تاريخ الإضافة : 19.03.2012 11:41

ديوان (فلتكوني ما أرى).. هموم شتّى...و شاعر واحد

 

 

صورة الشاعر الظاهرة على الديوان كانت التقطت بكامرة الأخبار في وقت سابق

صورة الشاعر الظاهرة على الديوان كانت التقطت بكامرة الأخبار في وقت سابق

صدر حديثا عن (منشورات اتحاد الأدباء و الكتاب الموريتانيين)، الديوانُ الأول للشاعر الشاب أبو بكر المامي،و يضم كل قصائد الشاعر من نصوصه الأولى حتى آخر إنتاجاته الشعرية؛و هي فرصة للإحتفاء بأحد أبرز جيل الشعراء الشباب، و حامِلي همّ تحديث القصيدة الموريتانية، مِن خلال هذه القراءة في إصداره الجديد و الأول.

دهشة العنوان


أبو بكر المامي الذي عُرف بصفته مِن روّاد التجريب الحداثي في الشعر الموريتاني، يُباغتنا بعنوان لا يُشبه أيّ عنوان ديوان شعر موريتاني آخر، فعنوان الديوان (فلتكوني
ما أرى) يختزل دهشة شعرية، و ثوريّة في التعبير تعكس أبرز هاجس يحضر في قصائد الديوان، ـ و"القصيدة عمل ثوري" بتعبير أوكتافيو باث ـ، إنه البعد "المفتاحي" للعنوان في الشعر ينجح ولد المامي في توظيفه إلى أبعد حد، و كأنه إشارة نداء من الشاعر إلى قصيدته.
و هو مِن جهة ثانية، عنوان يُظهر ثقة الشاعر في القصيدة،كأجدر شكل تعبيري، بتمثّل اللّغة إلى أقصى الجماليّة في الشكل، و إلى أقصى الآفاقية في المعنى، تلك الثقة تتجلى بشكل خاص في التقديم الذي اختاره الشاعر لديوانه بقلمه، بعنوان (مدخل)، حيث يقول في مُفتتحه:"لا أزعم أنني أستطيع التقديم للشعر،......وماذا يستطيع النثر قوله في حضرة القصيدة؟..".
يقول فاليري "إن القصيدة هي إنماء التعجب!"، و ولد المامي يبدأ في هذا الإنماء منذ عنوان الديوان، و عبر العلاقة العضوية بين هذا العنوان، وفحوى الديوان مِن قصائد، سيَما أنه ـ العنوان ـ مأخوذ من قصيدة يمكن اعتبارها "أيقونة الديوان"، وهي قصيدة (حضن يقطينة في العراء) المكتوبة بمناسبة خمسينية الاستقلال، وهذا التمييز للقصيدة يكونُ لاعتبار زمني بحكم أنها من آخر ما كتب الشاعر، و مثلت نضجا أكثر و تمكّنا من أدواته الشعرية، لذا قد يحتمل هذا التمييز بعض التعسّف، سيما أنّ الشاعر "يأبى" في تقديمه تفضيلَ قصيدة له على أخرى،ويميل إلى اعتبار "المرحلية" في النظر إلى قصائده، و هو اعتبار هام للغاية، ومفتاح من مفاتيح قراءة الديوان.
بعد (مدخل) الشاعر إلى قصائد الديوان، تطالعنا أولى هذه القصائد (مجرد شاعر)، وهي متضمّنةٌ لأحد أكثر مقاطع الشاعر تداولا وجماهيرية، إذ يمثل هذا المقطع، البداهةَ بما ينبغي أن تكون عليه البداهة في الشعر،يقول الشاعر في هذه القصيدة:
"أنا ما تنكّرتُ للرفض يوما
ولستُ مُكابرْ
و لم أنتظر في حياتي هبوب الرياح
أنا لستُ إلّا مُجرّد شاعرْ"
و السطر الأخير مما سبق هو المعني بالقول إنه من أكثر ما يُتداول للشاعر ـ يُذكر هنا أن الشاعر عُرف على نطاق واسع من خلال أماسيه الشعرية أكثر مما عُرف من خلال ما نُشر له من قصائد و هي قليلة، إذ عُرف كصوت شعري له طقسه الخاص و المميز في الإلقاء الشعري و من هنا ترسّخت علاقته بالجمهور كجمهور لا كقرّاء فحسب ـ، و السطرُ ذاته مُضمّن في قصيدة أخرى في الديوان بعنوان (سيمفونية شاعر متمرد)، و إلى جانب هذا السطر الشعري المتفرّد،نعثر في قصيدة (على
وتر مِن قوافي الحنين) على أحد أجمل المطالع في الشعر الموريتاني:

خُذِي يدي بادليني الحُبّ لا تَقِفِي
إنّي أُحـبّكِ مِــن يــائي إلى أَلِـفِي.


