تاريخ الإضافة : 24.11.2011 12:51
لمجد: أدعو الجميع إلى أن يكونوا مرحين في طبعهم لأن الرزق مضمون
الأمجد ولد محمد الأمين السالم صحفي بالتلفزيون الموريتاني، وشاعر وأديب ينشط في كتابة السيناريو الساخر، له عدد من الأنظام الطريفة والمواهب المتنوعة التي جعلت منه أحد الشخصيات البارزة في الساحة الثقافية في موريتانيا. تلتقي معه "الأخبار" في هذا الحوار الطريف الذي تضمن عددا من القصص الطريفة والنكت الساخرة للأديب ولد محمد الأمين السالم، ولعلها ستكون مفاجأة لعدد من متابعي التلفزيون الموريتاني الذين تعودوا على الأمجد مقدما لبرنامج فقهي دون معرفتهم باهتماماته المسرحية وأدبه الساخر.
الأخبار: نرحب بكم في هذا اللقاء، وسؤالنا الأول: ما ذا عن ظروف التحاقك بالعمل المسرحي والأدب الساخر، وكيف كانت ردود الوالدين والأهل؟
لمجد : باختصار، بالنسبة لمجال السخرية فإني في وقت مبكر من حياتي دخلت ما يسمى بمجالس الأدب التي يعبر عنها في تلك الفترة بثقافة "التسدار" والعلاقات مع الفنانين، وكنت وأنا صغير أقرض الشعر بشقيه الفصيح والشعبي، مع أنه هناك تأثير الجانب الشخصي في حياتي، فبعض الناس يكون من طبعه المرح في حياته وبعضهم من طبعه أن يكون "امكدر" من أهل الهموم، وأنا بحمد الله تربيت في بيئة جعلتني أميل إلى عدم "الكدر" وإلى حب المرح، فذلك طبعا ما انعكس على إنتاجي في الشعر فكنت أميل للومضة أو القطعة وأفضل الكاف أوالطلعة القصيرة الساخرة التي تعبر عن بعض من النقد أو تكون كاريكاتيرا توصيفيا لبعض المواقف.
أما ما يتعلق بالمسرح الساخر أو "اجوغه" ـ كما نقول في اللهجة ـ ، فليس هناك موقف شرعي يعارضه، وأنا اهتممت به في وقت مبكر من حياتي أو توفرت لي بيئة معينة للاهتمام به حتى دخلت مجال الأدب، فدخلت الأدب أولا من جانب الصالونات وهذه الصالونات جرتني في مرحلة أخرى إلى الاهتمام بالمسرح في حدود عام 1984 في ذلك العام، حيث حصلت على جائزة لأحسن تمثيلية موريتانية. وكنت أمثل فيها دور شخص يسمى "أعمر" وهنا في هذه الفترة كان موقف والدي رحمه الله سلبيا من المسرح يعارضه ويعتبر أنه من المحرمات، لذلك فرض علي أن أحلف في المصحف على ترك المسرح التمثيلي فهنا أصبحت أمارس المسرح من خلال الشعر والطرفة والنكتة والقطعة الساخرة الكاريكاتورية التي تعبر عنها بعض النصوص، وتاركا التمثيل الحقيقي، وطبعا فإن الهزل المخل بالكرامة أو بالأخلاق مرفوض في الشريعة لكن الطرفة والمرح والنكت ليس هناك ما يمنع منها بالطبع كما قلت لك.
الأخبار: يقال إن الضحك له العديد من الفوائد الصحية على الإنسان، انطلاقا من هذا وخصوصا أن هناك يوما عالميا للضحك، مالذي يوجهه لمجد هنا ويقوله؟
لمجد: أقول إن الكدر هو أكبر وسيلة لكثير من الأمراض النفسية، فالكآبة خطيرة جدا، هناك مرض خطير ومعروف يسمى مرض الكآبة أعاذنا الله، فأدعو الجميع إلى أن يكونوا مرحين في طبعهم لأن الرزق مضمون والدنيا من وسَّعها ستنفسح أمامه ومن ضيقها ستضيق عليه، ونظرا لطغيان النزعة المادية فإن حياتنا أصبحت تتميز بصرامة زائدة على الغرض مما جعل هذه الصرامة تدفع ببعض الناس أحيانا للانتحار، لأنها تجعلهم يطرحون أمامهم الكثير من الاحتمالات.. من احتمالات الفشل واحتمالات المشاكل "والكراكر" ، وهنا سيموت هذا الشخص. الخلاصة أن الإنسان من الأفضل له أن يكون مرحا في حياته وأن ينظم حياته بالمرح المتزن الذي لا يخل بالمروءة، وعليه أن يفتح باب الأمل أمامه مع إقباله على الحياة فالرزق مضمون.
الأخبار: هل طلب الرزق هو المشكل دائما في أذهان الناس؟
لمجد: لو فتحت دماغ أي واحد من الناس اليوم ستجد في جانب منه "سيارة ف إ كس" تجده مولعا بها، وتجد في مكان آخر من الدماغ "ابسيري" وهناك في مكان منه "الأوراق النقدية" (الفظ) يحلم كل واحد بذلك وهكذا...، فالنزعة المادية وصلت في الناس إلى درجة رهيبة جدا حتى أنهم أصبحوا معها لا يستطيعون تسيير حياتهم اليومية، إن هناك بعضا من الناس وصلوا إلى درجة أنهم لا ينامون بسبب التفكر في رزق الغد، وقد قال الشافعي:
تعبت أعين ونامت عيون ** في أمور تكون أولا تكون
فادرئ الهم ما استطعت فحملا ** نك يا صاح للهموم جنون
إن ربا كفاك ما كان بالأم ** س سيكفيك في غد ما يكون.
