تاريخ الإضافة : 08.04.2013 12:32

لماذا تركت المسرح؟ (ح: 3)

فرقة المسرح الشعبي ونظرة المجتمع

الأستاذ / محمد الحسن ولد بوخوصه

الأستاذ / محمد الحسن ولد بوخوصه

من الصعب أن أحكم بحياد على فرقة المسرح الشعبي , ببساطة لأنني كنت من بين المؤسسين لها ومن أبرز أعضائها, لكنني سأحاول جاهدا أن أضع بين أيديكم تلك التجربة الطويلة بنجاحاتها وإخفاقاتها.

لقد تم تأسيس المسرح الشعبي ليخاطب الفئة العريضة من عامة الشعب الموريتاني, وهي فئة في غالبها غير متعلمة، وبالتالي فلن يكون الخطاب الموجه إليها خطابا رمزيا نخبويا كما كان أيام المسرح لكلاسيكي العريق, بل يجب أن يكون خطابا شعبيا يخاطب الناس بلغتهم التي تفهمها الغالبية وهي الحسانية هنا.

كما كان من بين أهداف هذا المسرح الجديد أن يخلق مصدرا ماليا للمنتسبين له, يحفظ لهم بعض كرامتهم في مجتمع لا يعترف إلا بالمادة والمظاهر البراقة, زد على ذلك أن انعدام الدخل المالي كان من أهم الأسباب التي أفشلت التجارب المسرحية السابقة, حيث لم يجد المنتسبون للمسرح مصدرا للدخل، ولذلك تفرقوا مرغمين تحت وطأة الظروف الصعبة باحثين عن ما يؤمن لهم حياة كريمة كباقي الناس..

أضف إلى ذلك أن نجاح هذه التجربة سيعني أن مسرحا موريتانيا حقيقيا سيخرج من رحم اللغة والثقافة والموروث الشعبي الموريتاني، وتلك ستكون مهمة نبيلة تستحق العناء, فالفرق شاسع بين مسرح يقلد الآخرين ويستنسخ تجاربهم وبين مسرح يحاول أن يجسد الشخصية الموريتانية بكل أبعادها دون أن يهمل الأبجديات الفنية للعمل المسرحي المعروفة لدى الجميع.

ومن هذا المنطلق بدأنا العمل وأذكر أن العرض الأول المعوض الذي أقمناه في دار الشباب الجديدة لم يحضره إلا أعضاء الفرقة أو عريس وعروسة كانا بالصدفة يقضيان أسبوع عسل في النزل التابع لدار الشباب..!

لكن عزيمة الأعضاء لم تلن بل اعتبروا هذه دعوة للتحدي من أجل الوصول إلى النجاح المنشود, ولا أنسى مقولة المخرج أحمد في تلك الليلة حين قال لا تقلقوا في المرة القادمة (ادورو تبالو الفظه بيكم كثرتها)، وفعلا نجح العرض الثاني وحقق دخلا كبيرا وخياليا بالمقارنة مع مداخيل العروض المسرحية السابقة حيث تجاوز 200000 أوقية..!

هذا المبلغ الكبير في تلك الأيام كان كفيلا بدفع رواتب للممثلين وتغطية تكاليف العرض وهو لا شك محفز كبير لمواصلة العمل, وهكذا توالت العروض وتضخمت المداخيل ومن ثم بدأت الفرقة تتعاقد مع الكثير من المؤسسات كالتلفزيون والإذاعة والهيئات الدولية لإقامة العروض الترويجية والتوجيهية مقابل مبالغ ضخمة من المال تجاوزت أحيانا 5 ملايين أوقية في التعاقد الواحد.

ولكن..!

في ذروة هذا الانتشاء بالمكسب المادي الكبير بدأت القيمة الفنية والأدبية للعمل تهبط وتتناقص بسبب التركيز على الاسكتشات الساخرة التي من شأنها أن تدر المزيد من النقود إلى خزينة الفرقة.. ثم بدأت الصراعات الداخلية بين أعضاء الفرقة أحيانا بسبب التعويضات المالية وأحيانا بسبب عدم الالتزام من طرف بعض الأعضاء بالعمل داخل نطاق الفرقة ومحاولة الاتفاق والتعاقد على الترويج والعروض دون الرجوع إلى الإدارة..

في هذه الأثناء كنت قد بلغت العشرين وبدأت أكتشف ذاتي المجتمعية (محمد الحسن ول بخوصه من قبيلة عريقة وسليل أسرة عرفت بالصلاح والعلم والورع..!) في ما مضى كنت طفلا شقيا من أطفال "سيزيم" أتسكع في شوارعها وأسواقها بعيدا عن مقاعد الدراسة التي لم يكن يستهويني من دروسها إلا القليل كمادة اللغة العربية والتاريخ والجغرافيا أو بعض النشاطات الثقافية النادرة, ورغم أني كنت أنجح متفوقا وأحصل على الرتبة الأولى والثانية إلا أنني كنت كسولا مخاصما للدراسة وأبحث عن أي عذر يبعدني عنها.

