تاريخ الإضافة : 13.04.2013 16:38

لماذا تركت المسرح؟ (4)

بداية النهاية..

الأستاذ / محمد الحسن ولد بوخوصه

الأستاذ / محمد الحسن ولد بوخوصه

واصلت مع الفرقة رغم عدم رضاي عن الأسلوب الذي ننتهجه في الكثير من الأعمال, ولكنني لم أكن صاحب القرار الأول فيها ولم يكن أمامي إلا أحد خيارين.. إما أن أنسحب.. أو أواصل على أمل أن أجد منفذا آخر قد يوصلني إلى ما أريد..

بحثت عبثا عن منحة للمسرح من "وزارة الثقافة" وكنت كلما ذهبت إليها أرجع حزينا على حال أهلها فهم أولى وأحق بمن يساعدهم (غلابه..) حاولت مع جميع المراكز الثقافية في نواكشوط.. حاولت مع الإذاعة الوطنية، وللعلم فالإذاعة كانت قادرة على ابتعاثي لدراسة المسرح ولم يكن الأمر ليكلفها أكثر من رسالة مختومة إلى أحد المعاهد الفنية في مصر أو الجزائر أو تونس.. رغم أني تعاونت كثيرا مع هذه الإذاعة في إنعاش الكثير من برامجها مجانا وكان القيمون عليها يعرفون قدرتي على تقديم المزيد لو أتيحت لي فرصة واحدة.. لكن للأسف الإذاعة كانت مجرد (إذاعة) لا أكثر ولا أقل .

ولكن..

أين التلفزة الموريتانية..؟

ألم يكن من الأولى بالتلفزة أن تؤطر أصحاب المواهب الذين طالما استغلتهم في إثراء شاشتها الكئيبة مقابل أبخس الأثمان..!

من يعرف قيمتنا كشباب موهوبين أكثر من التلفزة التي كسبت من ورائنا الأموال والانتشار وآلاف المشاهدين..؟

ومرة أخرى أقولها للأسف كانت مخيبة للآمال وقاتلة للمواهب... كانت هذه التلفزة تنام عاما وتصحو قبل الأعياد بأيام قليلة فتأتي مسرعة تبحث عن تسلية "للكبار".. فالكبار يجب أن يضحكوا مهما كلف الثمن... (ذوك التريكه افيلحين وخظونا منهم حلقة يوم العيد) ...أكاد أقسم أن هذه هي العبارة التي كان أصحاب النفوذ يقولونها لمدير التفلزة، فيأتي لاهثا يطلب حلقة خاصة بالعيد.. فلتكن حلقة أي حلقة سموها أرهاص العيد.. سموها الرقاية..سموها امديونه.. أو أي اسم آخر..لا يهم.. (جمطونا أروايه تظحك انوخظوها الذو الخلطه يوم العيد) وليذهب المسرح إلى الجحيم..!

وهكذا ينتهي العيد ونعود نحن إلى أحلامنا المسرحية الساذجة.. ننتظر ظهور مناسبة أو ترويج أو توعية صحية حتى يلتفت إلينا الآخرون..

طال انتظاري ولم يتغير الحال وبدأت أفقد الأمل وأفقد الثقة في هذا الطريق الذي سلكته.. شعرت بالندم والحيرة... ولمت نفسي كثيرا.. وفي غمرة هذا الضياع شاءت الأقدار أن أفقد إنسانا عزيزا على قلبي هو شقيقي الأكبر رحمه الله وكان بمثابة أبي وأخي ومعلمي كان يعني لي الكثير.. يهتم بي وينصحني.. يسامحني إن أخطأت ويدافع عني.. يشعرني بالثقة في نفسي.. كان يحاورني حوارا راقيا حول المسرح عكس الآخرين... كان يحضر العروض المسرحية ويبدي سروره بموهبتي.. كأن أروع إنسان عرفته في حياتي.. يا إلهي كم هو محزن فقد الأحباء..

بعدها.. أحسست أن الدنيا لم تعد تستحق العيش.. وضاقت بي الأرض بما رحبت.. ويعلم الله كم كنت سأضيع وأنتهي لولا حبُ أهلي وأصدقائي الذين انتشلوني من قاع الحضيض ووقفوا معي في تلك الساعات الحالكة.. أتمنى من الله أن يمنحني القدرة لأرد لهم ذلك الجميل الذي لن أنساه ما حييت..