الأخبار: أحيانا يدون الأديب لمجد مواقفه في قطع ضاحكة وطريفة حسبما يظهر في كثير من أنظامك، لذا نريد منك الحديث عن فترة ممارستك للتدريس، لأن المدرس دائما لديه هموم ومشاكل كما هو معروف كيف كان الأمجد "الساخر" ينظر إليها يومئذ؟
لمجد: أنا بالنسبة لي ككل إنسان عبارة عن "عدد من الصفحات"، وهنا سنبدأ بصفحة التعليم أو التدريس. أنا عملت مدرسا في أقصى نقطة من الوطن وأعزها طبعا إلي لأنها ارتبطت بذكريات باقية معي وهي منطقة الحوض الشرقي.
فيما يخص أدب التعليم، أتذكر أني لم أكن راضيا عن ظروف التعليم إذ ذاك ولذلك حفظت في وقت مبكر من مزاولتي للمهنة أبيات الشاعر شوقي:
وما درى بمصيبتي ...
قف للمعلم وفه التبجيلا ** كاد المعلم أن يكون رسولا
ويكاد ذهب بالفؤاد ونبضه ** مرء الدفاتر بكرة وأصيلا
مائة على مائة إذا هي صححت ** وجد العمى نحو العيون سبيلا
إلى أن يقول:
يا من تريد الانتحار وجدته ** إن المعلم لا يعيش طويلا
وكان يتم في تلك الفترة تحويلنا إلى جهات بعيدة للتدريس، وقد تكون عقلياتنا نحن إذ ذاك متشددة لأننا نريد أن نجعل كل شيء على طبق من ذهب، كان ذلك عاملا سلبيا في الحقيقة لدى ممارسة التدريس، فلذا كنت أمارسه من غير أن يكون قناعة لدي، ولذلك حفظت عددا من نصوص التعليم السلبي. أما بالنسبة لأشعاري أنا في هذا الموضوع فأتذكر مثلا:
في حجرة مثل جحر الضب ناضحة ** بالنتن ملآ بأنواع الخنافيس
راقبت أشخاص نحس كلهم نكد ** تبدو على جسمه آثار تفليس
لا شاي لا خبزَ لا ماء ولا لبن ** ولا جمال لإنعاش الأحاسيس
وما يسمى ــ مجازا ــ بالنسا خشب ** مسندات كأمثال الجواميس
يبسن عن سفن سود مفطحة ** رست على العاج في بحر من السوس
وثم أطلال فتيان ممزقة ** بالجوع كلهم يبدو كــ"دبوس"
وأتذكر أيضا في مرحلة معينة أننا كنا نحاول التحويل عن طريق التبادل بين بعض الأصدقاء من المعلمين فقلت:
كَرَّايْتْ ذَا الْعَامْ التَّحْوِيلْ
ما جَبْرُوهْ ءُ عَنُّو نَصْلُو
وبَيْنْ أَلِّ يَخْتِيرْ التَّبْدِيلْ
وأَلِّ مُبَدَّلْ كَاعْ أَصْلُ
طبعا، هذا ليس شتما للتعليم وإنما هو نقد لفترة معينة وظروف معينة وأحوال معينة يعاني منها التعليم.
الأخبار: ما الذي يحتفظ به لمجد من مواقف المعاناة، ومن ذكريات عصيبة في تلك الفترة؟
لمجد: والله إني أفضل دائما أن أرمي المعاناة في سلة المهملات إذا ما انتهت لئلا ترافقني خشية تذكرها دائما، فترة التعليم كانت فترة فيها مصاعب وفيها إيجابيات وانتهت حيث انتقلت إلى مجال آخر.
الأخبارـ : عرفتم بنظم العديد من الرحلات هل إن حب الطرافة وتسجيل النكتة هو الذي سبب نظمها؟
لمجد: أنا مهتم منذ صغري بالرحلات والأسفار، وقد كنت انتقل مع خالي في مرحلة معينة من حياته حين كان مدرسا فأتوجه معه إلى أي نقطة سيزاول فيها التدريس، فضلا عن أنني طبعا تربيت في بيئة متنقلة من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال في موريتانيا، من منطقة اترارزه جنوبا إلى تيرس الزمور وداخلت نواذيبو شمالا، فبالتالي كانت الرحلات مهمة عندي ومحببة لأنها مكون أساسي من مكونات شخصيتي، وما إن بدأت قرض الشعر حتى أصبحت أنظم الرحلات التي أشهدها، ومن أقدم هذه الرحلات "الرحلة التيجيرية"، وهي رحلة إلى الشمال مع زميلين، إنها رحلة تمتُّع مباح، حيث ذهبنا لمنطقة "تجيريت" نبحث عن اللبن واللحم وعن التنزه المباح في فترة الشتاء حين تكون تلك المنطقة عادة جميلة، وفي الطريق مررنا على عدة مناطق والتقينا بعدد من الأصدقاء، كما كنا مستضافين من عدد من الأسر والتقينا بعدد من الأعلام، كما مررنا بمدافن تضم قبور عدد من الأعلام فكانت هذه فرصة لي لتدوين مختلف مراحل هذه الرحلة وتم ذلك في حدود 100 بيت.
مثلا أقول في هذه الرحلة وهي من عدة فصول:
وكان الانطلاق في المساء ** خوفا من التعب والعناء
وفي وهاد تيجريت حيثُ ** يطيب للماكث ثَم المكثُ
انظر إلى جبالها الشماء ** باسقة تزهو لعين الراء
إلى أن أقول:
وانظر إلى التلاع والنجاد ** وقد زهت كفاخر السجاد
فذي البلاد جنة البلدان ** وطرفها المصان للرهان
وهناك لقينا رجلا غريبا وجدناه عند منطقة "فصك" مقيما هناك يستشفى من "الربو" وهذا الرجل عنده 70 سنة، هو فقيه ويعرف اللغة العربية والفرنسية، وهو جوالة جال في العام ومر على أغلبه والتقى بالكثير من الرؤساء والشخصيات الهامة.
