تاريخ الإضافة : 14.01.2010 14:58

موريتانيا المعاصرة.. كتاب لا تغني القراءة فيه عن قراءته

غلاف الكتاب

غلاف الكتاب

يطرح الكتاب البكر في بابه "موريتانيا المعاصرة، شهادات ووثائق" العديد من الإشكالات ويفتح دروبا في السياسة الموريتانية لم تطرق من قبل.. يكشف بعض العلائق كانت بعيدة عن مسابر الكتاب.
يتناول الكتاب في صفحاته الأربعين بعد الأربعمائة قرابة الثلاثة عقود (1957- 1984) من عمر الدولة الموريتانية الفتية مبحرا، بأسلوب سلس ولغة مشرقة، في الصراعات التي خاضها المؤسسون الأوائل بينهم والمستعمر، والطامعين، من جهة، وفيما بينهم هم أنفسهم من جهة أخرى.


الفاعلون يتحدثون لأول مرة



طبيعة الكتاب (كونه مجموعة من المقابلات) لا تمنحك فرصة معرفة المعلومات من مصادرها فقط. بل تنقلك للعيش بين صانعي الأحداث أنفسهم، أثناء صناعة الأحداث التي ما يزال أغلبها يفعل في حاضر موريتانيا ومستقبلها، وربما بأكثر مما فعل في ماضيها القريب.

وعبر فصول سبعة حملت على التوالي عناوين: سنوات التأسيس: انبعاث أمة. الاستقلال صراعات وتحديات. الولادة القيصرية لنظام الحزب الواحد، التحولات العميقة (1966 - 1978) حرب الصحراء. انقلاب العاشر من يوليو: الفكرة، الفرصة، التنفيذ. موريتانيا والمخاض العسير: الانقلاب، والانقلابات المضادة.

يتعرض مؤلف الكتاب سيدي أعمر ولد شيخنا لتشكل القوى والأحزاب السياسية والموريتانية والأحداث الكبرى التي عرفتها البلاد، والعلائق الداخلية بين مجموعة من المسؤولين، والأحداث والدول، علاقات موريتانيا الخارجية بالعرب والأفارقة والفرنسيين، دور موريتانيا في المنطقة، والأدوار التي لعبت إفريقيا لصالح موريتانيا ونظام المختار ولد داداه.
حظي الرئيس المختار ولد داداه ونظام حكمه بنصيب الأسد في الكتاب (حوالي خمسة فصول خالصة)، وهو أمر مفهوم نظرا لمحورية الرجل ونظامه في تاريخ البلد، وأبرز جوانب مهمة بعضها كان معروفا لكن الكثير منها جديد بالمرة، يخرج من شفاه الشهود عليه للمرة الأولى.

استنطق مؤلف الكتاب بعد قراءات عميقة أكثر من أربعين شخصية بين رئيس وزير وسفير ومدير ديوان صاغ من شهادتهم صفحات كتابه الأربعمائة. استمع إلى الشهود في كل ما حدثوا به، لكنه أتحف القارئ بشهادتهم فيما كانوا فاعلين مباشرين فيه أو شهودا عن قرب.

ومن جمع الشهادات ومقابلتها استطاع سيدي أعمر ولد شيخنا الربط بين أحداث ظلت منفصلة في أذهان العارفين بها، مثل أحد 1966 العرقية ومحاولات الانقلاب المتكررة على نظام ولد داداه.

انتقينا للقراءة في الكتاب مجموعة من أهم المحاور نشير إلى بعض الملامح الجديدة، أو المهمة، فيها، لأن الكتاب عبارة عن الكثير من التفاصيل يستعصي على التلخيص، ونظرا لأن هذه الأحداث كانت مركزية في تغيير الأمور لحظة وقوعها، كما أنها الأقوى في الامتداد والتأثير على الوقع القائم الآن


اختيار نواكشوط عاصمة لموريتانيا:


