تاريخ الإضافة : 19.01.2013 19:42

جولة مع الشيخ ولد بلعمش في خرائط الأحزان

الحلقة الأولى

أبو إسحاق الدويري

أبو إسحاق الدويري

في محراب الكلمة الملتزمة يتبتل الشيخ ولد بلعمش في ليل عشقه الطويل يكابد لَأْوَاءَ الحرف، ويعاني أَلَمَ القصيد، يحمل هَمَّ المقهورين المسضعفين، ويرسم للأحزان خرائط في كل شبر من بلاد الله؛ فأينما يممت وجهك شطر الحزن والأسى ترى خيال "شاعر الحرية" يقتنص لحظات الألم فيجعلها قريضا ثائرا في قوة سبك وجزالة تعبير:

هتفنا لها حتى كأنَّ هتافنا *** لكل حزانى الأرض يضرب موعِدا

وكيف لا يهتف الشيخ لهم، وهو القائل" "فللأسى شعراء الأرض قد خُلقوا" ولا خير في شاعر لا يأسى للظلم، ولا يواسي المظلومين، يعجبك في هذا الشاعر أنه مكثر من غير إسفاف، ملتزم بخط وسط بين نظرية "الفن للفن" وقول عمرو بن عبيد إن خير البلاغة"ما بلّغك الجنّة، وعدل بك عن النار، وبصّرك مواقع رشدك، وعواقب غيّك"، فلذلك ترى في شعره رونقا من ضياء الفجر، ونورا من الحق المغتصب، أبت كلماته الركوع والخنوع لغير "الذي لولاه ما خلقت هذي المشاعر والأوجاع والمزق".

لقد طال عهدي بشعر المحدثين بسبب تحذير من شيخي الزِّمِّيت أبي حنطب–ذكره الله بالخير- إلا أن قصيدة بلعمش الأخيرة عن الأندلس هزتني هزاًّ عنيفا أعادني إلى شعره القديم والحديث فوجدت فنا راقيا ورسالة ملتزمة، ورفضا صامدا، وثورة عارمة، وانحيازا للشعوب وافتخارا بها ، ونقمة على الطغاة العابثين واحتقارا لهم.

ولمْ أرَ فخراً كالشعوب عزيزةً *** ولمْ أرَ عدْلاً كالزعيمِ مُصفَّدا.

بين اليمين واليسار

صُحْبَتُك لشعر الشيخ تنبئك أنه شاعر للجماهير فقط وهمومها، منتصب القامة بين اليمين واليسار، فهو مع اليمين يسار ومع اليسار يمين، وليس ذلك جبنا ولا غفلة، بل بسبب عقل مستنير يعترف صاحبه" إن سنوات الغربة و المطالعة لأغلب المدارس جعلتني أطمئن إلى منهج واضح من النقل و العقل و الذوق و أن أدرك ما لحرية الفكر و الموقف من بركة ، و ثبت عندي أن الحقيقة أكبر من أن يحتكرها شخص أو جماعة أو حزب أو تيار"، فلا تتفاجأ حين ترى الشيخ يبكي "لحية" المرابط عدود "البيضاء" و"صوته الهادئ" مع "حرقة" على الفنانة الراحلة ديمي بنت آبه و"لوعة" أبيها سيداتي، مع أساه الموجع على الرفيق سميدع الذي "قرأ على النضال فكان فتحا"، وحزنه الشديد على الشيخ الشهيد أحمد ياسين و"روحه المبثوثة في النفوس"، ولا تعجب من بكاه على الشاعر القومي فاضل أمين "إمام الشعر في الرفض و النزف"، مع نوح على الإمام الفلاني الصالح عبد العزيز سي الذي"سيذكره المحراب والحلم والنهى".

معارضات ثائرة

تشتهر المعارضة والموزانة والمقارنة في الشعر العربي، وقد كلف بها الفحول قديما وحديثا، ولم يكن الشيخ بمعزل عن تلك الفحولة الطافحة، فقد كتب الشيخ على غرار معلقة ابن كلثوم، معلقة شامية، أظهرت قوة عارضته الشعرية، وطمأنت على جزيل الشعر في زمن الركود الأدبي، ناجى فيها حبيبته الشام ناقلا حزن بردى ودموعها الدامية، وصمودها الأبدي على الجراح.

تعانِقُ ضفتا بردى الليالي *** فَتُنكر في العيون دما سخينا
كَبُرنا يا شآمُ على المآسي *** و أدْمَنَّا هواكِ فعانقينا
نزعنا رِبقة الظلام عنا *** ولمْ نحتجْ على شرف يمينا
وقد علمت شعوب الأرض طرا *** بأنا لن نهون ولن نلينا

ينتقل الشاعر في معارضته هذه إلى الفخر بالشام المسلم والكريم مع الغرباء المتنكر له لئامهم فيما بعد:

و أنا أكرم الفرسان خيلا *** وأكثرُ أنبياءَ و مرسلينا
و أنا قِبلة الغرباء حتى *** لَنُطعِمُهُمْ وَ نمْكُثُ جائعينا
لنا الخُلُق الكريمُ فنحنُ أوْلى *** بأنْ نحيا الحياةَ مُكَرَّمينا

كان أمير الشعراء شوقي مغرما بالمعارضات؛ فقد عارض كثيرا من أسلافه الشعراء، وقد كتب قافية لدمشق أيام الاحتلال سارت بها الركبان، وقد حاكاه الشيخ في أخرى مثلها بكت "النغم الأرق" والأوتار" "والكرامة" في دمشق، طاف الشيخ بكل المدن السورية يلملم جراحها "كأنه قمر يسافر في غمام" يستحضر مآسي حماة المتكررة

حماةُ على الجراح تعيش عمرا *** و تنهض دائما إن هبَّ شرق

...عقاب الرأي تنكيل وسحق هو الشعب الكريم فهل سيبقى

ثم يعلن عشقه الأبدي للشام
أحبك يا بلاد الشام عمري *** وأعرف أنك البلد الأحق
أحن إليك يا فيحاء حتى *** يحطم أضلعي ولهٌ وعِشق.