الأخبار: هل كان هذا الشخص موظفا في الدولة؟
لمجد: لم يكن مسؤولا في الدولة، كان يعمل في المشرق، حيث سافر في وقت مبكر في حياته من موريتانيا إلى مصر، وقد قلت في وصف هذا الرجل:
وكان من عجائب الأقدار ** ومن غريب صدف الأسفار
شيخ لقيناه بفصك عالما ** شيَخ حقيقة إماما فاهما
يحفظ من عجائب الأشعار ** ونكت الأعراب والأخبار
ما لم يكن جمع في المستطرف ** من كل فن حسن مستظرف
جاب البلاد غربها والشرقا ** من الملاوي لوهاد ترقى
ترقى قريبة من هنا.
لجزر المنديف للأفغاني ** من بعدما مر بباكستان
وجئنا إلى قوم فاستقبلونا أحسن استقبال فقلت:
فرحبوا واستبشروا وبشوا ** وفي الوجوه ابتسموا وهشوا
وذبحوا أحلى خروف في الغنم ** ومن يشابه أبه فما ظلم
ثمة أسلمنا النفوس للكرى ** فــ"هدرز" البعض وبعض "نخرا"
الأخبار: ولكم رحلة الصين المشهورة التي سميتها "الفتح المبين في رحلة لمجد إلى الصين" هل أحسست بالانبهار حين دخلت الصين؟
لمجد: طبعا، الصين كنت قرأت عنها الكثير: عن تاريخها وحضارتها لأني من المعجبين بها، معناه لم تكن هناك مفاجأة ثقافية خلال الزيارة وإنما كان هناك تشوق ورغبة لمشاهدة ما هو فوق المتصور مما صنعه هذا الشعب العظيم، والرحلة جاءت في نطاق التعامل بين التلفزيونات والدول، حيث أعمل في التلفزيون الموريتاني وابتعثوني أنا وزميل لي.
أقول في مطلع الرحلة:
سميتها بالواضح المبين ** في رحلة الأمجد نحو الصين
وفي أحد فصولها أقول:
ثم إلى بيجين واصل المسير ** و يا له من سفر مضن خطير
وبعد ساعات تعد عشره ** يفقد فيها العقل كل فكره
جئنا إلى بيجين والأبصار ** شاخصة إذ طال الانتظار
وقادنا الدليل نحو منطقة ** جميلة رائعة منمقه
حيث نزلنا فندقا تحار ** فيه العقول ليله نهار
حفت به الأنهار والأشجار ** وغردت في سوحه الأطيار
كأنه قطعة فردوس أتت ** من جنة الخلد وفي الأرض رست
لو لم أكن حيا لقلت مِتْ ** وفي جنان الخلد قد دخلتْ
المهم، افتتحوا الندوة الأولى باللغة الصينية وأنا لا أعرف اللغة الصينية ــ كما تعلم ــ ثم ترجموا الخطاب للغة الإنكليزية، وأنا لا أعرفها أيضا ثم إني أيضا كنت محتاجا إلى كاس من الشاي (كنت "امدوخ")، وأنا في الصين فسبحان الله جاور الماء تعطش! كما يقال، فالورق الصيني الذي نستخدمه نحن للشاي لا يتوفر هناك بنفس الشكل لأنه يأتينا حسب الطلب، أما الورق المتوفر في شوارعهم فإنه لا يطرد "آدواخ" عن هواة الشاي الموريتانيين، ولا يزيل حاجتنا للاحتساء.
لكنني شاركت في التصفيقِ ** نهاية الخطاب كالفريق
فعند ما علمت أن الحفل انتهى صفقت مع الحضور وهي اللحظة التي استطعت شخصيا المشاركة فيها لتعذر المشاركة فيما سوى ذلك بسبب اللغة. كما أني قادم من موريتانيا ونحن نعرف فن التصفيق كما تعلم، فسهَّل علي ذلك المشاركة فيه لذلك صفقت معهم.
إلا أني ظللت في حاجة للشاي حتى رجعت إلى نواكشوط وكان الحال يصدق فيها قول الشاعر:
لمن العجائب والعجائب جمة ** قرب الحبيب وما إليه وصول
كالإبل في البيداء يقتلها الظمى ** والماء فوق ظهورها محمول
فأنا في الصين الشعبية ولم أستطع أن أجد "أتاي" المعد من "الوركه" والسكر.
وبالمناسبة هذا ذكرني بطرفة شعرية تذكرتها لذكر البيتين السابقين، وقد وقعت لي مع شاعر وأديب كبير، لكنه كذاب "وحراق" بالمفهوم التقليدي، فهو راوية للشعر يحفظ شعر الشعراء من كل العصور وينتهز الفرصة في الناس الذين لا يعرفون الأدب أوفي الشباب الصغار، فيحكي عليهم روائع الشعر بوصفها من إنتاجه مدعيا لها. وقد التقيت معه ليلة عند إحدى الأسر وبات يحكي علي الكثير من الشعر الفصيح والشعبي الذي ليس له. وعندما تأخر الليل اقترب مني وقال لي العلم والأدب لا يمنع منهما الحياء وعبد الله بن عباس كان يطلب من عمر بن أبي ربيعة أن يحكي له الغزل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال لي إنه قال "كاف" من الشعر الحساني وترجمه للشعر الفصيح، قلت له أسمعه لي، فقال:
ثقل ول آدم سالبو
حدُّ فعل تشواشو
فافريك امعاه وغالبو
يكلع منو توحاشو
فقال لي وترجمت هذا "الكاف" إلى الشعر الفصيح في بيتين هما:
لمن العجائب والعجائب جمة ** قرب الحبيب وما إليه وصول
كالإبل في البيداء يقتلها الظمى ** والماء فوق ظهورها محمول
ففوجئت لأن الأبيات قديمة حسب ما أعرف عنها وليست له هو ، وظني القوي أنها لشاعر يسمى الطرماح، ومباشرة وأنا في هول الصدمة من ادعائه للأبيات اقترب مني وقال لي "وأنت ما هو آخر ما قلت من الشعر؟" قلت له أنا آخر ما قلت من الشعر:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ** بسقط اللوى بين الدخول فحومل
وبدأت أحكي له القصيدة إلى آخرها، فكذبته بهذه الطريقة وغضب، وعلى كل حال هذه طرفة تذكرتها بسبب الأبيات.
