنحة العقل لترفرف في المحراب الوسيع!

هــــــــــا كأني عثَرْتُ على الدليل؛ فهلْ لكُمْ في شاعرٍ عبقريّ باهرِ الريشة مجنح الخيال صادق الانفعال، يذوب حنينا واشتياقا، ويتبدَّدُ أسى واحتراقا كُلَّما مرَّ به طيف من نسيم، أو تراءى له قبس من نور، لينهض إلى معزفه يُدَاعِب أوتار الحرْفِ فينطقه بما يخلب الألباب.

أتصوَّر أنكم توافقون!

وإذن فهل سنكون مع دليل رحلة أم سيتحوَّل الدليل إلى مزار؟!

ذلك من أسرار هذه الرحلة المثيرة..

وموعدنا مع مطالع الإشراق.

(2)
هنا ينشر المحراب المدهش أجنحته بين الخافقين
تقدَّموا...
بسم الله
...
هذه بَوَّابة ُ أبي القاسم...
هل تسمعون الصوت...؟!

ذلك رجع صدى "شَبَّابَةِ" أبي القاسم الشابي يتناوح في الأرجاء..

ادلفوا إلى المحراب عندما يلتمع الضوء وارفعوا الأبصار تروا ذالك الكائن الحاني على قصبات الحرف يرتل عند الشروق (صلوات في هيكل الحب)، ثم دعونا من الهيكل.. مع الاعتذار – الوامق - للشاعر التونسي، فحسبنا درجتان من سلمه الموسيقي الواصل إلى المحراب الذي انتفشت فيه ذات صباح معشوقة ساحرة ناجاها الشاعر في تولُّه مجنون:
عَذْبَةٌ أنْتِ كَالطُّفُولةِ كَالأحـــْـــــــــــــلامِ كَاللَّحْنِ كَالصَّبَاحِ الْجَدِيدِ
كَالسَّمَاءِ الضَّحُوكِ كَاللَّيْلَةِ القَمـْــــــــــرَاءِ كَالْوَرْدِ كَابْتِسَامِ الـْــوَلِيدِ

هذا يكفي الآن! لا نريد المزيد...!

وتعالوا نتأمل لوحة الجمال (أو معالم المحراب) كما رسمتها ريشةُ هذا العبقري الصَّناعْ!.

بدون أي مقدمات وفي ما يشبه خلاصة تأمل روحي كثيف لم يَرْسُ الشاعر على أيِّ تعبير مألوف مما يتداوله الناس ليُقرِّطَ به مَسْمَع معشوقته الغض، فدنا منها؛ يتأمل ملامحها الوادعة ثم قال:

(عذبة أنت)...!!

يا لروعة الاختيار؛ من أين جاءته هذه العبارة المعجزة؟! ..إن من الكلمات لما يتفجر بطاقة روحية تفوق بلاغة التعبير!

وكيف سيجد ما يُشَبِّهها به في مقام التغزل الرقراق وقد اختار لها هذا الوصف المبتكر..

هنا تتفتق عبقرية الشاعر عما يشبه السحر وهو يقول: (كالطفولة )..

كل شيء يهجس بخاطر العاشق قِبَل المعشوق – عادة - سوى المعاني الفلسفية؛ فالحبُّ عدو الفلسفة، وغريم العقل!

الحبُّ لغة الوجدان ..ودفق العواطف ..ونزف الروح ..وحرقة القلب ..وذبول الجسم ..وشرود الفكر ..ومطاردة الأطياف ..وأوجاعُ الشـِّعْر ..والحنين إلى الظلال ..ومسامرة الخيال في الهزيع الأخير من الليل!.

والحب شَجىً آخر وحديث يطول!.

كلُّ ما قصدْتُه أن التشبيه غريب، وامسحوا ما وراء ذلك مما لم أكُنْ أريد!

فمن أين جاءت فكرة التشبيه؟!

لقد هبطت من ملكات الإحساس الخارق بروعة الجمال التي قادتنا إلى اختياره دليلا سياحيا ذا نكهة نادرة.

وما شأن الطفولة إذن؟!

أليسَ في الطفولة بهاء السحر، ونعومة الثغر، وتدفق الطهر، وأريج العطر..

أو ليست الطفولة هي الآدميَّةَ البكر؛ في طهرها المقدس ونعومتها الفاتنة وبراءتها النقية وحلاوتها المسكرة..

أو ليست الطفولة رَوْحَ الحنان، وأنسامَ الجِنان، وراحة الجَنان؟؟

اللهم بلى!!

والطفولة هي الجمال المصبوب، والأنس المسكوب، والنَّزَقُ المرغوب...

والطفولة هي بقايا الإنسانية الخالصة قبل أن تعكرَها الملوثات، أو يتصلَ بها درن الأرض.

"قطرة من ندى الطفولة تكفي لتحْليِة بُحيرة ملح أُجاج"!

ثم ما ذا بعد؟!

(...كالأحلام)!!...

الأحلام.. حيث ُ مُطــَّرَحُ الأحزان، ومُتَنزَّه المحرومين، وفردوس العشاق، وشواطئ الوصل، وغيبة الرقيب، وبلوغ الأماني، وسُقوط الجُناح!

ثم ما ذا...؟!

(كاللحن)!

اللحن...؟!

تلك مقدمات السُّكر، والرحلة مخصصة للتأمل!!

علينا أن نتوقف الآن لنستأنف الرحلة في وقت لاحق إن لم يكن حرج؟!

لكن خذوا دقيقة تسبيح قبل المغادرة..

ولْتَكْلأْكُمْ عنايةُ الرحمن.

نقلا عن أسبوعية الأخبار إنفو

الجاليات

شكاوي

وكالة أنباء الأخبار المستقلة © 2003-2025