هناك قصائد ثائرة كتبها الشيخ في الثورات المجيدة وهو شاعرها بحق، لم يصرح الشيخ فيها بمعارضة من سبقه إلا أن نفس المتنبي وقصيدته العتابية لفتى الفتيان في حلب "وا حر قلباه" يبدو واضحا في قصيدة "الركام الحلبي" التي يستهلها الشاعر برثاء مُبْك لبني حمدان وأميرهم وشاعرهم الأسير أبي فراس، والمتنبي الذي خلد مآثرهم مكنيا بذلك عن الأسى الذي حل بحلب على يد الطاغية بشار:

صُبَتْ على رأس سيف الدولة الحِممُ *** للهِ أين بنو حمْدانَ ؟ أيْنَ هُمُ ؟
ما زال في الأسْرِ لمْ نُرْسلْ بفِديَتِهِ *** أبو فراسٍ فيُفْشِي سرَّهُ الألَمُ
وَشيخنا المتنبي لا روائعُهُ *** تُشْجِي ، كفى بكَ داءً أيها القَلَمُ

ثم يشكو الشاعر إلى الشهباء خذلان الزمن لها بعد أن كانت مأوى الخائفين في كل الأزمنة العربية:

الآن يا حلب الشهباء يُسْلِمُنَا *** هذا الزمانُ و تنسى فَضْلَنَا الأممُ

ثم يسترجع الشيخ الأمل القادم من الركام المؤلم:

و منْ رُكام الأسى زيتونُ فرحتنا *** آتٍ ويُبنى بإذن الله ما هَدَموا.

كما يلاقي القارئ في رائعة الشيخ "قرار بقتل الخوف" روحا من المتنبي في تهنئته لسيف الدولة:

لكل امرئ من دهره ما تعودا.

تلاقي ذلك في تأكيد الشيخ على طباع العربي الثائرة
أرى الحر لا ينسى طباع جدوده*** فما السيف إلا السيف لو كان مُغمَدا.
وتلاحظ في قول الشاعر هجاء للقذافي :
ويا لابسا إ لا المروءة حلة *** ويا قصة طالت ويا خبلا عما

خيالا من المتنبي وهو يرثي جدته في حالة ثورية فريدة.

وللشيخ معارضات أخرى "استظرافية" كما يقول. مثل معارضته لابن عمه محمدو ولد محمدي في استسقائيته الحائية الطريفة:

أرض العقيلات يا برق الحيا وعلى *** أحـيـائها لعيـون الشائمين لحِ
ولا ترق دونها في الأرض ملء فم *** من ساريات روايا ودقـك الدلح
حول المليحة خيم واغدون ورح *** ثم اغدون ورح ثم اغدون ورحِ
ولا تزل مستطيرا مثل ما رمحت *** بلق العوادي زهاها فادح المرحِ
حتى إذا عمت السقيا مسارحها *** فاسق المسارح من بارين واسترحِ،

وقد عارضها شاعرنا مستظرفا مستحضرا همَّ جميع الحزانى والمحرومين عكس سلفه المبدع الذي حجر واسعا:

يا برقُ ذي سنةٌ مرَّتْ و مْ تَلُحِ *** كم ْمنْ شكاةٍ بها يا برقُ لم نَبُحِ
قد أصبح الماء غورا و العيونُ صفاً *** فَأَينَ منا زمان الغرف بالقدح
فلا الجداول تروي بعض غُلَّتنا *** وليس للناس في الأعذاق منْ بَلَح
يا برق هذي أكفُّ الضارعين إلى *** رب كريم كثير الفضل و المِنَحِ
فاسقِ الديار بسُقيَا رحمةٍ و أَعِدْ *** على وجوه الحزانى آية الفَرَحِ

وكذلك في تذكره لابن الطلبة "أطلتَ بها السّرى" في جيمية تشبه نفس الشماخ وإبداع اليعقوبي، وقد بثه الشاعر شكوى الاستعجام المستشرية في كثير من المتثاقفين اليوم، فبعد أن كان ابن الطلبة لا يظل في مكان لا يوجد فيه معجم الفيروزآبادي، وبعد مقاومته لظاهرة التيمم المنتشرة حينها خلف من بعده خلف أضاعوا اللغات، واتبعوا التيمم في الصلاة:

لقد غَضِبِ القاموس منْ كلماتنا *** فيا لَكَ منْ ليلٍ بهيــمٍ و مُزْعِجِ
لَتَحسبُنا الإفرنجَ شكْلاً و منطِقاً *** فَمَا لِهُذَيْلٍ بعْدَ هذا و مـذحــج
تَعيبُ على آتِ الصلاةِ تيمما *** و بَعْدكَ أضْحَتْ تُحْفَةَ المــتفرِّجِ.

في الحلقة القادمة نستكمل الجولة مع شاعر الحرية في خرائط الأحزان.

نقلا عن أسبوعية الأخبار إنفو

الجاليات

شكاوي

وكالة أنباء الأخبار المستقلة © 2003-2025