ثم عدت من جديد إلى مجتمعي الصغير إلى المسرح فهو رغم كل شيء لا زال يحتل مكانته في قلبي ولم أستطع الإقلاع من إدماني عليه..
ظلت الفرقة تقدم عروضها ذات الطابع الاحتفالي، وأصبحنا نتقنها حيث كان العرض يتضمن عدة فقرات منها أغاني عربية مدبلجة ـ أغاني تراثية ـ اسكتشات مسرحية ذات طابع نقدي لاذع تناولت كل نواحي الحياة في المجتمع الموريتاني, لكن طابع السخرية الذي زاد عن الحد بدافع جذب الجمهور, كان في الغالب يقتل القيمة النقدية لتلك الأعمال..

ورغم ذلك فإن الفرقة أنتجت العديد من الأعمال المسرحية الساخرة المميزة وساهمت ولو بشكل غير مباشر في خلق ما أصبح يعرف بعد ذلك بالصحافة الموريتانية الساخرة.. (جريدة شطاري.. وشي إلوح افشي ورجل الشارع) كما أنها قامت بعشرات الرحلات المسرحية الداخلية والتي عرفت الكثير من سكان الداخل على هذا اللون الجديد من المسرح.. والأهم من كل هذا أنها جذبت الكثير من الشباب إلى الفضاء المسرحي من جديد فعادت الفرق والنوادي المسرحية وظهرت المنافسة, وخرجت إلى النور مواهب شابة كانت لها بصمات واضحة ومؤثرة فيما بعد..

وكان من الطبيعي أن تتعرض أعمال الفرقة للنقد من طرف الآخرين، وهنا وجدت نفسي أدافع في الجرائد والإذاعة عن منهج المسرح الشعبي ولست نادما على ذلك ولا زلت مقتنعا به كلون قابل للحياة.. لو وجد الرعاية والدعم ومن يحافظون على المبادئ التي أسس عليها, فقد استطاع أن ينتزع من جيب المواطن الموريتاني مبلغا ولو زهيدا ينفقه عن طيب خاطر مقابل الفرجة المسرحية وتلك خطوة كبيرة نحو الوعي بأن الحياة لا تعني الخبز والماء فقط.. وأن للروح احتياجاتها الثقافية والأدبية والفنية.. كما أن النسبة الكبرى من عامة المجتمع لم تكن تعلم بوجود المسرح في موريتانيا من الأساس، أضف إلى ذلك أنه حافظ على استمرارية المسرح بغض النظر عن النواقص الكثيرة التي طبعت مسيرته, ولولاه لكانت الحركة المسرحية دخلت في سبات عميق..

دارت الأيام وكبر أشقياء المسرح وزادت متطلبات الحياة وآن لي كباقي عباد الله أن أتزوج وأربي أولادا وأنعم بحياتي الخاصة..

تزوجت وأصبحت أبا لأول مرة في حياتي وبدأت الأسئلة الكبرى تحاصرني ..

حسني.. الآن.. ما دمت أصبحت أبا ومسؤولا عن إنسان آخر تسببت في قدومه إلى هذا العالم.. أما آن الأوان أن تقلع عن المسرح وتذهب في حال سبيلك كما فعل من سبقوك حين حاصرتهم الالتزامات الأسرية, فودعوا أيام المغامرات الجميلة ودخلوا معترك الحياة ليعيشوا واقعها بعيدا عن مسرح لم يستطع أن يقدم لهم حياة كريمة...!

أنت الآن مطالب بإعالة أسرتك الصغيرة التي لا معيل لها سواك..

أنت لم تعد حسني الكواس الأعزب المتنقل بين منازل أصدقائه تارة يبيت هنا وتارة يبيت هناك.. لقد اخترت أن تتحمل مسؤولية جديدة ويتحتم عليك أن تقضي ما يترتب عليها من حقوق وواجبات وأن تكون على قدر هذه المسؤولية..

...ماذا سأفعل وأنا الذي كبرت ولم أتعلم أي مهنة أخرى ولم أكمل تعليمي في الجامعة وليس لدي أي راتب شهري دائم..؟

يجب أن أعمل وأكسب رزقا كباقي الناس.. يجب أن أزاحم في الأسواق... أبيع وأشتري على الأقل.. فالتجارة في موريتانيا هي أبسط المهن.. ولا تتطلب دراسة ولا تخصصا... (فقط اشتري بضاعة وأقعد فأنت من تلك اللحظة يقال لك تاجر).

إذا هي التجارة.. ولم لا... ألم يكن أبي يتاجر وكانت أمي تاجرة.. القضية بسيطة.. علي أن أتنكر قليلا لشهرتي كنجم مسرحي وأن أبدأ في العمل..