يقف المؤلف ابتداء من الصفحة الحادية والثلاثين في الكتاب عند دواعي اختيار نواكشوط عاصمة لموريتانيا من بين كل مدن الموريتانية القائمة حينئذ، وذات العمل التاريخي والجغرافي. ويقدم ولد شيخنا عرضا لأهم الأسباب التي ساقها الأب المؤسس المختار ولد داداه لهذا الاختيار، والتي تتلخص في الموقع على شاطئ المحيط الأطلسي، والموقع المتوسط بين شمال البلاد وجنوبها، وعدم التطرف الجغرافي بهذا المعنى، واستبطان ولد داداه للأثر التاريخي عن موقع تيدره الذي تشير بعض الروايات التاريخية إلى انطلاق المرابطين منه.
ثم يطرح على ألسنة بعض الباحثين والشهود استفهاما حول مدى مصداقية هذه المزايا في مواجهة خطر المياه التي يتهدد العاصمة، وإلى افتقاده لموقع العمق في الأراضي الموريتانية، تاريخيا، وجغرافيا، وتطرفها الجغرافي بالقياس إلى منطقة الحوضين وتكانت وإلى حد ما لعصابه وبعض مناطق الضفة. هذا علاوة على سهولة احتلالها من أي غاز جراء وقوعها في الطرف القصي من البلاد.
وهنا يطرح المؤلف فرضية تسندها بعض الوقائع وهو أن اختيار نواكشوط يعود إلى قرار من السلطة الاستعمارية، ويعود المؤلف إلى بعض التقارير الاستعمارية لاقتناص بعض المعطيات الخاصة بالموضوع، وينقل عن بعض الشهود قولهم إن اختيار نواكشوط كان مقصودا: "مكان بلا تاريخ ولا هوية" لبتر شعب من هويته وتاريخه، لاستئناف التاريخ الموريتاني، من نقطة الصفر.


أحداث 1966 عنوان الجفاء بين فرنسا والرئيس المؤسس


يطرح الكاتب في الفصل الرابع سؤالا عميقا حول الأحداث العرقية التي شهدتها موريتانيا سنة 1966 والتي تم إثرها طرد مجموعة من تلاميذ المدارس الزنوج إثر احتجاج على قرار بتعريب التعليم في البلاد، فيقول: هل كانت انقلابا؟ أو تغطية على انقلاب؟
ويعود ولد شيخنا كالعادة إلى سبر أغوار الفرضية برواية الأحداث؛ فيرصد على ألسنة ضيوفه مجموعة من التصرفات أغضبت من يعتبرون أنفسهم أولياء نعمة ولد داداه، مثل التقارب بين ولد داداه وجمهورية الصين الشعبية ويشير إلى لقاء بين ولد داداه والسفير الصيني في غينيا كوناكري عن طريق صديق الصين في إفريقيا توري شيخو رئيس كوناكري سنة خمسة وستين وتسعمائة وألف.
والانسحاب من الاتحاد الإفريقي الملغاشي لصالح منظمة الوحدة الإفريقية.
والتقارب مع الرئيس المصري جمال عبد الناصر وزيارة داداه إلى القاهرة في يوليو سنة 1964، ثم التوجه إلى تعريب التعليم في موريتانيا.
فرنسا وحسب ولد شيخنا، أوفدت إلى موريتانيا سفيرا جديدا لتنسيق موضوع الإطاحة بالرئيس الموريتاني المختار ولد داداه وهي المعلومة التي استقاها ولد داداه من أحد الزعماء الأفارقة أثناء زيارة له إلى موريتانيا.
وقد جرت الأمور على ما خطط له حتى صبيحة التاسع من فبراير سنة 1966 حين نزلت القوات المسلحة بقيادة المصطفى ولد محمد السالك إلى الشارع لضبط الأوضاع المنفلتة بفعل مظاهرات الطلاب الموريتانيين الزنوج، المخططون للانقلاب عرضوا المسألة على ولد محمد السالك عبر وسطاء لكن الأخير رفض الغدر برئيسه، ربما لكون ولد محمد السالك نفسه عروبي التوجه، وطني الميول مناهضا للرؤية الفرنسية لموريتانيا، وهي الدوافع ذاتها التي ستقوده للانقلاب على ولد داداه بعد مرور عقد من الزمن على أحداث 1966.
ومع ذلك يسوق المؤلف عن ولد محمد السالك قوله إنه رفض لأن ولد داداه استأمنه على أمن البلاد وأعطاه صلاحيات واسعة لن يستغلها للتخلص منه.
ولد داداه سيقول بعد ذلك إنه لم تمر شهور من العقد التالي للأحداث إلا وصلته معلومات عن محاولة انقلاب جديدة تحاك ضده.


