تاريخ الإضافة : 27.07.2013 10:14

في آفاق رمضان

بقلم: سيدي محمود ولد الصغير

بقلم: سيدي محمود ولد الصغير


الإنسان مخلوق تتنازعه طبيعتان مختلفتان، تبعا لهيئة خلقه الأول، طبيعة الحمأ المسنون الذي هو أصله الجسماني، وطبيعة النفخة العلوية التي هي أصله الروحاني، فهو دائب لا يفتأ تتعاطاه جواذب الجسد الطيني الذي يشُدُّه إلى الأرض ودواعي الطبيعة الروحانية التي تعلو به إلى السماء، وكلما نزل مع جواذب الجسد اقترب من الحيوان البهيم، وكلما علا مع مع أشواق الروح اقترب من الملائكة، والعبادات تزكي الإنسان وترفعه إلى آفاق الروح بما تهذب من طبيعته وتشذِّب من غرائزه ولا سيما الصيام...

(1)
بلْ لا نبالغ إذا قلنا إن موسم الصوم الذي نعيشه الآن –شهر رمضان- هو موسم للروح تقريبا إذ يكون فيه العبد أقرب ما يكون من حقائق الغيب والإحساس بالعالم الآخر وكأنه يرى بمنظار الإيمان مع أول ليلة من ليالي رمضان أبواب الجنة تفتَّح وأبواب النار تغلَّق ومردة الشياطين تصفَّد، ويرى مواكبَ الفائزين تغادرُ كلَّ ليلة إلى الجنَّة حيث تتماهى في حسه صفوف المصلين القائمين مع صفوف الواقفين لتسلُّم مفاتيح الغرف من الجنة، وفي كل ليلة لله عتقاء من الناَّر، لكأنه يرى (بطاقات الأمان) توزَّع عن يمنيه وشماله فيهزه الإشفاق والشوق ويقول: يارب: وأنا ...،ثمَّ يخافُ أن لا يكون نجا، فيعاود السؤال، ثم يقبل على الله يتملَّقه في الليلة الموالية...وهكذا

(2)
ولا تغيبُ عن ذهنه فرحة الكون بشهر القرآن، القرآن الذي يكون له في هذا الشهر طعم خاص يناسبُ ذكريات تنزله الأول وهو يحيي موات الأرضِ ويبعث الروح في جسد الكون، ويخرج أمة العرب من سباتها العميق، وينعطف بالتاريخ في وجهة ليس له بها عهد، ويغير خريطة العالم وموازين القوى في طرفة عين(بعمر الزمن)...

يتذكر نبي الرحمة وهو يقرأ هذا الوحي المنزَّل إليه ويدارسه جبريل، فيشرئب عنقه وتمتد عيناه إلى ما عند الله فتهون عليه الدنيا ويستعذب البذل في سبيل الله، وهو في ذالك يفهم بشكل أعمق معنى حديث ابن عباس في الصحيح(كان رسول الله أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل وكان يلقاه في كل ليلة فيدارسه القرآن فلرسول الله حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة)!

3))
ثمَّ يجد متسعا للتأمل في المعاني التي يسكبها هذا الشهر في وجدان المسلم وهو يستعرضُ سيرته في التاريخ وأحداثه في ذاكرة الأمة حتى إذا تخيل خريطة الزمن كتلة واحدة رأى بُقع الضوء وأعمدة النور ترتفع من مواقع (شهر رمضان) على شكل انتصارات لا تنسى وفتوحات خالدة، تلتمع بينها غزوة بدر، وفتح مكة، ومعركة القادسية، وفتح بلاد الأندلس، ومعركة الزلاقة، وعين جالوت، وموقعة حطين، وحتى حرب أكتوبر(العاشر من رمضان) في العصر الحديث، فيعود يسائل نفسه عن السر وراء ذالك كله مع أن شهر رمضان شهر يشتغل الناس فيه بالصيام الذي يضعف القوة وينهك نشاط البدن!..فإذا هي الإرادة التي يشحذها الصوم، والانتصار على النفس في معركة تغيير ما بها هو الطريق الأوحد للانتصار في معركة تغيير ما بالواقع ودنيا الناس، وحبل الاتصال بالله الذي يقوَى ويشتد في مثل أجواء هذا الشهر وفي ظلال الصيام.

(4)
وفي ذالك من البشارة ما لا يخفى للذين يخوضون غمار معارك التغيير في ميادين الصبر وهم ينازلون الأحكام الظالمة والأنظمة الغاشمة، كما نشاهده اليوم في الشام، ومصر، فيجددون سمت الأولين، ويعيدون ضرب المثال في تفانٍ لا يصدق واستبسال لا يتمُّ بغير عون من الله. فلتهنِهم دعوات الصائمين وقنوت القائمين. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون
تقبل الله منا ومنكم ...

الرياضة

الصحة

وكالة أنباء الأخبار المستقلة © 2003-2025