أصداء في صوت الشاعر

"المرحلية" هي أهمّ سمة تطبع ديوان (فلتكوني ما أرى)،فهو يجمع كل نصوص الشاعر منذ المحاولات الباكرة، وحتى بوادر نضج التجربة الشعرية و اكتساب صوت شعري خاص، و هو نفسُه يؤكد ذلك بالقول في تقديمه:"لم أستثن من محاولاتي الشعرية إلا ما ضاع و لم أستطع العثور عليه"،هذا التعدد في المراحل الشعرية داخل الديوان،يُرادفه تعدد في الأصداء الشعرية التي ترافق صوت الشاعر منذ بداياته و تخفتُ أكثر في المراحل التالية لتصبح أكثر اصطباغا بلونه الخاص، كما يظهر هذا التعدد في مستوى آخر هو مستوى الخيار الشعري الذي يتنوّع لدى الشاعر بين القصيدة العمودية الكلاسيكية ذات القافية الموحدة، والقصيدة العمودية الرومانسية متعددة القافية، و قصيدة الشعر الحر، في سياق تطوّري يربط الشكل بالمضمون، و يُلحظ هذا الارتباط أكثر ما يُلحظ في القصيدة العمودية الحداثية، التي من أمثلتها لدى الشاعر (حضن يقطينة في العراء) و (على وتر من قوافي الحنين).
الأصداء الشعرية في صوت ولد المامي، تأتي من الشعر العربي القديم، سيما في ذروة نضجه عند المتنبّي، كما تأتي من الشعر الحديث، و بخصوص هذا الأخير نستطيع تمييز ثلاثة شعراء كانوا الأكثر في ما يبدو تأثيرا على الشاعر في مراحله الأولى، و استفاد الشاعر من هذا التأثّر كونت لاحقا رصيدَ نضج و مهارة، الشعراء الثلاثة هم: أبو القاسم الشابي،و نزار قباني، ومحمود درويش الذي يُفرد له الشاعر في الديوان قصيدة خاصة و مميّزة جدا في رثائه، بعنوان (إلى محمود درويش)
و كأمثلة نستطيع العثور على أبي القاسم الشابي في قصيدة (خلصيني)،و العثور على نزار قباني في قصيدة (حين ألقاك)،أما محمود درويش فنعثر على لغته في قصيدتي (أغنية لعرس الشمس) و (إلى محمود درويش)
هذه الأصداء بالإضافة إلى غيرها تمتزج في صوت واحد مُفرد، هو صوت الشاعر أبو بكر المامي، في قصائده الأكثر نضجا و حداثة.
و ثمّة في ثنايا الديوان تجربة شعرية فريدة تلفت الانتباه، هي قصيدة (إدويتو) بين الشاعرين أبو بكر ولد المامي، و محمد ولد إدومو، إذ يمتزج صوتا الشاعرين في تجربة شعرية خِصبة، خلال حوار شعري ذي خصوصية بائنة، في بعديه "النصّي" و "الأدائي".

هموم شتّى...و شاعر واحد

تعددّ على مستوى ثانٍ يطبع قصائد الديوان أيضا، هو تعدّد الهمّ الموضوعي من خلال القصائد،همّ الذاتِ ذاتِ الشاعر، و الهمّ الجمعي، الذي يأخذ في أحيان بُعدا وطنيا، و في أحيان أخرى أبعادا تُعانق هموم الأمّة، والإنسانية، و في حضور متكرر للهاجس الجمالي في القصيدة، الذي هو أولٌ ـ بالضرورة ـ في الإعتبار.
إذْ ذاك نجد الشاعر يُغنّي لشنقيط: (شنقيط)،(عالم الأشعار)،(على لسان شنقيط)، و يغنّي للوحدة الوطنية في قصيدة (لُحمة الحبّ) التي يقول فيها:
في ربـوع الـبلاد شـرقا و غـربا
سرتُ أعدو و في الجنوب مُحبّا
فوجدتُ الــقلوب مِن أصل حُبّ
لــــيس للـــعِرْقِ أنْ يُمــَيّزَ قـلْبا
كما نجده يُغنّي لفلسطين في (نشيد لفلسطين)،(مرثية الشيخ أحمد ياسين)، و نجده كذلك يُغنّي للثورة في تونس في قصيدة (البوعزيزية)،و سوى ذلك نجد لدى الشاعر قصائد عاطفية و وجدانية، و قصيدة مديحية بعنوان (طلع البدر). و الشاعر في كل هذا هو نفسُه: ذاتٌ تحضر حتى في حضور الهمّ الجمعي، كجزء من هذا الجمع.
و بقدر ما يحمل ديوان (فلتكوني ما أرى)، "تواضع" البدايات، بقدر ما نجد فيه "طموح" النضج و التفرّد، لدى شاعر يُمثّل في قصيدته رهانَ الحداثة و التجديد لدى جيل الشعراء الشباب في بلد المليون شاعر.
و لعلّ البيتَ كاملا يختصر هاجس الشاعر، وقضيّة الديوان،ديوانِه الأول:
و الـبدْءُ يـرسمُ لـلنهاية شكلَها
أنتِ التشكّلُ فلتكوني ما أرى.

كتبه : مولاي اعلي ولد الحسن

الرياضة

الصحة

وكالة أنباء الأخبار المستقلة © 2003-2025