عضو في جامعة الدول العربية من دون ملف


ينقل المؤلف وقائع الولادة القيصرية لعضوية موريتانيا في جامعة الدول العربية ناقلا روايات عن شهود عيان تؤشر كلها إلى إعراض ولد داداه عن الإلحاح في قبول موريتانيا عضوا في الجامعة، بل رفض حتى تقديم طلب جديد لدخول الجامعة بعد طلبه سنة 1960 ، وحتى بعد اعتراف المغرب بموريتانيا والذي كان العقبة الأولى التي واجهت عملية الانضمام، مكثت موريتانيا خمسة أعوام خارج الجامعة، (اعترف المغرب بموريتانيا سنة 1969، وانضمت موريتانيا إلى الجامعة العربية سنة 1974)
ويقدم لذلك تفسيرا لا يخلو من وجاهة:
- فالمختار لم ينس للعرب رفضهم أول طلب تتقدم به موريتانيا سنة 1960 ووقوفهم إلى جانب المغرب في مطالبته بالسيادة على موريتانيا ودعم الجامعة لمطالب المغرب في الأمم المتحدة.
- وهو ذو حساسية خاصة تجاه ما سيخلفه الانضمام إلى الجامعة العربية من ردة فعل لدى شركاء الوطن غير العرب، وما يعنيه ذلك بالنسبة للنسيج الاجتماعي.
أما الوقائع فيقول عنها على لسان السفير الموريتاني في طرابلس يحظيه ولد سيدي أحمد: عندما كان وزير الخارجية الموريتاني حمدي ولد مكناس يحضر اجتماع وزراء الخارجية العرب تمهيدا لانعقاد قمة الجزائر، وكان وفد موريتانيا يحضر هذا الاجتماع كمراقب تقديرا لدورها في قطع العلاقات الإسرائيلية مع بعض الدول الإفريقية بعد العدوان الثلاثي على مصر.

أثناء هذا الاجتماع قام عبد العزيز بوتفليقه، وزير خارجية الجزائر حينها، بإلقاء كلمة رحب فيها بانضمام موريتانيا إلى الجامعة العربية، وفي اليوم الموالي خرجت الصحف الليبية بعناوين عريضة مستبشرة بانضمام موريتانيا إلى الجامعة العربية، ومباشرة أبرق الرئيس الجزائري بومدين إلى المختار ولد داداه مهنئا بانضمام موريتانيا إلى الجامعة العربية، حمل السفير يحظيه ولد سيدي أحمد الخبر إلى الرئيس المختار ولد داداه الذي أوفده رفقة الأمين العام للرئاسة محمد عالي شريف إلى الجزائر حيث كان يجري التحضير للقمة وتمت برمجة كلمة للرئيس المختار كما تم إعلان العضو الجديد في قمة الرؤساء وهي الحالة الوحيدة التي تمت في الجامعة العربية، كما كانت المرة الأولى التي يغيب في المختار ولد داداه عن الاحتفالات بعيد الاستقلال الوطني نظرا لتزامنها مع القمة.


حرب الصحراء .. الأخطاء المدمرة


ينبش الكتاب في فصله الخامس مكنون حرب الصحراء واضعا مبضع الحقائق على جرح الحرب الذي لم يندمل لحد الساعة، وبعد سرد ملخص للأحداث بشهادات الفاعلين الأساسيين من قادة للأركان وكبار الضباط والساسة، يشير إلى بعض الأخطاء التي وقع فيها النظام حينها، وأبرزها:
- القبول بقرار اقتسام الصحراء مع المغرب، بموجب اتفاقية مدريد، لأنه قرار مخالف لدستور واحد وستين الذي ينص على استفتاء الشعب في أي تعديل على خريطة البلاد.
- لأن القرار يعني انحيازا إلى المغرب مقابل الجزائر، وهو ما يعني خسارة حليف قوي مؤثر في القارة الإفريقية.
- ثم نزع للغطاء الشرعي عن خطاب موريتانيا الذي دخلت به المحافل، لأنه انحياز لطرف مهيمن (المغرب) في مقابل حركة تحرر وطنية (بوليساريو).
- وهو أكثر من كل هذا دخول لحرب مع مجموعة مدربة، مدعومة من طرف دول قوية، بجيش قوامه حوالي ألف مقاتل، بتسليح تقليدي بالمرة، غير مقتنع بمبررات الحرب.
- إنه بكل بساطة تعريض كل المنجزات التي تحققت بفضل جهود ولد داداه ورفاقه لخطر الزوال بين عشية وضحاها.


