تاريخ الإضافة : 06.01.2010 12:33

أسرار الجمال في الشعر الحساني

المقالة الأولى
بقلم: الشاعر محمد ولد سيدي محمد

عندما تنشد " كافا " جميلا من الشعر الحساني أو" طلعة " جميلة على متلق ذي ذخيرة من هذا الشعر ، فلن ينطلي عليك ما سيعتريه من نشوة غامرة ، قد تنثال من فيه عبرصيغ التعجب المتنوعة ، وقد تشاهدها في رأسه الذي تميد به ريح الجمال يمينا وشمالا ، وقد تسري حُميا هذه النشوة في بقية جسمه ، فتلاحظها في حركة يديه وقدميه على سبيل المثال ! لكنك إن سألته : ما الذي جعلك تستحسن هذه الطلعة ؟ وما سر إعجابك بهذا الكاف ؟ عندئذ سيُبْهت الذي تذوق ، ويجيبك ـ إن أجاب ـ بأحكام مطلقة ، وألفاظ عامة من قبيل أن هذه الطلعة فريدة من نوعها ، أو أن الكاف نسيجُ وحده ، أو غير ذلك مما يدل على جمال المنشَد وجدته وتفرده ، لكنه لا يكشف سر جماله ، ولا يسوّغ درجة التأثر به ، ولك أن تقول : إنه لايتميز من مبرز التأثر الأول إلا بخروجه من الإنشاء إلى الخبر.
إن سر روعة الإبداع الشعري ظلّ أكبر مؤرّق لمتلقي الشعر عبر العصور ، حتى قال ناقد عربي قديم : إن من الأشياء أشياء تدركها المعرفة ، ولا تحيط بها الصفة . غير أن رصيد المتلقي الموريتاني من هذا الأرق أكبر ، وحظ نفسه من الشِّق في معرفة ذلك السر أكثر؛ ذلك بأن الشعر الحساني ـ على كثرة ما روي منه ـ لمّا تزل نصوصه بمنأى عن أقلام المكتشفين ، فلم تنشر عنه إلا دراسات تعد على الأصابع ، ولم نعثر على دراسة ولّت وجهها شطر أسرار الجمال في هذا الشعر إلا كتاب دده محمد الامين السالك : " من جماليات الشعر الحساني " وهو ـ رغم ريادته ـ لا ينجز ما وعد به العنوان ، بل هو عبارة عن معلومات عن الشعر الحساني قدمها صاحبها مشكورا ، وهذا ما يتجلى في عناوينه الفرعية مثل " استفادة الشعر الحساني من الموشحات الأندلسية " و " التشابه بين الكاف والبيت " و" تأثير الثقافة العربية في الشعر الحساني " و " الأطلال في الشعر الحساني " ، فهذه ـ كما ترى ـ مواضيع لم تنسبك في عقد واحد إلا بواسطة الموضوع ( الشعر الحساني )، فبعضها أدخل في باب النقد المقارن، وبعضها يدخل فيما يسمى أغراض الشعر " الأطلال " ... ، أما ما يتصل بمواطن الجمال كحديثه عن الصورة ، والخصائص المميزة في الشعر الحساني ، ففيه دليل على رهافة حسه ، ودقة ذوقه ، وإصابته في بعض الملاحظات ، لكنه ـ مع ذلك ـ لا يشفي للمتلقي غلة ، ولا يسد له مسغبة ، سواء كان مرد ذلك قصورا في التعليل ، أم انفراط العلاقة بين التنظير والتطبيق ، أم غير ذلك مما سنشير إليه حين معالجة ما تناوله قبلنا من نصوص.
