تاريخ الإضافة : 14.03.2012 09:51

عشرون دقيقة في حضرة كمال الدين لمجيدري

محمد عبد الله بن الشيباني
استثناء في حياتي تلك اللحظة .. بل تلك الدقائق العشرون التي عشتها في القرن الثاني عشر لهجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم .... دقائق عشتها في مكتبة أهل الحاج في حي أمل في مدينة الداخلة عشت فيها دون مبالغة لذة الاكتشاف وجاذبية التراث وهناءة العيش في حضن التاريخ وإلهام المثول بين يدي العلماء الخالدين فضلا عن أهمية تلقي الفصحى عن أعلامها النابهين .
في تلك الدقائق العشرين من سنة كانت مصافحتي الأولى للعلامة المجيدري بن حبيب الله اليعقوبي مالئ الدنيا وشاغل الناس من خلال مصافحتي لمخطوطة نادرة كتبها بيمينه من كتاب الوزير الأعلم الشنتمري في اختياراته من أشعار الشعراء الجاهليين" ذلك الكتاب العمدة في دراسة مفردات الفصحى في المحاظر الموريتانية.
والحق أن باكورة تلك الدقائق الغالية أربكني الموقف وضخامة الغنم فضاعت مني في تصفح غير منهجي ومع شعوري بسيف الوقف المصلت بدأت أخضع بعض الصفحات لبعض التحقيق وطفقت أحفظ من البين وأفتش عن المعمى وأجمع النظائر مستعينا في المقارنة ببعض ما علق بذهني من شرح الشيخ بداه البوصيري لبعض القصائد.قبل أن يريحني مهرق وقرطاس.
وقد جعلت هذه الكلمات العجلى خاتمة لذلك اللقاء وذكرى لتلك الليلة السعيدة .. حين جعلت نصب عيني شكل المخطوط وجدته (خطا أنيقا واضحا مشكولا شنقيطيا قِبليا ) كتب النص فيه بالمداد الأسود الغليظ على طول السطر وكتب الشرح بين السطور بالأحمر الرقيق دون قيد بسطر و لا جهة بدء.
في الشكل كان بينا أن الشيخ يحرص على بيان الأوجه اللغوية والعروضية فتجده مثلا يكتب كلمة مسكن من بيت النابغة (ومسكن أهلها من بطن جزع- تبيض به مصاءيف الحمام) بفتح الكاف وكسرها في نفس الوقت ، كما نجد في نفس البيت إشارة بياء صغيرة إلى مد "به" أو بعبارة أبين تنبيها إلى وصل هاء ضميره ليستقيم البيت عروضا.
في الرص فصل بين الأبيات بمسافة تكفي لكتابة كلمة أو كلمتين من أسفل إلى أعلى أما في البيت الواحد فلم يفصل بين الشطرين بأية مسافة وهو أمر مفهوم في بيئة الشاعر.
في الشرح يشرح الكلمة بلفظ مقارب أحيانا بمركب إضافي أو إسنادي أو بكلمتين تنبيها أن معنى الكلمة متركب من معناهما (بطن الوادي : منعطفه _ جنح الظلام : إقباله) (دلا : غنجا وشكلا ) أما في البيت فقد يشرح معنى من معانيه أو مغزى الشاعر وقد يومئ إلى توليد معنى غامض.
وهو في الأعلام أيا كانت لا يهتم بالتفاصيل (الدخول موضع: فتوضح فالمقراة: موضعان – جبل- واد ) حتى لقد قال في قول زهير (ولست بلاق في الحجاز مجاورا – ولا سفرا إلا له منهم سجل): ( الحجاز: موضع) ولكنه حين يرد أحد الأعلام يمثل رمزا معينا شرحه فهو يقول عند قول طرفة( كما أحرزت أسماء قلب مرقش- بحب كلمع البرق لاحت مخايله ( أسماء هي بنت عوف ) .
وفي ترتيب الشعراء جعل زهيرا قبل النابغة وافتتح كل شاعر بالبسملة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بخط أغلظ و آنق ويفصل البسملة و التصلية بمسافة كلمتين .
لا أذكر أني تلك الليلة في تلك الدقائق العشرين أكثرت من الوقوف عند المسائل النحوية و البلاغية .سوى (أم أرباب عطف أو بدل ) مطروفة (فاعل أو حال) .