وطبعا لم أكن لأثير انتباه أحد كالكثير من أقراني الذين عاشوا نفس الحياة في تلك الفترة.

أما الآن فقد أصبحت معروفا لدى الجميع وأدخل كل بيت من بيوت موريتانيا عن طريق الشاشة الصغيرة وأصبحت مثارا للجدل ومادة للتندر خاصة عند الذين يعرفون من أكون ومن أي قبيلة..

في بداية التحاقي بالمسرح لم يكن رد فعل الأسرة قويا ربما لأنهم اعتقدوا أنها مجرد نزوة عابرة سأعود بعدها حسني المغامر وسوف أبحث عن مغامرة أخرى تأخذني إلى طريق لا شك سيكون أفضل من طريق المسرح... ومهما يكن فالمسرح أفضل من الضياع أو الانحراف وما أكثرهما في تلك الأيام..

والآن وقد أصبحت معروفا ولم أعد طفلا فيجب أن أدرك من أنا وما الذي يجب أن أفعله وما الذي يجب أن أتجنبه لأستحق اسمي ونسبي وقيمتي الاجتماعية..!

وفي عرف المجتمع الموريتاني الجديد.. يحق لك أن تسرق وتتاجر في السموم وأن تبيع البشر وأن تكذب وتتحايل وأن تفعل كل المحرمات التي لا تحصى ولا تعد في سبيل أن تعيش ولكن... إياك إياك أن تدنس شرفك فكل ما سبق لا يعتبر تدنيسا للكرامة ولا للشرف بل هو "تفكريش" وشطارة ونجاح..

أما المسرح والغناء فتلك قمة العار والفضيحة والدنس والخنى والانحطاط..! خاصة إذا كنت سليل أسرة عريقة وقبيلة معروفة.. يجب أن تمنع بأي طريقة فأنت عارٌ ولا تجلب إلا الخزي وانحطاط الدرجة.. يااااااااااااه.. كل هذا بسبب الغناء والمسرح..؟


(يبويا أنت ول الصالحين وارانك انفظحت واخليت..!! يملانه العافية ول الناس المعلومه يحامر..! امسيكينه الناقصه بعد ماتلات تحشم..!! العافية كالكم عن هذا ول بخوصه..!!).

صدقوني لقد سمعت من العيب والذم والقذف ما لم يسمعه بشر،
ولكن عيبي الكبير كان في طبيعة العناد الغبية التي تملكتني وتركتني أضرب عرض الحائط بكل تلك التفاهات المقدسة, بل كنت أعرف كيف أمحو ألمي وأغسل قلبي من الحزن كلما تراكمت علي الهموم, وطالما أني مقتنع بهذه الطريق فلا قوة على وجه الأرض تستطيع منعي أو تحييدي عن ما أريد..

ولم يكن يحز في نفسي سوى الحزن الذي ألحظه في عيون أمي فتلك النظرات وحدها كانت أقسى علي من عذاب ألف سنة أو من دموع أختي حين كانت تبكي حسرة على ما جنيت في حق نفسي وفي حق أهلي..!

أما الأقارب البعيدون فكنت أشعر بالغضب منهم حين أسمع عنهم بعض الأقاويل.. وكنت أتعجب في نفسي وأقول ليتني ولدت مقطوعا من جذع شجرة حتى أعيش كما يحلو لي دون رادع أو عذول..!

الآن عرفتني القبيلة واكتشفتني بعدما كنت نسيا منسيا وكان بإمكاني أن أعيش وأموت دون أن يفطنوا حتى لوجودي.. الآن أصبحت شيئا مخيفا لهم ومستهجنا.. أو قل ما تشاء في وصفي فلن تستطيع التعبير عن مدى السوء الذي سببته لهم.

يااااااااااه ..ليتني بقيت طفلا أو كنت إنسانا آخر من كوكب بعيد.. ولكن هيهات هيهات فأنت فلان ابن فلان وتعيشُ في مجتمع البيظان، وللبيظان قوانينهم وعاداتهم وتقاليدهم فإما أن تتلبسها وإما فأنت الملعون والمنبوذ.. (لا توجد منطقة وسطى ما بين الجنة والنار).

يا إلهي كيف سأواصل في المسرح رغم كل هذا الجحيم المستعر داخل وجداني..؟ على الأقل يجب أن أمارسه بنبل وأن أحاول قدر المستطاع أن أحمل رسالة ثقافية حضارية أستطيع بها أن أتحجج أمام ضميري المجتمعي حين يبدأ في جلدي بسياطه كلما آويت إلى الفراش لأنام..