أما عن أخبار الصين، فأغرب ما رأيته في الصين أن الناس يأكلون كل شيء، يأكلون النمل ولحم الحمير ويأكلون الحشرات، وهذا قد يكون فضلا من الله تعالى لأنه لو أن هذا المليار من البشر لا يأكل إلا الوجبات الطيبة مثلا لنفد ما في الأرض من طعام، فبالتالي هم يزيلون الجوع بأي شيء، فمن عاداتهم أكل الحيات والحمير ومخلوقات كثيرة ولذلك قلت عنهم في نظمي:
طبعهم العمل والنظام ** والخلق السمح والاحترام
ويأكلون كل ما في الأرض ** إن كان مرضيا وغير مرض
لا يتأففون من مذاق ** وتلك نعمة من الخلاق
فمن بِعيد ذبح الحمارا ** فإنه في الجود لا يبارى
ومن لضيفه بكلب أولما ** أجاد صنعا..
ومن عادتهم في العيد أن يصنع أحدهم وليمة من لحم الحمير يبعث بها إلى جيرانه.
ومرق النمل طعام جيد ** آكله عندهمُ مؤيد
وبالنسبة لبرور الوالدين فإنه حاضر في ثقافتهم، لأن ثقافتهم شرقية فهم شرقيون وأبعادهم خلقية، فلديهم أخلاق المجتمع الشرقي المحافظ، إلا أن برور الجد مقدم على برور الوالد عندهم.
وحقُّ جد فوق حق الوالد ** حسبما ينحون من عقائد ..
وفق ما قلت في النظم.
وطبعا الصين كان يقال لها صينستان وقد فتحها محمد بن القاسم في زمن عبد الملك بن مروان وهذا معروف تاريخيا.
الأخبار: سجلتَ بعض اللقطات التي حدثت لكم في موريتانيا تسجيلا ساخرا ومن هذه اللقطات "رثاء كوخ" كيف يصل كوخ لأن يكون بمثابة الإنسان تذرف عليه الدموع ويرثى بالقصائد؟
لمجد: باختصار شديد أنا كنت في مدينة نواذيبو، وككثير من الموريتانيين لا أمتلك أي قطعة أرضية، فاستطاعت الأسرة أن تحصل على قطعة أرضية في مساحات عشوائية فاشتريت أنا كوخا ووضعته في القطعة العشوائية هذه وفي فترة وجيزة لا تصل شهرا ــ وكان ذاك في حكم معاوية ــ صدرت أوامر بتدمير جميع الأكواخ الموجودة في "الكزرات" في حروب الكزرات التي كانت سائرة وكثيرة إذ ذاك. هنا رثيت أنا كوخي مرثية كما لو كنت فاقدا عزيزا، وطلبت من أحد أصدقائي المقربين من الوالي أن يدخلني على الوالي وكان الوالي في هذه الفترة محمد ولد ارزيزيم، ولما التقيت بالوالي بدأت معه الحديث وهو لا يدري ما الموضوع الذي جئت فيه، فقلت له إن عندي مصاهرة مع الولاية لأن الأسرة من ولاية نواذيبو، وفي الحديث أنه "لعن الله من استخف بأصهاره"، وشرحت له أن احترام الأصهار مطلوب بالنسبة للإسلام، ثم أضفت له أنني لم أمتلك في هذه الولاية أي شيء من "التراب" إلا الذي يأتيني عن طريق غبار الريح. "الغبرَ" وأنني حصلت مؤخرا على كوخ بشق الأنفس واصفا له بطريقة إنسانية وبوصف يثير المشاعر الطريقة التي حصلت بها على الكوخ من بدايتها حتى اكتمل "الكوخ" وأصبحت العلاقة به كما لو كان والدا عزيزا أو ولدا وحيدا، إلى أن دمر وأصبح أثرا بعد عين، ثم قرأت له المرثية الشعرية التي اصطحبتها معي في ورقة، فقام من مقعده وجلس بجانبي وقال لي ما الذي قلته، أعدته عليه فضحك وعندها علمت أنه سيكون منه إصلاح.، فقال لي إذن ما هو رأيك؟، قلت له رأيي أنه عليكم أن تتصرفوا معي كما يكون التصرف مع من أصيب بمصيبة وذلك عادة يصنع له طعام فقد جاء في الأثر "اصنعوا لآل جعفر طعاما.." ـ وكانت الولاية إذا ذاك تعمل على تقسيم منطقتين للسكن في نواذيبو تسمى إحداهما "اكراع بودو" والأخرى "المتفجرات" ، فقال لي ما معناه أن علينا أن نبعث لكم شيئا من "لبريم" (كسكس) قلت له نعم لكنه "ابريم" اتراب بالخصوص ويكون من "ابريم" اكراع بودو أو "المتفجرات" فأعطانا قطعة أرضية وانتهى الأمر.