وهكذا عملت في بيع الملابس لمدة سبعة أو ثمانية أشهر... وكنت أفشل تاجر عرفه التاريخ ههههههه ثم انتقلت إلى بيع الجوالات... دخلت السوق بمبلغ 200000 أوقية وخرجت منها بعد سنة مدينا بضعف هذا المبلغ..

..أدركت بعد تلك التجارب أن التجارة هي موهبة أخرى تماما كموهبتي ولكن الله منحها لآخرين غيري وتلك حكمة الله في خلقه

هذا تاجر.. وذاك مزارع.. وذلك حرفي ..إنها مواهبهم وقد عرفوا كيف يعيشون بها.. أما أنا فموهبتي غريبة وشاذة في هذه البلاد.. ولا يمكن أن تمنحني العيشة والطمأنينة التي يمتلكها الآخرون... ليس لأنها غير شريفة كما يدعون ...وليس لأنها حرام ..بل لأن مجتمعي لا يعترف بها ..فهي غريبة عليه وإن تقبلها فذلك سيكون على حساب كرامة صاحبها

ياااااااااه ..ما هذا الفشل الذريع .. الله يلعن التلفزة والإذاعة ووزارة الثقافة.. فلو أنهم قاموا بدورهم لكنت الآن أفكر في مهرجان عالمي أو في إنتاج فلم ضخم أو مسلسل.. بدلا من التفكير في خبز يومي..!

لا بد من وجود طريقة أخرى للكسب.. كيف ذلك ومن أي مصدر سأعيش..؟

..في المسرح عقودُ قد تملأ جيوبك بالمال أسبوعا ولكنك ستقعد عاما بلا دخل في انتظار أن يجد جديد

لا لا لا.. هذا لا يطاق .. ولا صبر عليه فأنا أستطيع أن أتحمل ضنك العيش وضيق الحال .. ولكن ما ذنب صغيري وما ذنب زوجتي...!

لا بد من وجود حل وعلي أن أفكر فيه..


العودة إلى الروح..

كيف سأرحل عن موريتانيا..(قلت في نفسي).

ألا يوجد حل آخر ..

أليس من الظلم أن أرمي كل هذه السنوات التي أهدرتها في المسرح وأرحل بكل بساطة..!

هل يمكن أن أقتل الهواية والحلم في لحظة انهزام..!

وكيف سأقتلهما..؟

هل أمتلك تلك العزيمة التي يقرر صاحبها قرارا مصيريا حين يسلم بالمنطق والواقع في لحظة ما.. ثم يحترم ذلك القرار مدى الحياة..

هل أنا حقا قادر على ذلك..!

كيف سأتحول .. من قلب الخشبة والأضواء.. إلى إنسان عادي.. يبحث عن رزقه.. يعمل وينام.. ويدخر لقادم الأيام..

ماذا سأقول لمن حولي... الجمهور والأصدقاء وكل من عقد علي أملا ذات يوم بأن أكون مشعلا ينير الظلمة الحالكة في درب هذا المجتمع المغلوب على أمره...

ماذا سأقول لعزيمتي وعنادي في حب المسرح.. هل سأقول أنني أنفقت أجمل أيام عمري على مجرد نزوة أو متعة عابرة..

وكم في العمر من عشر سنوات أخرى لأبدأ فيها من الصفر ولأكون إنسانا آخر..! تفاهات.. كلها تفاهات..

أفق يا حسني.. أنت تعيش في الخيال.. عن أي وطن تتحدت.. عن موريتانيا المسلوبة..؟

عن موريتانيا التي تقاسمتها ثلة من المفسدين وعاثت فيها خرابا...

أية حياة ترجو وأية نهضة تنتظر من بلاد (التبتابة) هذه..!

ألا ترى أنك تهذي فعلا يا حسني...

لقد أفسدوا هذا الذي تسميه وطنا.. لقد صادروا كل شيء.. حتى الأحلام في رؤوس الناس..

الجميع هنا يهلوس من شدة الجوع والظلم والمحسوبية.. المثقف ينافق ليعيش.. والشرطي يخون أمانته ليطعم أولاده.. والبنت الشريفة تبيع شرفها على الرصيف لقاء حفنة من النقود..!

المواطن خائن والموظف خائن والوزير خائن والزمن خائن..!

يا حسني.. لأي مجتمع ستنير الطريق..!