ولكن أية رسالة..؟

وأي مسرح ..؟

هل سأسمي تحصيل المال وإضحاك الناس والترويج والشحلقة في كل مناسبة مسرحا..؟

ألم يصبح هذا المسرح مجرد دكان يدر الدخل الوفير ويضرب عرض الحائط بكل القيم الفنية والأدبية التي يجب أن تتوفر في أي عمل ثقافي محترم..؟
أين المفر.. هل أعلن انهزامي وأرمي كل شيء.. أم أواصل في هذه الفوضى؟
الانهزام سيقتلني ويصغرني أمام نفسي وأمام الآخرين... لا.. لا .. يجب أن أواصل بأية طريقة حتى أصل إلى القمة على الأقل ثم أنسحب انسحابا مشرفا..!

بداية النهاية..

واصلت مع الفرقة رغم عدم رضاي عن الأسلوب الذي ننتهجه في الكثير من الأعمال, ولكنني لم أكن صاحب القرار الأول فيها ولم يكن أمامي إلا أحد خيارين.. إما أن أنسحب.. أو أواصل على أمل أن أجد منفذا آخر قد يوصلني إلى ما أريد..
بحثت عبثا عن منحة للمسرح من "وزارة الثقافة" وكنت كلما ذهبت إليها أرجع حزينا على حال أهلها فهم أولى وأحق بمن يساعدهم (غلابه..) حاولت مع جميع المراكز الثقافية في نواكشوط.. حاولت مع الإذاعة الوطنية، وللعلم فالإذاعة كانت قادرة على ابتعاثي لدراسة المسرح ولم يكن الأمر ليكلفها أكثر من رسالة مختومة إلى أحد المعاهد الفنية في مصر أو الجزائر أو تونس.. رغم أني تعاونت كثيرا مع هذه الإذاعة في إنعاش الكثير من برامجها مجانا وكان القيمون عليها يعرفون قدرتي على تقديم المزيد لو أتيحت لي فرصة واحدة.. لكن للأسف الإذاعة كانت مجرد (إذاعة) لا أكثر ولا أقل .

ولكن..

أين التلفزة الموريتانية..؟

ألم يكن من الأولى بالتلفزة أن تؤطر أصحاب المواهب الذين طالما استغلتهم في إثراء شاشتها الكئيبة مقابل أبخس الأثمان..!

من يعرف قيمتنا كشباب موهوبين أكثر من التلفزة التي كسبت من ورائنا الأموال والانتشار وآلاف المشاهدين..؟

ومرة أخرى أقولها للأسف كانت مخيبة للآمال وقاتلة للمواهب... كانت هذه التلفزة تنام عاما وتصحو قبل الأعياد بأيام قليلة فتأتي مسرعة تبحث عن تسلية "للكبار".. فالكبار يجب أن يضحكوا مهما كلف الثمن... (ذوك التريكه افيلحين وخظونا منهم حلقة يوم العيد) ...أكاد أقسم أن هذه هي العبارة التي كان أصحاب النفوذ يقولونها لمدير التفلزة، فيأتي لاهثا يطلب حلقة خاصة بالعيد.. فلتكن حلقة أي حلقة سموها أرهاص العيد.. سموها الرقاية..سموها امديونه.. أو أي اسم آخر..لا يهم.. (جمطونا أروايه تظحك انوخظوها الذو الخلطه يوم العيد) وليذهب المسرح إلى الجحيم..!

وهكذا ينتهي العيد ونعود نحن إلى أحلامنا المسرحية الساذجة.. ننتظر ظهور مناسبة أو ترويج أو توعية صحية حتى يلتفت إلينا الآخرون..

طال انتظاري ولم يتغير الحال وبدأت أفقد الأمل وأفقد الثقة في هذا الطريق الذي سلكته.. شعرت بالندم والحيرة... ولمت نفسي كثيرا.. وفي غمرة هذا الضياع شاءت الأقدار أن أفقد إنسانا عزيزا على قلبي هو شقيقي الأكبر رحمه الله وكان بمثابة أبي وأخي ومعلمي كان يعني لي الكثير.. يهتم بي وينصحني.. يسامحني إن أخطأت ويدافع عني.. يشعرني بالثقة في نفسي.. كان يحاورني حوارا راقيا حول المسرح عكس الآخرين... كان يحضر العروض المسرحية ويبدي سروره بموهبتي.. كأن أروع إنسان عرفته في حياتي.. يا إلهي كم هو محزن فقد الأحباء..

بعدها.. أحسست أن الدنيا لم تعد تستحق العيش.. وضاقت بي الأرض بما رحبت.. ويعلم الله كم كنت سأضيع وأنتهي لولا حبُ أهلي وأصدقائي الذين انتشلوني من قاع الحضيض ووقفوا معي في تلك الساعات الحالكة.. أتمنى من الله أن يمنحني القدرة لأرد لهم ذلك الجميل الذي لن أنساه ما حييت..

المناخ

الثقافة والفن

وكالة أنباء الأخبار المستقلة © 2003-2025