وقصيدة رثاء الكوخ أقول فيها:
وكوخ به كان المبيت إذا دجا ** من الليل داج أو دنا لفَح الشمس
هو العش والمأوى الذي يمنح المنى ** ويسمو به قلبي وتحيا به نفسي
فبينا أنا في غبطة ومسرة ** وكأس جمال مورق طيب الغرس
إذ أصبح صبح الكوخ ليلا وظلمة ** وهاجمه ليل من الهم واليأس
.... إلخ
لمجد : باختصار، بالنسبة لمجال السخرية فإني في وقت مبكر من حياتي دخلت ما يسمى بمجالس الأدب التي يعبر عنها في تلك الفترة بثقافة "التسدار" والعلاقات مع الفنانين، وكنت وأنا صغير أقرض الشعر بشقيه الفصيح والشعبي، مع أنه هناك تأثير الجانب الشخصي في حياتي، فبعض الناس يكون من طبعه المرح في حياته وبعضهم من طبعه أن يكون "امكدر" من أهل الهموم، وأنا بحمد الله تربيت في بيئة جعلتني أميل إلى عدم "الكدر" وإلى حب المرح، فذلك طبعا ما انعكس على إنتاجي في الشعر فكنت أميل للومضة أو القطعة وأفضل الكاف أوالطلعة القصيرة الساخرة التي تعبر عن بعض من النقد أو تكون كاريكاتيرا توصيفيا لبعض المواقف.
أما ما يتعلق بالمسرح الساخر أو "اجوغه" ـ كما نقول في اللهجة ـ ، فليس هناك موقف شرعي يعارضه، وأنا اهتممت به في وقت مبكر من حياتي أو توفرت لي بيئة معينة للاهتمام به حتى دخلت مجال الأدب، فدخلت الأدب أولا من جانب الصالونات وهذه الصالونات جرتني في مرحلة أخرى إلى الاهتمام بالمسرح في حدود عام 1984 في ذلك العام، حيث حصلت على جائزة لأحسن تمثيلية موريتانية. وكنت أمثل فيها دور شخص يسمى "أعمر" وهنا في هذه الفترة كان موقف والدي رحمه الله سلبيا من المسرح يعارضه ويعتبر أنه من المحرمات، لذلك فرض علي أن أحلف في المصحف على ترك المسرح التمثيلي فهنا أصبحت أمارس المسرح من خلال الشعر والطرفة والنكتة والقطعة الساخرة الكاريكاتورية التي تعبر عنها بعض النصوص، وتاركا التمثيل الحقيقي، وطبعا فإن الهزل المخل بالكرامة أو بالأخلاق مرفوض في الشريعة لكن الطرفة والمرح والنكت ليس هناك ما يمنع منها بالطبع كما قلت لك.
الأخبار: يقال إن الضحك له العديد من الفوائد الصحية على الإنسان، انطلاقا من هذا وخصوصا أن هناك يوما عالميا للضحك، مالذي يوجهه لمجد هنا ويقوله؟
لمجد: أقول إن الكدر هو أكبر وسيلة لكثير من الأمراض النفسية، فالكآبة خطيرة جدا، هناك مرض خطير ومعروف يسمى مرض الكآبة أعاذنا الله، فأدعو الجميع إلى أن يكونوا مرحين في طبعهم لأن الرزق مضمون والدنيا من وسَّعها ستنفسح أمامه ومن ضيقها ستضيق عليه، ونظرا لطغيان النزعة المادية فإن حياتنا أصبحت تتميز بصرامة زائدة على الغرض مما جعل هذه الصرامة تدفع ببعض الناس أحيانا للانتحار، لأنها تجعلهم يطرحون أمامهم الكثير من الاحتمالات.. من احتمالات الفشل واحتمالات المشاكل "والكراكر" ، وهنا سيموت هذا الشخص. الخلاصة أن الإنسان من الأفضل له أن يكون مرحا في حياته وأن ينظم حياته بالمرح المتزن الذي لا يخل بالمروءة، وعليه أن يفتح باب الأمل أمامه مع إقباله على الحياة فالرزق مضمون.
الأخبار: هل طلب الرزق هو المشكل دائما في أذهان الناس؟
لمجد: لو فتحت دماغ أي واحد من الناس اليوم ستجد في جانب منه "سيارة ف إ كس" تجده مولعا بها، وتجد في مكان آخر من الدماغ "ابسيري" وهناك في مكان منه "الأوراق النقدية" (الفظ) يحلم كل واحد بذلك وهكذا...، فالنزعة المادية وصلت في الناس إلى درجة رهيبة جدا حتى أنهم أصبحوا معها لا يستطيعون تسيير حياتهم اليومية، إن هناك بعضا من الناس وصلوا إلى درجة أنهم لا ينامون بسبب التفكر في رزق الغد، وقد قال الشافعي:
تعبت أعين ونامت عيون ** في أمور تكون أولا تكون
فادرئ الهم ما استطعت فحملا ** نك يا صاح للهموم جنون
إن ربا كفاك ما كان بالأم ** س سيكفيك في غد ما يكون.
الأخبار: أحيانا يدون الأديب لمجد مواقفه في قطع ضاحكة وطريفة حسبما يظهر في كثير من أنظامك، لذا نريد منك الحديث عن فترة ممارستك للتدريس، لأن المدرس دائما لديه هموم ومشاكل كما هو معروف كيف كان الأمجد "الساخر" ينظر إليها يومئذ؟
لمجد: أنا بالنسبة لي ككل إنسان عبارة عن "عدد من الصفحات"، وهنا سنبدأ بصفحة التعليم أو التدريس. أنا عملت مدرسا في أقصى نقطة من الوطن وأعزها طبعا إلي لأنها ارتبطت بذكريات باقية معي وهي منطقة الحوض الشرقي.