المجتمعات في بلاد الله الأخرى يقودها علماؤها وأدباؤها ومثقفوها ونحن... أتعرف من يرسم الطريق لمجتمعنا هذه الأيام..؟

أتعرف من أمسى يوجه تصرفاتنا, ويحدد نمط علاقاتنا...

المخنثون والقوادة..!

نعم... المخنثون والقوادة..!

إنهم سادتنا من حيث لا نشعر.. هل تستطيع أن تنكر أن تأثير المخنث في فكر المرأة وفي فكر الرجل عندنا أصبح أقوى من تأثير الصحفي والمثقف والفقيه..؟

هل تستطيع سيدة من سيدات هذا المجتمع الحائزات على أعلى الشهادات أن تشذ في طريقة لبسها أو في إقامة حفل زفافها أو في ترتيب أثاث بيتها أو حتى في طريقة حديثها عن ما يحدده المخنث الذي يتحكم في صديقاتها ويحدد لهن مالهن وما عليهن في هذه الحياة...

ماذا تنتظر من وزراء يبيعون وطنهم في أتفه الصفقات ليزيدوا إبلهم ونعاجهم... أو من تجار يبيعون الغذاء الفاسد.. أو من صيادلة يبيعون الأدوية المزورة لأبناء جلدتهم..!

هل يعرف رجال أعمالنا معنى ثقافة.. هل يفقهون قيمة الاستثمار في الأدب والفن..؟

يا حسني... لو كان في هذا الوطن عدل لما هجره الطامحون ولما هربت منه العقول والمواهب..

لو كان فيه منطق لما فشل أبناؤه في أحضانه وتميزوا ونبغوا حين هجروه... لو كان فيه حفاظ على مقدرات أو تثمين لطاقات لما كانت هذه حاله وحالك...

هاجر ..

سافر...

انطلق... فبلاد الله واسعة... وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى... وفيها لمن خاف القِلى مُتعزّلُ

كيف أهاجر...!

هل من العدل أن يؤخذ الوطن الأسير بذنوب المجرمين... هل سنهرب جميعا من هذا الوطن ونسلمه إلى هؤلاء الخونة العابثين... كيف سينهض إذا رحل الجميع... وكيف سيتعافى إذا خاف الجميع... وهل سيسامحنا إذا عدنا إليه ذات يوم...

هل يوجد وطن يغفر الخذلان من أبنائه الذين عرفوا علته ومرضه وتركوه يصارع الألم وحيدا... دعك من المثالية والفلسفة الخرقاء...

طيبتك هذه هي التي أوصلتك إلى ما أنت عليه...

ما أنت إلا كالآخرين... الجميع هرب لينقذ نفسه... ثم ماذا تستطيع أنت أن تفعل... هل ستنقذ موريتانيا وحدك...

دعك من هذيان الوطنية فهذه الكلمة لم تكتب في قواميس أغلب الموريتانيين... إنهم للأسف يطلقونها فقط على القرية التي ولدوا فيها أو البادية التي انحدر منها أجدادهم...

عد إلى نفسك... إلى أهلك... إلى حياتك التي هجرتها قبل عشر سنوات.. أنقذ نفسك أولا وبعد ذلك ساعد الآخرين...

عد إلى حضن أمك الحنونة... إلى إخوتك وأخواتك وعالمك الصغير الحقيقي.. عد من حيث أتيت أول مرة.. حسني ولد أحمد سالم ولد بوخوصه...

سافر واشتغل وادخر كالآخرين... ربي أولادك... جالس أصدقائك..

تمتع بوقتك فالعمر يمر والحياة قصيرة...

تنفس هواء الحرية أخيرا... بعيدا عن هذا العالم المجنون...

فأنت في الأصل إنسان قبل أن تكون فنانا...

تمــــــــــــــــــــــــــــــــــت

أعرف أن كلامي قد يكون جارحا لمشاعر البعض... لذلك سكت لسنوات طويلة عن الإجابة على سؤالكم... لماذا تركت المسرح...؟

والآن أرجو أن يسامحني الجميع على قسوتي... فأنا أعرف أنني أتكلم هنا عن وطني وعن أهلي وعن نفسي... ولكنني أحببت أن أتحدث بصدق وتجرد...

شكرا لكل من قرأ هذه الأوراق أو ألقى نظرة أو تكرم بإعجاب لها...

أعتذر أيضا للغة الضاد الكريمة عن أي هفوة إملائية...

كامل الود...

نقلا عن أسبوعية الأخبار إنفو

الجاليات

الصحة

وكالة أنباء الأخبار المستقلة © 2003-2025