تاريخ الإضافة : 14.03.2013 16:04

مع اللهِ في سبحات الفِكرْ!

بقلم: سيدي محمود ولد الصغير

بقلم: سيدي محمود ولد الصغير

لا تكادُ توجد سِمَةٌ أكثرُ التصاقا وأبعد غورا في ذات الإنسان من سمة التفكير، ولعل ذلك ما عناه المناطقة في تمييزهم للإنسان بـ"الناطق"؛ فهم لا يقصدون النطق "الببغائي" الأجوف وإنما يريدون النطق الذي يصدر عن عقل وملكة فكر، هي ما يميز الإنسان عن بقية جنس "الحيوان"، ولهذا كان الإنسان وهو يمارس عملية التفكير يحقق أسمى معاني إنسانيته ويرتفع إلى منطقة التكريم في ذاته الملهَمة.

(1)

وما أندى الحياة التي تخضَلُّ بالفكر وتشرق بأنوار التأمل؛ في ذات النفس وفي جنبات الكون وتباشر الاستكناه الدائب لأسرار الخلْق وبدائع صنائع الوجود، فيدوي في أنحائها التسبيح وتسكن إلى قنوت خاشع يصلها بالسماء ويفتح عيونها على جلال صنع الله ولطف تدبيره فترى يَدَ القدرة الباهرة وهيَ تُرتب ملكوت الكون وتدبر أمر الوجود في إحكام تام وطلاقة فريدة.

(2)

عمر بهاء الدين الأميري – رحمه الله - شاعر ومفكر سوري شهير عرف بشاعر الإنسانية المؤمنة، له ديوان شعري سماه (مع الله)؛ قبَسَ اسمه من أشهر قصائده (مع الله)، وهي إحدى روائع الشعري الإسلامي المعاصر؛ بما تضمنته من نفثات شعرية أخَّاذة، ومن صدق وجداني مؤثر، ومن روحانية إيمانية آسرة، وتكادُ تكون من فرائد الشعر الروحاني الذي تناهى إلينا، بل لعلها من أروعه بلا مبالغة، على ما بها من تكرار لبعض المعاني والأفكار لم ينل من شاعريتها الطافحة وعاطفتها المتوهجة.
ذهب – بها - الأميري في سبحات فكرية خاشعة من خلال معراجه التعبيري المخضَل بندى الإيمان فطاف بأرجاء واسعة من مجالي التأمل الرحب، بدأت من قرارة النفس، تعلو صعدا في تأمل لجوانب الذات، ثم ترتَدُّ - من فورها- إلى الأغوار ترفع عقيرتها بجلال العالم الباطن، حتى تُعجِزها الأسماء!.

ثم تعود تذرع عالم النفس المكشوفوتُجَلِّي عجائبه التي سلبتها الألفة جلالها وكساها الاعتياد ثوب الجفاء، وفي كل منها تستتر نعمة عظمى وينهض سعد فريد.
وتنتقل بين المحسوس والمدرك، وبين الجليل الفخم، واللطيف الخفي، وبين الصَّارخ المُسْمع والصامت المُسِرِّ، وهي تُلِح على المعية العليا وتتشبَّث بالركون الواثق إلى الله، في لازمة تفيض بالأنس وتتدفق بالإيمان.

مع الله في سَبَحات الفِكَرْ
مع الله في لمحات البَصَرْ
مع الله في زفراتِ الحَشا
مع الله في نبضات البَهَر
مع الله في رعشات الهــوى
مع الله في الخَلَجات الأُخَر"!

"مع الله في الخلجات الأخر"؛ لا تفتكم هذه العبارة؛ فما عادت الأسماء تسعف شاعرنا، ولكأن لهذه الجملة الشعرية الرائقة نسبا واصلا مع قول الله تعالى (وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى) (طه: 7).

وتتجاوز سبحات التأمل عالم النفس الإنسانية وما حولها، ولا تنتهي بأعالي الفلك وطباق السماء، بل تجتاز العالم الفاني إلى العالم الآخر، في تأمل ضارع، وتشبث واجف بركن الله.

وفي صدر كل بيت تجيش النفس المؤمنة - وهي تكابد الأهوال وتخوض عالم الأخطار - بكلمة السر ومفتاح النجاة: مع الله، مع الله، مع الله.

تذكرت هذه القصيدة قبل شهرين من الآن بعد ما رأيتني في "طائر" دُوَينَ السماء يمخر عباب الكون وقد صار ثبج البحر تحته، أرمي ببصري في المدى المتاح فلا أبصر إلا المزن المتراكبة، على حد ما وصف الله (ألم يروا إلى الطير مُسَخَّراتٍ في جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن في ذالك لآيات لقوم يؤمنون) (النحل: 79) وهي حالة وإن تكررت فإن فيها لعبرة لا ينبغي أن لا تغيب..

وفي الحق أن جلال الكون وعظمة الوجود لا تحتاج إلى تحليق بأجْوازِ السماء ففي كل لحظة تبصر من عجائب الكون وروائع الوجود ما يطير له قلبك مِزَقا؛ تنعما وجمالا، أو هيبة وجلالا..

وقد رأيتني قبل أسابيع في إحدى الليالي أخرج قبل صلاة الفجر فأرفع بصري إلى السماء فأرى أمرا مهولا وكأنه البحر – حقيقة – فوق الرؤوس والعمائر، عبَّرت عن اندهاشي حينها بخاطرة عنونتها بـ"بحر السماء" ربَّما أنشرها هنا لاحقا.

(3)

وليس مرادنا – الآن - تحليل هذه القصيدة أو التعليق عليها - في هذا الحيز- كاملة، وإنما نكتفي بهذه الومضات في سياق موضوعها وفي ظلالها، ونختم المقال خشية الإطالة أكثرَ ببعض الأبيات المختارة منها.

يقول عمر بهاء الدين الأميري:

مع الله في سَبَحات الفِكَرْ
مع الله في لمحات البَصَرْ
مع الله في زفراتِ الحَشا
مع الله في نبضات البَهَر
مع الله في رعشات الهــوى
مع الله في الخَلَجات الأُخَر"!
مع الله في أمسيَ المُنْقضِي
مع الله في غديَ المنتظَر
مع الله في عُنفوان الصِّبا
مع الله في الضَّعْف عند الكِبَر
مع الله قبل حياتي، وفيها
وما بعدها، عند سُكنَى الحفر
مع الله في نبذ ما قد نهى
مع الله بالسمع في ما أمر
مع الله في الجدّ من أمرنا
مع الله في جَلَسات السمر
مع الله في خلوات الليالي
مع الله في الرهْط والمؤتمر
مع الله في حبّ أهل التقى
مع الله في كُره من قد فَجَر
مع الله في مدلهمّ الدجى
مع الله عند انبلاج السَّحَر
مع الله في لألآت النجومِ
وحَبْك الغيوم، وضوء القمر
مع الله، والشمسُ تكسو الدُّنا
مع الله والشهبُ كرٌّ وفر
مع الله عند هزيم الرعودِ
ولـمْع البروق، ودفْق المطر
مع الله في الفَلَك المستطير
وفي الشمس تجري إلى مُستقَر
مع الله، في الأرض، في سهلها
وأوْدائها، والرواسي الكُبَر
مع الله في البحر مِلْحٍ أُجاجٍ
مع الله في سلسبيل النَّهَر

دمتم في معية الله.

نقلا عن أسبوعية الأخبار إنفو

المناخ

الصحة

وكالة أنباء الأخبار المستقلة © 2003-2025