فيما يخص أدب التعليم، أتذكر أني لم أكن راضيا عن ظروف التعليم إذ ذاك ولذلك حفظت في وقت مبكر من مزاولتي للمهنة أبيات الشاعر شوقي:
وما درى بمصيبتي ...
قف للمعلم وفه التبجيلا ** كاد المعلم أن يكون رسولا
ويكاد ذهب بالفؤاد ونبضه ** مرء الدفاتر بكرة وأصيلا
مائة على مائة إذا هي صححت ** وجد العمى نحو العيون سبيلا
إلى أن يقول:
يا من تريد الانتحار وجدته ** إن المعلم لا يعيش طويلا
وكان يتم في تلك الفترة تحويلنا إلى جهات بعيدة للتدريس، وقد تكون عقلياتنا نحن إذ ذاك متشددة لأننا نريد أن نجعل كل شيء على طبق من ذهب، كان ذلك عاملا سلبيا في الحقيقة لدى ممارسة التدريس، فلذا كنت أمارسه من غير أن يكون قناعة لدي، ولذلك حفظت عددا من نصوص التعليم السلبي. أما بالنسبة لأشعاري أنا في هذا الموضوع فأتذكر مثلا:
في حجرة مثل جحر الضب ناضحة ** بالنتن ملآ بأنواع الخنافيس
راقبت أشخاص نحس كلهم نكد ** تبدو على جسمه آثار تفليس
لا شاي لا خبزَ لا ماء ولا لبن ** ولا جمال لإنعاش الأحاسيس
وما يسمى ــ مجازا ــ بالنسا خشب ** مسندات كأمثال الجواميس
يبسن عن سفن سود مفطحة ** رست على العاج في بحر من السوس
وثم أطلال فتيان ممزقة ** بالجوع كلهم يبدو كــ"دبوس"
وأتذكر أيضا في مرحلة معينة أننا كنا نحاول التحويل عن طريق التبادل بين بعض الأصدقاء من المعلمين فقلت:
كَرَّايْتْ ذَا الْعَامْ التَّحْوِيلْ
ما جَبْرُوهْ ءُ عَنُّو نَصْلُو
وبَيْنْ أَلِّ يَخْتِيرْ التَّبْدِيلْ
وأَلِّ مُبَدَّلْ كَاعْ أَصْلُ
طبعا، هذا ليس شتما للتعليم وإنما هو نقد لفترة معينة وظروف معينة وأحوال معينة يعاني منها التعليم.
الأخبار: ما الذي يحتفظ به لمجد من مواقف المعاناة، ومن ذكريات عصيبة في تلك الفترة؟
لمجد: والله إني أفضل دائما أن أرمي المعاناة في سلة المهملات إذا ما انتهت لئلا ترافقني خشية تذكرها دائما، فترة التعليم كانت فترة فيها مصاعب وفيها إيجابيات وانتهت حيث انتقلت إلى مجال آخر.
الأخبارـ : عرفتم بنظم العديد من الرحلات هل إن حب الطرافة وتسجيل النكتة هو الذي سبب نظمها؟
لمجد: أنا مهتم منذ صغري بالرحلات والأسفار، وقد كنت انتقل مع خالي في مرحلة معينة من حياته حين كان مدرسا فأتوجه معه إلى أي نقطة سيزاول فيها التدريس، فضلا عن أنني طبعا تربيت في بيئة متنقلة من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال في موريتانيا، من منطقة اترارزه جنوبا إلى تيرس الزمور وداخلت نواذيبو شمالا، فبالتالي كانت الرحلات مهمة عندي ومحببة لأنها مكون أساسي من مكونات شخصيتي، وما إن بدأت قرض الشعر حتى أصبحت أنظم الرحلات التي أشهدها، ومن أقدم هذه الرحلات "الرحلة التيجيرية"، وهي رحلة إلى الشمال مع زميلين، إنها رحلة تمتُّع مباح، حيث ذهبنا لمنطقة "تجيريت" نبحث عن اللبن واللحم وعن التنزه المباح في فترة الشتاء حين تكون تلك المنطقة عادة جميلة، وفي الطريق مررنا على عدة مناطق والتقينا بعدد من الأصدقاء، كما كنا مستضافين من عدد من الأسر والتقينا بعدد من الأعلام، كما مررنا بمدافن تضم قبور عدد من الأعلام فكانت هذه فرصة لي لتدوين مختلف مراحل هذه الرحلة وتم ذلك في حدود 100 بيت.
مثلا أقول في هذه الرحلة وهي من عدة فصول:
وكان الانطلاق في المساء ** خوفا من التعب والعناء
وفي وهاد تيجريت حيثُ ** يطيب للماكث ثَم المكثُ
انظر إلى جبالها الشماء ** باسقة تزهو لعين الراء
إلى أن أقول:
وانظر إلى التلاع والنجاد ** وقد زهت كفاخر السجاد
فذي البلاد جنة البلدان ** وطرفها المصان للرهان
وهناك لقينا رجلا غريبا وجدناه عند منطقة "فصك" مقيما هناك يستشفى من "الربو" وهذا الرجل عنده 70 سنة، هو فقيه ويعرف اللغة العربية والفرنسية، وهو جوالة جال في العام ومر على أغلبه والتقى بالكثير من الرؤساء والشخصيات الهامة.