انقلاب العاشر من يوليو لم لم يتحرك ضده الرئيس؟


يثير ولد شيخنا في كتابه المثير، في الفصل السادس، موضوع انقلاب العاشر من يوليو ضد نظام المختار ولد داداه، ويروي القصة بألسنة الفاعلين، ثم يطرح سؤالا عميقا مؤداه لما ذا لم يفعل المختار أي شيء لإيقاف الانقلاب رغم تواتر المعلومات التي تقول إن المختار علم بالانقلاب من أكثر من مصدر.
يجيب سيدي أعمر عن هذا السؤال بما يقوله الرئيس المختار نفسه وهو الحفاظ على معنويات الجيش الموريتاني في ساحة المعركة وعدم إفقاده قادته الذين لا شك سيستهدفهم أي تحرك لوقف العملية، كما كانت الوضعية التي تعيشها موريتانيا صعبة بفعل صعوبة الحرب وسنوات الجفاف وانقطاع المساعدات وتضرر صورة موريتانيا من جراء الحرب.
والخوف من مواجهة بين الانقلابيين والموالين للسلطة تؤدي إلى انفلات الوضع الأمني الذي تتربص به الحوادث.
ويضيف ولد شيخنا تسويغا آخر لا يخلو من وجاهة هو أن المختار اختار بين انقلابين أحدهما كانت مجموعة من داخل نظامه تحضره للتخلص من رئيسها "تغيير كيلا يقع التغيير" فأراد المختار أن يترك العسكر يتولون مقاليد الأمور، ويقطع الطريق على المجموعة الأخرى، والتي أغلبها من المقربين جدا من الرئيس.


محاولة كادير هل كانت "لاستعادة الشرعية" ؟


يراجع ولد شيخنا المحاولة الانقلابية التي قادها الجناح العسكري لما كان يعرف حينها باسم "التحالف من أجل موريتانيا ديمقراطية" بقيادة الضابط الموريتاني محمد ولد اباه ولد عبد القادر (المعروف بكادير) في السادس عشر من مارس 1981، ويجمع الشهادات حول العملية ليصل في الختام، استنادا إلى معطيات تاريخية وشهادات تاريخية منها الصادر عن الرئيس المختار ولد داداه نفسه، إلى أن المحاولة كانت تهدف لإعادة الرئيس المختار ولد داداه إلى السلطة، رغبة من ولد داداه في مغادرة السلطة مغادرة شريفة، واغتناما لفرصة التذمر الحاصل من حكم العسكر، وبمساعدة من أطراف إقليمية.


قراءة لا تغني عن القراءة


كتاب موريتانيا المعاصرة لا تغني القراءة فيها عن قراءته، نظرا لاستعصاء التفاصيل الكثيرة التي يعرضها ولأول مرة عن حوادث كان تأثيرها حاسما في مستقبل البلد، على التلخيص، والاختصار.
جدة الكتاب وجديته تحتمان العودة إليه في قراءة فصول من تاريخ موريتانيا ظلت طي النسيان. والمجهود الذي بذله صاحبه لا يقدر بثمن فهو، حقا عمل صعب، بأسئلته التي استنطقت فاعلين رفضوا الحديث وكادوا يلقون الله بأسرار لا يعرفها غيرهم، وهو عمل صعب بتجميع هذه الشهادات على شكل فصول وترتيبها ترتيبا لا يخلو من وجاهة منهجية، وهو عمل صعب بصياغة أفكار تم التحدث بها في اللجهة الحسانية وتحويلها إلى لغة عربية ناصعة الأسلوب، مع أمانة في النقل تمليها حساسية الموضوع.
ومع هذا يظل المجهود المبذول في الكتاب تصحيحا وتصفيفا دون المستوى المطلوب، فضيق هوامش الصفحات (الفهرس مثلا)، والأخطاء المطبعية (في علامات الترقيم خصوصا) ورداءة ضبط الأسطر والفقرات، وضعف الحباكة ونوع الورق كلها مشوشة على صورة الكتاب في ذهن القارئ اللقن.

الرياضة

الصحة

وكالة أنباء الأخبار المستقلة © 2003-2025