و لا تظنن أن حال الجوانب الأخرى من الشعر الحساني أفضل ، فما زال التقعيد ضعيفا بشكل عام ، فليست لدينا حتى الآن ضوابط دقيقة نميز بها بحرا من بحر ، فليست معرفة عدد المتحركين في بحر معين كافية لمعرفة هذا البحر كمعرفتنا أن لبتيت التام يتألف من ثمانية متحركين ، أو أن الناقص يتألف من ستة ، أو أن " لبير " و " امريميده " أو " ا بوعمران " ... سباعية ، إذ يبقى السؤال ما عدد السواكن في كل بحر من هذه البحور؟ وما الميزان الذي نزن به البحر الحساني ، فيجلّي لنا هذا البحر دون اللجوء إلى الكدعة أو الموسيقى أو غير ذلك مما لا يعلم تأويله إلا المتخصصون ، وليس ما قام به محمد الامين بن لكويري في كتابه " بلوغ الأماني " من محاولة إلباس التفاعيل العربية للبحور الحسانية إلا دليلا على الشعور بهذه الإشكالية ، وإن كان فضل المحاولة مقتصرا على تنبيهنا أننا في حاجة لتقعيد البحور ، دون أن تلد هذه الحاجة اختراعا ؛ ذلك بأن مقاييسه ليست إلا استعارة بريئة لتفاعيل الشعر العربي ، لم يتجشم صاحبها عناء الموازنة ، ولا عنت الاستقراء .
لكنني ـ رغم ثنائية الخصاصة ـ سأقتصر في هذه المقالات على محاولة تلمس أسرار الجمال في الشعر الحساني ، وذلك يعود لسببين :
أولهما أن محاولة اكتشاف ميزان دقيق لبحور الشعر الحساني " لبتوته " يحتاج إلى كثير من التفرغ ، تقف دونه المشاغل ، ثم هو يحتاج إلى ذكاء لا أدعي امتلاكه .
وثانيهما أن الوزن لا يشكل مشكلة إلا لغير المختصين ، في حين تظل أسرار الجمال موصدة أبوابها أمام الطرفين .
وحين قررت خوض هذه التجربة كان أمامي من حيث المنهج عدة خيارات :
1 ـ أن أسلط أحد مناهج النقد المعروفة على رقاب النصوص الحسانية ، سواء المناهج السياقية التي تركز على مصادر النصوص ، أو المناهج النصية التي تنطلق من النصوص . وقد صدفت عن هذا الخيار لأنني من الذين يرون ضرورة انبثاق المنهج النقدي من النصوص ، وأن طبيعة النص هي التي تفرض المنهج .
2 ـ أن انطلق من مصطلحات تكون مفاتيح كالصورة والرمز وكسر الألفة وغيرها مما لا يعز وجوده في الشعر الحساني ، ثم أشرع في التنقيب عما تصدق عليه هذه المصطلحات ، لكنني صدفت ـ أيضا ـ عن هذه الطريقة ، لأن الانتقاء حينئد قد يحجب كثيرا من مواطن الجمال ، وقد تتسب مثل هذه الطريقة في لي أعناق النصوص .
3 ـ أن اختار مجموعة من النصوص الجميلة ، وأحاول قراءتها وإراغامها على التبرج وإبداء زينتها للمتلقين ، وحسبي في هذا المقام ، أن أستطيع إيصال ما مسني من جمال هذه النصوص، وأظن هذا السبيل أفضل من سالفيه ، لأننا في هذه المرحلة بحاجة إلى التطبيق أكثر من التنظير ، ولأن التنظير الصحيح وليد التراكم التطبيقي .

الاختيارالأول :
يقول المختار ولد ملاي اعلي :
يـــلاّلِ مَمتنّ أيــَـلاّلِ مــــعـــتن ِّ
أمسمنِّ حـكنِّ هح اصَّ مخل البُ
بيــّانَ مسمـنَّ يالـطــَّلابَ طـلــبُ
عندِ بيتْ أشمعَ واعظيـم ْانلبـلـْـبُ
أعندِ معادْ امعَ عيـشة منتْ الـبُ

ملاحظة: هذه أول مقالة من مجموعة مقالات عن الأدب الموريتاني ستكونون على موعد في كل يوم أربعاء مع واحدة منها.

المناخ

الصحة

وكالة أنباء الأخبار المستقلة © 2003-2025