تاريخ الإضافة : 30.03.2013 15:26

زمانُ الوصْلْ!

الأستاذ / سيدي محمود ولد الصغير - كاتب وشاعر موريتاني مقيم بالكويت

الأستاذ / سيدي محمود ولد الصغير - كاتب وشاعر موريتاني مقيم بالكويت

لا شيء يثير التباريح أكثرُ من الذكريات التي تطوي حواجز السنين، وتعيد القلب إلى ماضٍ لم يبق منه إلا حرقة الحنين.

وعجيبة هي الذاكرة حين تغمرك بتفاصيل الزمان المنصرم ، فتعرضه أمامك بالعدسة المبكرة فتفتَنُّ في العرض والإغراء ، ثم تُمِرُّ يدَها الآسيةَ على جراح الدهر وندوب الوصال فتعيدها خلقا آخر، فيستحيل الزمان الضائع إلى نعيم آفل وفردوس مفقود.

لا يعرف ذلك من لم يذق مرارة الشوق وحرقة الحنين إلى حبيبٍ رحَلَ، أو خليل غاب، أو شمْل مزقته الأيام...

وقد عرفت في تاريخ الأدب العربي قصائد مهيجة على البكاء بما تحمله من صدق المشاعر الإنسانيةالمحترقة بألم الفراق والحنين إلى الوصل؛ مما لا يملك معه القارئ غير الإسقاط الشعوري المؤثر، فيتماهى مع صاحب الشكوى، فإذا هو صاحب الحنين المفجَّع بالفراق..

ولك أن تسأل من قرأ نونية ابن زيدون أولَ مرة وسمعه يقول:

بنتُمْ وبناَّ فما ابتلَّت جوانحنا *** شوقا إليكم ولا جــــــفَّت مـــآقينا
نكاد حين تناجيكم ضمائرنا *** يقضي علينا الأسى لو لا تـــأسِّينا
حالت لفقدكمُ أيامنا فغدت *** سودا وكانت بكم بيضا ليـــــــــــــالينا
إذ جانب العيش طلْقٌ من تألفنا *** ومربع اللهو صافٍ من تصافينا
وإذ هصرنا فنون الوصل دانية *** قطافها فجنينا منه ما شــــــــينا
ليُسْق عهدكم عهد الوصال فما *** كنتم لأرواحنا إلا ريـــــــــــــاحينا

أو سمع ابن زريق وهو يبث شكوى الوداع المُمِض:

أستودِعُ اللهَ في بغدادَ لي قَمرا *** بالكرْخِ من فلك الأزرار مطلعُه
ودَّعته وبودي لو يودعني *** صفْوُ الحــــــــــياة وأنـــــــي لا أودِّعه
وكم تشفَّع أني لا أفارقه *** وللضـــــــــرورات حــــــــــــال لا تُشفِّعُه
وكم تشبَّث بي يوم الرَّحيل ضُحًى *** وأدمُعي مستهلِاَّتٌ وأدمُعه
لا أكذبُ الله ثوب العذر مُنخَرقٌ *** عنِّي بفرقته لكنْ أرقِّــــــعه

وليس ذلك خاصا بالشعر؛ فاسأل من قرأ قصة (الموسيقي العاشق) التي خطتها ريشة الأديب العظيم علي الطنطاوي؛ فإن لها عهدا طويلا مع تهييج الناس على البكاء، ولقد أعجبتني مرة عبارة في وصف تأثيرها لبعض الأصدقاء من أهل الأدب حين قال إنه لا يقرؤها شخص إلا وبكى، لكن المواضع التي تُبكي منها تختلف باختلاف الناس.

والشعر العربي طافح بهذا الحنين طفوحَ نفوس "الأحرار" بالشوق إلى مرابع الصِّبا وأيام الوصل على حد تعبير الشيخ سيدي محمد ولد الشيخ سيديَّ في رائعته:

رويدكَ إنَّني شبهــــت دارا *** على أمثالها تَقف المهارى
تأمل صاحِ هاتيك الرَّوابِي *** فذاكَ التَّلُّ أحــــسبه أنارا

التي يقول فيها:

ولكنّا رجالَ الحبِّ قومٌ *** تُهــيجُ رُبا الدِّيار لنا ادِّكارا
سقانا الحبَّ ساقي الحبِّ صِرْفاً *** فنحْنُ كما ترى قومٌ سُكارى
نَرى كلَّ الهوى حسَناً علينا *** إذا ما الجاهـلون رأوه عارا
(وأحرارُ النفوس) نذوب شوقا *** فنأتي كلَّ ما نأتي اضطرارا

وهكذا تُبرِّح عاطفة الشوق بنفوس الوالهين فتنسابُ الزفرات الحرى من خلال الشكوى تحرقُ صيغ التعبير؛ في الجملة الموزونة، والكلامِ المطْلقِ من غير قيود الحنين المتَّشح بالسِّحْر، والمقطع الموسيقي المناغي لتموُّجات النَّفس التي لا تستقرُّ على حال.