الأخبار: هل كان هذا الشخص موظفا في الدولة؟
لمجد: لم يكن مسؤولا في الدولة، كان يعمل في المشرق، حيث سافر في وقت مبكر في حياته من موريتانيا إلى مصر، وقد قلت في وصف هذا الرجل:
وكان من عجائب الأقدار ** ومن غريب صدف الأسفار
شيخ لقيناه بفصك عالما ** شيَخ حقيقة إماما فاهما
يحفظ من عجائب الأشعار ** ونكت الأعراب والأخبار
ما لم يكن جمع في المستطرف ** من كل فن حسن مستظرف
جاب البلاد غربها والشرقا ** من الملاوي لوهاد ترقى
ترقى قريبة من هنا.
لجزر المنديف للأفغاني ** من بعدما مر بباكستان
وجئنا إلى قوم فاستقبلونا أحسن استقبال فقلت:
فرحبوا واستبشروا وبشوا ** وفي الوجوه ابتسموا وهشوا
وذبحوا أحلى خروف في الغنم ** ومن يشابه أبه فما ظلم
ثمة أسلمنا النفوس للكرى ** فــ"هدرز" البعض وبعض "نخرا"
الأخبار: ولكم رحلة الصين المشهورة التي سميتها "الفتح المبين في رحلة لمجد إلى الصين" هل أحسست بالانبهار حين دخلت الصين؟
لمجد: طبعا، الصين كنت قرأت عنها الكثير: عن تاريخها وحضارتها لأني من المعجبين بها، معناه لم تكن هناك مفاجأة ثقافية خلال الزيارة وإنما كان هناك تشوق ورغبة لمشاهدة ما هو فوق المتصور مما صنعه هذا الشعب العظيم، والرحلة جاءت في نطاق التعامل بين التلفزيونات والدول، حيث أعمل في التلفزيون الموريتاني وابتعثوني أنا وزميل لي.
أقول في مطلع الرحلة:
سميتها بالواضح المبين ** في رحلة الأمجد نحو الصين
وفي أحد فصولها أقول:
ثم إلى بيجين واصل المسير ** و يا له من سفر مضن خطير
وبعد ساعات تعد عشره ** يفقد فيها العقل كل فكره
جئنا إلى بيجين والأبصار ** شاخصة إذ طال الانتظار
وقادنا الدليل نحو منطقة ** جميلة رائعة منمقه
حيث نزلنا فندقا تحار ** فيه العقول ليله نهار
حفت به الأنهار والأشجار ** وغردت في سوحه الأطيار
كأنه قطعة فردوس أتت ** من جنة الخلد وفي الأرض رست
لو لم أكن حيا لقلت مِتْ ** وفي جنان الخلد قد دخلتْ
المهم، افتتحوا الندوة الأولى باللغة الصينية وأنا لا أعرف اللغة الصينية ــ كما تعلم ــ ثم ترجموا الخطاب للغة الإنكليزية، وأنا لا أعرفها أيضا ثم إني أيضا كنت محتاجا إلى كاس من الشاي (كنت "امدوخ")، وأنا في الصين فسبحان الله جاور الماء تعطش! كما يقال، فالورق الصيني الذي نستخدمه نحن للشاي لا يتوفر هناك بنفس الشكل لأنه يأتينا حسب الطلب، أما الورق المتوفر في شوارعهم فإنه لا يطرد "آدواخ" عن هواة الشاي الموريتانيين، ولا يزيل حاجتنا للاحتساء.
لكنني شاركت في التصفيقِ ** نهاية الخطاب كالفريق
فعند ما علمت أن الحفل انتهى صفقت مع الحضور وهي اللحظة التي استطعت شخصيا المشاركة فيها لتعذر المشاركة فيما سوى ذلك بسبب اللغة. كما أني قادم من موريتانيا ونحن نعرف فن التصفيق كما تعلم، فسهَّل علي ذلك المشاركة فيه لذلك صفقت معهم.
إلا أني ظللت في حاجة للشاي حتى رجعت إلى نواكشوط وكان الحال يصدق فيها قول الشاعر:
لمن العجائب والعجائب جمة ** قرب الحبيب وما إليه وصول
كالإبل في البيداء يقتلها الظمى ** والماء فوق ظهورها محمول
فأنا في الصين الشعبية ولم أستطع أن أجد "أتاي" المعد من "الوركه" والسكر.
وبالمناسبة هذا ذكرني بطرفة شعرية تذكرتها لذكر البيتين السابقين، وقد وقعت لي مع شاعر وأديب كبير، لكنه كذاب "وحراق" بالمفهوم التقليدي، فهو راوية للشعر يحفظ شعر الشعراء من كل العصور وينتهز الفرصة في الناس الذين لا يعرفون الأدب أوفي الشباب الصغار، فيحكي عليهم روائع الشعر بوصفها من إنتاجه مدعيا لها. وقد التقيت معه ليلة عند إحدى الأسر وبات يحكي علي الكثير من الشعر الفصيح والشعبي الذي ليس له. وعندما تأخر الليل اقترب مني وقال لي العلم والأدب لا يمنع منهما الحياء وعبد الله بن عباس كان يطلب من عمر بن أبي ربيعة أن يحكي له الغزل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال لي إنه قال "كاف" من الشعر الحساني وترجمه للشعر الفصيح، قلت له أسمعه لي، فقال:
ثقل ول آدم سالبو
حدُّ فعل تشواشو
فافريك امعاه وغالبو
يكلع منو توحاشو
فقال لي وترجمت هذا "الكاف" إلى الشعر الفصيح في بيتين هما:
لمن العجائب والعجائب جمة ** قرب الحبيب وما إليه وصول
كالإبل في البيداء يقتلها الظمى ** والماء فوق ظهورها محمول
ففوجئت لأن الأبيات قديمة حسب ما أعرف عنها وليست له هو ، وظني القوي أنها لشاعر يسمى الطرماح، ومباشرة وأنا في هول الصدمة من ادعائه للأبيات اقترب مني وقال لي "وأنت ما هو آخر ما قلت من الشعر؟" قلت له أنا آخر ما قلت من الشعر:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ** بسقط اللوى بين الدخول فحومل
وبدأت أحكي له القصيدة إلى آخرها، فكذبته بهذه الطريقة وغضب، وعلى كل حال هذه طرفة تذكرتها بسبب الأبيات.