وقد استنتجت من تلك النظرة العجلى أن الشكل المزدوج للحرف الواحد قول منه بثليثه في تلك الكلمة وأن تعليل الأوصاف يخبر عن عمق في التحليل وفن التوصيل(ينكر على نفسه ) وصفه بالطول ليخبر عن قوته .. وقد يشرح نادرا بيتا مسفرا ويتخط معمى .
كما في قوا امرئ القيس ( وسن كسنيق سناء و سنما ذعرت بمدلاج الهجير نـهوض)
وقد استغربت بادي الرأي من شرحه (تسلت : ذهبت) وفي قول زهير (هم جددوا أحكام كل مضلة من العصم لا يلفى لأمثالها فصل) مضلة : حرب مضلة ) وفي قول طرفة (رحاب قطاب الجيب منها رفيقة – بجس الندامى بضة المتجرد) رفيقة بما يطلبون من غناءها ، ولم أفهم تلك الليلة تقسيمه للنساء حين يقول ( ليلى امرأة ، هند جارية ، الرباب جارية، و فرتنى جارية ، ماوي امرأة) وهو يكرر شرح المفردة إذا تكررت في قصيدتين بل قد يكرر في البيت الواحد .. مثل قوله في قول امرئ القيس ( أغادي الصبوح عند هر "جارية" -و فرتنى – وليدا وهل أفنى شبابي غير هر_ جارية ) .
وقد آنقني من شرحه قوله في (نداماي بيض : مشاهير حسان وفي قوله غران : مشاهير ) وفي قوله (كما أعجبني كثيرا تعريجه من حين لآخر لمراد الشاعر ( ساهمة الوجوه يريد أصحابها)
وقد كنت أتساءل بين اللحظة والأخرى متى كتب هذه النسخة أيوم كان صدرا لطلاب أبي النحو بن بونه أم أيام بهر العلماء في أرض الكنانة أم حين كان يوجه تساؤلاته المرهقة لمنظومتي التقليد و اليوننة أم يوم كان نيلا لابن الجواد و فراتا للمأمون و سيحونا لمحمد ولد سيد محمد و جيحونا لنهضة حديثية كاد يتبين خيطها الأبيض من الأسود ، و قد كدت أن أجيب مستنتجا من نضج الخط ومهارته أنه كتبه في آخر حياته القصيرة، قبل أن أنفي مستنتجا من إهماله لأعلام البلدان أنه لا عهد له بها يوم كتابته. ثم تركت الكلمة الفصل للمختصين .
كان يعتادني غضب من مداد كُب ومطر أو بلل مس وسنون عملت في الهامش محت في أعلى كثير من الصفحات البيتَ الخامس عشر ، و قد وجد تني حين عمل سيف الزمن في دقات قلب تلك الدقائق أُمِرُّ كفي بلطف على تلك الصفحات منشدا مع ولد أبن ولد أحميدن:
كتاب فيه خطك فيه خطي- فآت منه حم به افتتاني
أظل لأن بنانك لامسته – أمر بكل أحرفه بناني
كانت أسارير تلك الصفحات الوضاءة تلمع في وجهي مغرية بالبقاء ، وكانت ذكرة رحلة أزفت وتذكرة قطعت ورفقة انتظرت و إقامة انتهت ، تومئ للوداع ببنان الثواني ثم تزهوا الصفحات ويتأنق الشرح وتمتد دوحة المعاني وتظهر ظلال الناسخ ورحابة صدور أهل المكتبة .. فاستعلي على الواقع أو أهم بذلك ومكثت بين الواقع والمثال ثواني حمى الفراق الأخيرة في حضرة كمال الدين المجيدري وبقهر الواقع عدت من "ليلتي " إلى متم أغشت من سنة سبع بعد الألفين ، فلم أفق إلا عند الباب مرددا من سطور سحنون إني لعند بن القاسم ورسائل مالك تصل إلي .. وصعدت السيارة وأنا أبارك أيادي أهل هذا البيت التي صانت هذه الدرة الفريدة ، بادئا بمالكها محمد فاضل ولد الحاج وأهل بيته .
ومكررا من قول لمجيدري:
يا من يرى و لا يرى – عني الكروب نفس
لقد نفى عني الكرى- شوقي لأهل تيرس

الجاليات

الصحة

وكالة أنباء الأخبار المستقلة © 2003-2025