ويخرج الحنينُ عن كل الأُطُر ويستعصي على الانحصار، فإذا النَّفْس تذوب وراء كل ما تعلقت به من حبيب، أو صديق، أو جيرة، أو مقام، وربما امتد بها الحنين إلى مدى أوسع، واسمع إلى حنين أبي حسن علي الفالي حين اضطرته الأيَّام لبيع جمهرة ابن دريد فوُجِد مكتوبا عليها بخطِّه:

أنستُ بها عشرين حولا وبعتها *** لقد طال وجدي بعدها وحنيني
وما كان ظني أنني سأبيعها *** ولو خلَّدتني في السجون ديوني
ولكن لضعفٍ وافتقار وصبية *** صغار عليهم تستهلُّ شؤوني
فقلت ولم أملكْ سوابق عبرة *** مقالةَ مكْويِّ الفؤاد حــــــزين
لقد تخرج الحاجات يا أم مالك *** كرائمَ من رب بهن ضنين

وهو غرض واسع يكثر فيه الصِّدق ويشيع في جنباته التأثير..

وحتى لا يمتدَّ بنا الحديث طويلا سأختم المقال بنصٍّ شعري أختاره من بين نصوص عديدة كتبتها في أنواع من الحنين لكني سأختار هذه القصيدة التي كتبتها أخيرا في الحنين إلى أخي وصديقي الحميم محمد ولد جعفر الذي غادرنا منذ سنوات إلى أمريكا رده الله سالما غانما بعد ما كنت وإياه كما قال متمِّمُ بن نويرة:

وكناَّ كندماني جذيمة برهة *** من الدهر حتى قيل لن يتصدَّعا
فلمّا تفرقنا كأني ومالكا *** لطولِ اجتماع لم نبت ليلة مـــعا

أقول:

سَقَى اللهُ أيَّامَ "الشُّوَيْخِ"وإن نــَـأَتْ *** فإنِّي لأيَّامِ "الشُّــوَيْخِ " ذكُــــورُ
ولَازَالَ مُنـهَلاًّ بأيــــَّــــام "رقَّــةٍ" *** زكِيُّ الغوادي فيْضُهنَّ طَهُـــــــــــــورُ
تُذكِّرنِي تِلْكَ الدِّيــَـارُ مُحَمَّدا *** فَيَجْرحــُـــــنِي في الذِّكرياتِ شُعورُ
فلله أيام الوصال فــــإنَّهَا *** نَعِيمٌ وهَا إنَّ أيَّام الفـِـــــرَاقِ سـَــــعِيرُ
وإن أنْسَ لا أنْسَى لَيَالِيَ عَـــهْدِنا *** وكلٌّ لِكُلٍّ خَــــــادِمٌ وأمِــــــــــــــــــيرُ
نَرُشُّ على الأيَّام عِطْر وِدادنـَـا *** وطَيْرُ صَدانا في الـْــــــــــبلادِ يَطِيرُ
فَمَا راعَنِي إلاَّ رَحِيلُكَ مُــسْرِعاً *** وبَعْضُ الدَّواهي أمْرُهُنَّ خَـــــــطِيرُ
فــَـــــأبْقَيْتَ جُرْحاً في الفُــؤَادِ مُعَمَّــقاً *** ومَــــا زال يَخْبُو تــَـــارةً ويَثُورُ
ومَا كِدْتُ أسْتَصْفِي بُعَيْدَكَ صَاحِــبًا *** ومِثْلُكَ نَزْرٌ فِي البِلادِ يَسـِـــــــــيرُ
فَهَلْ أنَا لاقٍ غُرَّةَ الصَّحْبِ بَعْــدَمَا *** تولَّى زمَان واسْتَجَدَّ أُمـُــــــــــــــــورُ
وَوَلَّتْ سِنينٌ مُثْقَلاتٌ وأوْشَــكَتْ *** سنينٌ تُولِّي والزَّمَان يــــَـدُورُ
لنذكُر أيامَ الوصال وعــهدنا *** بتلك الأماسي والشبابُ غــرير
ونذكر أحلاما لنا وعزائـما *** وأشواقَنا الكُبْرى وأنتَ خــبيرُ
وبطحاءَ كَرْوٍ جانبَ النخل في مــساً *** يحاكي صَفاه في العـيون غــديرُ
"وكيطارَ(ة)" تشتاقُ الوجوهَ التي زهَتْ *** بها ذاتَ يومٍ والزَّمانُ نضـيرُ
وكنتَ بها نوراً يشِعُّ وخمــرةً *** لصالحِ جُلَّاس وأنت سَمــيرُ
وحاشاكَ تحجُوني نسيتُ "انتـجاعَنا" *** لدى نُزهةِ الأحباب حين نـزُور
فما أنا ناس من تفاصيل عـهـــدنا *** نقيراً وإن يعذُبْ هناك كـــثيرُ
تعاودُني ذكراك في النَّاس مـرَّةً *** وطورا وحيداً والوحــيدُ كسيرُ
فتتركُني الذكرى أفيض صبــابـَــةَ *** وأُسْقَى بكأس الشوق وهْوَ مـــريرُ
حنيناً إلى ذاك الوصال وعـهده *** متى صاحبِي ذاك الزمانُ يحــورُ؟!

أستوعدكم الله.

نقلا عن أسبوعية الأخبار إنفو

الجاليات

الصحة

وكالة أنباء الأخبار المستقلة © 2003-2025