تاريخ الإضافة : 31.03.2013 16:46

لماذا تركت المسرح؟

- الحلقة الثانية

الأستاذ / محمد الحسن ولد بوخوصه

الأستاذ / محمد الحسن ولد بوخوصه

كان الطموح لدى الشباب كبيرا في تلك الأيام برغم انعدام الدعم للمسرح، والإهمال الذي تعاني منه الثقافة الموريتانية آنذاك..فقد كانت الفرقة تضم الكثير من الأعضاء، وكانت التدريبات تجري بشكل يومي على الخشبة، وكانت العروض المسرحية تتوالى، والتنافس على أشده بين الفرق المسرحية، كفرقة "الخلاص الوطني"، وفرقة "المرابطون"، والكثير من النوادي الأخرى..
كان العمل ينتج من جيوب الأعضاء والمتبرعين القلائل، ولم تكن هناك رواتب ولا تشجيعات مادية للممثلين.. ورغم ذلك فإن العروض كانت تنجح في استقطاب الكثير من الناس، وكانت ممتعة لمن مارسوا المسرح في تلك الأيام، وذلك هو ما كان يهمني أنا بالدرجة الأولى، فهناك.. كنت أجد نفسي مجردا من واقعي الذي كان تعيسا كواقع أغلب المراهقين في أحياء نواكشوط ..باختصار كنت هناك أحلم كثيرا .. وأنسى كثيرا.. واستمتع كثيرا..

وفي قمة ذلك العطاء سافرت مع أصدقائي في إطار مهرجان الشمال الذي نفذته الفرقة في مدينتي أطار وشنقيطي، حيث تلقيت أول الدروس القاسية

مهرجانُ شنقيط المسرحي.. مزيجُ المتعةِ والألم

قال سالم ولد دندو بحماسته المعهودة: "يجب أن نسرع .. يجب أن نسرع إلى شنقيط فأعضاء الفرقة ينتظرون وصولنا بفارغ الصبر ويجب أن نلحق بهم قبل موعد انطلاق المهرجان..".

كنا قد بقينا في نواكشوط أنا وسالم وبعض الأعضاء الآخرين لنشارك في تصوير مسرحية (الحب للجميع)، حيث تم التعاقد مع التلفزة الموريتانية لتسجيلها مقابل مبلغ 60000 أوقية، وكان هذا المبلغ يعني لنا الكثير، وكيف لا ونحن بصدد تمويل مهرجان مسرحي ضخم على حساب جيوبنا الهزيلة..

وللأمانة فإن وزارة الثقافة قد ساعدت بأجهزة للصوت ــ في بادرة نادرة ــ كمساهمة منها في دعم المهرجان, ولكن المجهود الأكبر كان على حساب الأعضاء, إلا النزر اليسير، مما جادت به القلة من نخبتنا المتعاطفة مع المتمسرحين.

...وصلنا مدينة أطار وأقمنا هناك أسبوعا في مخيم كشفي صيفي تابع لإدارة الشباب والرياضة,ورغم أن ضيوف المخيم كانوا أطفالا في معظمهم، إلا أننا لم نشعر بالغربة,بل اندمجنا معهم ولم نشعر بفرق كبير بيننا وبينهم سوى أننا نكبرهم بسنوات قليلة، ونحمل أكثر منهم لبعض الأحلام والهموم..
... لم نكن ضيوفا ثقلاء في المخيم, بل قدمنا عروضا ترفيهية وتوجيهية للأطفال، واستمتع الجميع ..قبل أن نحزم حقائبنا بعد أسبوع مرة أخرى متوجهين إلى المدينة العريقة ..

كانت أصوات الزغاريد، وقرع الطبول تمتزج بصوت زميلي الطالب ولد سيدي (منعش الحفل)، ولا أنسى كلماته التي كان يرددها عند وصولنا شنقيط في تلك الليلة الصيفية الجميلة.. فكان يقول بحماسة: "شنقيط المدينة ترحب بشنقيط الفرقة .. شنقيط المدينة .. ترحب بشنقيط الفرقة...."، كأنه بكلماته تلك كان يطمئننا نحن القادمون الجدد إلى أن كل الأمور المتعلقة بالمهرجان على ما يرام، ولا يجب أن نحمل هما ولانفكر إلا في ما جئنا من أجله.. فمدينة شنقيط مستعدة ومتلهفة للمهرجان..
مدينة شنقيط .. حيث تستريح النفس ويصفو الخيال وتتلمس الروح شوق آثار الأجداد الذين صنعوا لهذه البلاد شأنا عظيما ذات يوم... هي تغريك أيضا بصفائها ونسيمها الصحراوي وبطيبة أهلها اللا متناهية,فلا يسألونك من أنت ولا من أين أتيت .. بل يشعرونك بأنك بين أهلك وأحبابك بكل ما تعنيه الكلمة..