أما عن أخبار الصين، فأغرب ما رأيته في الصين أن الناس يأكلون كل شيء، يأكلون النمل ولحم الحمير ويأكلون الحشرات، وهذا قد يكون فضلا من الله تعالى لأنه لو أن هذا المليار من البشر لا يأكل إلا الوجبات الطيبة مثلا لنفد ما في الأرض من طعام، فبالتالي هم يزيلون الجوع بأي شيء، فمن عاداتهم أكل الحيات والحمير ومخلوقات كثيرة ولذلك قلت عنهم في نظمي:
طبعهم العمل والنظام ** والخلق السمح والاحترام
ويأكلون كل ما في الأرض ** إن كان مرضيا وغير مرض
لا يتأففون من مذاق ** وتلك نعمة من الخلاق
فمن بِعيد ذبح الحمارا ** فإنه في الجود لا يبارى
ومن لضيفه بكلب أولما ** أجاد صنعا..
ومن عادتهم في العيد أن يصنع أحدهم وليمة من لحم الحمير يبعث بها إلى جيرانه.
ومرق النمل طعام جيد ** آكله عندهمُ مؤيد
وبالنسبة لبرور الوالدين فإنه حاضر في ثقافتهم، لأن ثقافتهم شرقية فهم شرقيون وأبعادهم خلقية، فلديهم أخلاق المجتمع الشرقي المحافظ، إلا أن برور الجد مقدم على برور الوالد عندهم.
وحقُّ جد فوق حق الوالد ** حسبما ينحون من عقائد ..
وفق ما قلت في النظم.
وطبعا الصين كان يقال لها صينستان وقد فتحها محمد بن القاسم في زمن عبد الملك بن مروان وهذا معروف تاريخيا.
الأخبار: سجلتَ بعض اللقطات التي حدثت لكم في موريتانيا تسجيلا ساخرا ومن هذه اللقطات "رثاء كوخ" كيف يصل كوخ لأن يكون بمثابة الإنسان تذرف عليه الدموع ويرثى بالقصائد؟
لمجد: باختصار شديد أنا كنت في مدينة نواذيبو، وككثير من الموريتانيين لا أمتلك أي قطعة أرضية، فاستطاعت الأسرة أن تحصل على قطعة أرضية في مساحات عشوائية فاشتريت أنا كوخا ووضعته في القطعة العشوائية هذه وفي فترة وجيزة لا تصل شهرا ــ وكان ذاك في حكم معاوية ــ صدرت أوامر بتدمير جميع الأكواخ الموجودة في "الكزرات" في حروب الكزرات التي كانت سائرة وكثيرة إذ ذاك. هنا رثيت أنا كوخي مرثية كما لو كنت فاقدا عزيزا، وطلبت من أحد أصدقائي المقربين من الوالي أن يدخلني على الوالي وكان الوالي في هذه الفترة محمد ولد ارزيزيم، ولما التقيت بالوالي بدأت معه الحديث وهو لا يدري ما الموضوع الذي جئت فيه، فقلت له إن عندي مصاهرة مع الولاية لأن الأسرة من ولاية نواذيبو، وفي الحديث أنه "لعن الله من استخف بأصهاره"، وشرحت له أن احترام الأصهار مطلوب بالنسبة للإسلام، ثم أضفت له أنني لم أمتلك في هذه الولاية أي شيء من "التراب" إلا الذي يأتيني عن طريق غبار الريح. "الغبرَ" وأنني حصلت مؤخرا على كوخ بشق الأنفس واصفا له بطريقة إنسانية وبوصف يثير المشاعر الطريقة التي حصلت بها على الكوخ من بدايتها حتى اكتمل "الكوخ" وأصبحت العلاقة به كما لو كان والدا عزيزا أو ولدا وحيدا، إلى أن دمر وأصبح أثرا بعد عين، ثم قرأت له المرثية الشعرية التي اصطحبتها معي في ورقة، فقام من مقعده وجلس بجانبي وقال لي ما الذي قلته، أعدته عليه فضحك وعندها علمت أنه سيكون منه إصلاح.، فقال لي إذن ما هو رأيك؟، قلت له رأيي أنه عليكم أن تتصرفوا معي كما يكون التصرف مع من أصيب بمصيبة وذلك عادة يصنع له طعام فقد جاء في الأثر "اصنعوا لآل جعفر طعاما.." ـ وكانت الولاية إذا ذاك تعمل على تقسيم منطقتين للسكن في نواذيبو تسمى إحداهما "اكراع بودو" والأخرى "المتفجرات" ، فقال لي ما معناه أن علينا أن نبعث لكم شيئا من "لبريم" (كسكس) قلت له نعم لكنه "ابريم" اتراب بالخصوص ويكون من "ابريم" اكراع بودو أو "المتفجرات" فأعطانا قطعة أرضية وانتهى الأمر.
وقصيدة رثاء الكوخ أقول فيها:
وكوخ به كان المبيت إذا دجا ** من الليل داج أو دنا لفَح الشمس
هو العش والمأوى الذي يمنح المنى ** ويسمو به قلبي وتحيا به نفسي
فبينا أنا في غبطة ومسرة ** وكأس جمال مورق طيب الغرس
إذ أصبح صبح الكوخ ليلا وظلمة ** وهاجمه ليل من الهم واليأس
.... إلخ