وعند وصولنا لم تكن شنقيط تحتمل صبرا أكثر.. بل كانت تتوق إلى البداية وافتتاح المهرجان.. ولم نكن نحن أيضا لنرضى بأن نخيب رجاءها, فبرغم الإرهاق الشديد نسينا أنفسنا وبدأنا مع الفرقة أول العروض في المهرجان، وباتت المدينة الجميلة في سمرها المسرحي تلك الليلة حتى شبع الجميع سهرا..

انتهت أمسية العناق الطويل بين الفرقة والمدينة، وذهبنا إلى حيث نقيم, ففي شنقيط يمكن أن تقيم عند من تريد فالكل طيبون وكرماء, لكن الشيخ الصالح دادي ولد بادين أبى إلا أن تقيم الفرقة بكل أفرادها عنده في (الدايرة)، وهي بيته وسكن مريديه ومعجبيه .. لقد كان هذا الشيخ الشاب نموذجا في الكرم والبساطة والشهامة, فليس من السهل أن ينفق أحدهم على هذا العدد الكبير من الناس لمدة شهر كامل، وأن يتحملهم طيلة مقامهم بكل هذه الأريحية وهذا السخاء..

تقسم الجميع إلى خلايا للعمل من أجل الافتتاح الرسمي للمهرجان وتم تجهيز كل شيء في ظرف قياسي، ووقع الاختيار على المنصة العتيقة التي بنيت في الستينات لاستقبال الزعيم الراحل معمر القذافي, إذ كانت لا تزال منتصبة في جانب بطحاء شنقيط, فقررت الفرقة أنها ستكون مكانا مناسبا للافتتاح نظرا لأنها تتوسط المدينة وبإمكان الجميع الوصول إليها دون كبير عناء.

وفي المساء بدأ الحفل وتوالت خطب الافتتاح التي اختلط فيها الفن بالإرشاد، والسياسة بالتوجيه بحسب تعدد مشارب الخطباء، وأتذكر جيدا أنني كنت واقفا بجانب العازف محمد ولد خطرة في وسط الخشبة تحت جدار المنصة الذي اعتلاه العشرات من جمهور المهرجان لكي لا يُفوتوا مشاهدة الحفل الذي اقتربت بدايته

"كوم عني...كوووم عني كاني أنكد نتحرك.." تلك أول الكلمات التي أتذكر أنني نطقتها ..
...الظلام والغبار والصراخ المؤلم والأنات تملأ المكان ..
يا إلهي ماذا يجري..

صرخت على صديقي عازف "الأورك" محمد ولد خطره، وكان محاصرا بين الصخور والأتربة والحطام فوق ظهري تماما.. أو هكذا تخيلت ..
كوم عني كانيأنكد نتحرك..

قال في ذهول.. أنا لست فوقك يا صاحبي..

...إننا فقط نهذي بلا وعي من الألم والحيرة في محاولة لقول أي شيء نثبت به لأنفسنا أننا أحياء..

في السيارة أخيرا أدركت بعض ما يحدث من خلال حديث الإخوة الذين انتشلوني من تحت الحطام وأسرعوا بي إلى المستشفى ... فقد كانوا يتحدثون عن عدد الإصابات والمصابين وأسباب الانهيار..!

نعم لقد انهارت المنصة على رؤوس الجميع (ممثلين وجمهورا..)، وقال البعض إن الانهيار كان بسبب مولد الكهرباء الذي وضع خلف المنصة، وبسبب تزاحم الجمهور فوقها.. في حين قال آخرون إن المخابرات هي من تسببت في الانهيار، لأن من بين أعضاء الفرقة قوميون ثائرون كانوا يحرضون على الدولة في خطاباتهم.. وأن الدليل على ذلك هو الناس المجهولون الذين كانوا يلتقطون الصور في الوقت الذي كان فيه الآخرون يهرعون لنجدة الشباب القابع تحت الحطام، ولا شك أنهم من مخابرات الرئيس معاوية الذي سيزور المدينة بعد أيام، وربما بإضعافهم للفرقة يشغلونها في معاناتها خوفا من إثارة المشاكل في المدينة أثناء الزيارة الوشيكة..

بات الجميع تلك الليلة في مستشفى المدينة الصغير .. فهناك في الزاوية يرقد سيد المختار ولدالنامو جريحا، وبجانبه الفنان التشكيلي الموهوب أحمد ولد أعمر، وذلك محمد ولد الخراشي، وفي الخلف هناك الولي ولد الشيخ يب، يتلقى الإسعافات الأولية..

في قمة هذه الدهشة كنت أجول بنظري في الأرجاء مذعورا لهول ما حصل، ولهذا التحول العجيب الذي حدث بسرعة غريبة..!

يا الله.. الجميع هنا مصابون ..لقد تحول الحفل الكبير إلا معاناة وألم ..الحمد لله على كل حال ..أنا حي أرزق، ولم أفقد أحدا من أصدقائي .. هناك جراح متفاوتة لدى الجميع، لكنهم أحياء..

وقفت بعدما ضمدت جراحي إحدى الممرضات وبدأت أتفقد نفسي من جديد .. وتأكدت أنني أصبت في ظهري إصابة مؤلمة، وفي ساقي، ولكن هول المنظر والأحاديث من حولي أنساني معاناتي.. فقد سمعت أن أحد الأصدقاء نقل إلى مدينة أطار للعلاج، وأن آخر ربما ينقل أيضا في الصباح إذا لم تتحسن حالته..!

هل انتهى كل شيء..؟
متى إذن سنعود إلى أهلنا..؟
وما الذي سيحصل ..!

أسئلة كثيرة راودتني وأنا أبحث عن حذائي الذي يبدو أنه بقي تحت حطام المنصة..لا بأس هذه بقايا من دراعتي رغم أنها أصبحت كخرقة بالية ممزقة ومليئة بالغبار..
إنها ليلة طويلة ..مؤلمة، والأكثر إيلاما فيها أننا لا نعرف ما الذي سيسمعه أهلنا عنا, فالناس تحب تضخيم الأحداث، وفي ذلك الحين لا توجد الجوالات فالتاريخ كان صيف 1993، لكن العزاء الكبير كان في التعاطف الذي وجدناه من قبل سكان شنقيط,فقد حضر الجميع إلى المستشفى، وقدموا المساعدات وتمنوا الشفاء لنا، وأغدقوا علينا بكرمهم الأصيل..

..في الصباح أشرقت شمس أول يوم بعد الحادث، واستيقظ الجميع في المستشفى، وبدأنا يواسي بعضنا بعضا، ونشد من العزم، ومن الغريب أننا اتفقنا جميعا على مواصلة المهرجان في ذلك الصباح برغم كل ما حصل.. إنه الشقاء الذي يسكننا كهواة للمسرح, فيذيب كل العقبات ويهون كل المصائب في نظرنا..

ولكن ماذا عن الأهل هناك بعيدا في نواكشوط .. كيف سيكون وقع الخبر على أمي ..وأمهات أصدقائي .. ومن سيأتي ..هل ستنقلنا الوزارة بعد أيام إلىنواكشوط وتعالجنا وتواسينا وتخبر أهلنا بالخبر اليقين..؟ أليست هي الوزارة التي يفترض بها أن تكون وصية علينا .. ..!

لست أدري ماذا سيحدث !! ومهما يحصل .. يجب أن أكون مع زملائي في ما يقررون، وقد اتقفوا على الاستمرار في المهرجان والبدء من جديد على الرغم من أن كل الأجهزة قد دمرها الانهيار بما فيها أجهزة الصوت التابعة للوزارة، والتي انتزعناها بصعوبة بالغة,وتعهدنا بإرجاعها سليمة في الوقت المحدد.
يتواصـــل

الرياضة

الصحة

وكالة أنباء الأخبار المستقلة © 2003-2025