تاريخ الإضافة : 12.12.2009 12:20
التقي ولد الشيخ للأخبار: أنا شاعر سياسي لا سياسي شاعر!!
التقي ولد الشيخ "احمد مطر الموريتاني" كما يسمى في المشهد الشعري الموريتاني وكما يصف هو نفسه، شاعر اللافتة الشعرية المرفوعة في معارك الأمة والوطن كرس شعره "حجرا" في يد أطفال الحجارة و"مجانين غزة" حجر طاردت شظاياه "زمن التطبيع" ونظمه بامتداد خريطتيهما حتى أجهزت عليهما واستراحت حين "سقط الثورفكثرت السكاكين".
التقي شاعر يمتاح من المتنبي ولكنه يرد أيضا حياض سدوم ولد اندرتولأنه "اعْلَ مُلانَ ما وَاعَرْ حدْ اِجِ شاعرْ وامْغَنِّ" وفي المقابلة التالية تدلف "الأخبار" إلى "ورشة التقي ولد الشيخ للافتات الشعرية" لترى كيف "يجري العمل" مع الاعتذار من التقي لأننا استعرنا من الأسلوب الساخر:
نص المقابلة
الأخبار:عرفكم المتابع للساحة الأدبية خلال السنوات الأخيرة بلافتاتكم الشعرية التي احتضنتها "جريدة الراية" حول الانتفاضة والوضع الداخلي، لكنكم الآن "خفت" صوتكم. كيف تفسرون هذا الأمر؟
التقي: بادئ ذي بدء أشكركم على هذه المقابلات التي تلقونها من حين لآخر حجرا في اليم الثقافي الراكد،ذلك الشكر الذي أحتفظ بمثله لطاقم جريدة "الراية" الذي احتضن صوتي أيام التكميم :
ونوه من ذكري وما كان خاملا ولكن بعض الذكر أنبه من بعض
وفيما يخص الإجابة عن سؤالكم فأقول: إنه إذا كان على الشاعر أن يتكلم إذا سكت الناس فإن له أن يسكت إذا تكلموا مستريحا استراحة محارب، وقد طبع المشهد السياسي المحلي أخيرا نوع من الإسهال الكلامي تبارى فيها المفسدون والمصلحون على حد سواء وكان مصبه نقد النظام البائد (نظام ولد الطايع) الذي لا أرى من المشرف اجترار مساوئه بعد ما رحل وذلك ما عبرت عنه في إحدى المناسبات (...) .
ثم إنني طيلة الفترة الأخيرة كنت مشتغلا بالبحث الجامعي فلم اقتطع للسياسة إلا وقتا يسيرا ابتغيت فيه بين الجهر والمخافتة سبيلا، بل إنني رفعت صوتي أحيانا كثيرة منحازا إلى ما يخرجني من دائرة الشياطين الخرس، ولكم أن تطالعوا زاويتي في "يومية السفير" المسماة "على فكرة" و "المساجلات" التي كنت أكتبها على لسان الطبقة السياسية في "أسبوعية المستقبل" وبعض اللافتات التي كانت تظهر من حين لآخر على صفحات "يومية السراج" وعلى بعض المواقع الالكترونية.
وبالمناسبة فأنا شاعر سياسي أنظر إلى السياسة بعين الشعر ولست سياسيا شاعرا يريد من الشعر أن يرتهن بقضايا السياسة وأن يردد من ببغائية أفكار الساسة ورؤاهم، فقد يليق بأولئك القوم ما لا يليق بأهل الشعر، إذ أن كلمة الشعر باقية محفورة في الأذهان شاهد إثبات على شخصية الشاعر ومواقفه التي يضر بها أي تناقض يخلده الشعر بينما يعتبر التناقض في أعراف السياسيين تكتيكا يتيح لأحدهم أن يتخذ في أول النهار موقفا يصفه بالمبدئي ثم لا تغرب شمس ذلك اليوم حتى يتخذ موقفا مناقضا له ولكنه في هذه المرة موقف جد مبدئي أيضا!
وإذا كان للسياسي عقل راجح يجعل جبينه لا يندى لمثل تلك التناقضات فإن للشاعر عاطفة حساسة لا تستطيع ممارسة الجمع بين الماء والنار إلا في لغة المجاز والمجاز وحده.
إذن فإن صوتي لم يخفت ولا أزال أصدح بقضايا وطني وبقضايا الانتفاضة الفلسطينية في الأقصى تلك الانتفاضة التي:
عرفت هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلبا خاليا فتمكنا
ولكن وجودي في الساحة منذ ما يزيد على العقد من الزمن نشازا أُغرد خارج سرب الشعراء قد جعلني مألوفا لدى الناس الذين قد يفوتهم بعض إنتاجي في الحقبة الأخيرة ولهم الحق في الركون إلى أصوات جديدة ومتميزة تكسر الروتين وتزيل الملل وكما يقال: (مغنية الحي لا تطرب).
الأخبار: ما هو فهم الشاعر التقي لفكرة "الالتزام" ونحن نعرف أنك لخصت شعرك في بيت واحد:
إن لم يكن حجرا شعري فإن به ما يجعل الناس طرا تحمل الحجرا
التقي : أعتقد أن زمن انطلاق الشاعر العربي من فضائه الذاتي قد ولى بعد نكبة فلسطين ونكبة حزيران واحتلال العراق وأفغانستان، وأصبحنا في فضاء كوني وإنساني أوسع يحتم على الشعراء أن يكونوا حماما زاجلا يحمل رسائل التحرر والانعتاق ويوصلها إلى أكبر كم من المستقبلين.
ومع أن أغلب تجاربنا الشعرية القديمة عاشت في أكناف البلاطات وبين حدائق القصور ولسان حال أصحابها يقول لولي نعمته:
أعطى أبوك أبي مالاً يعيش به فأعطني مثل ما أعطى أبوك أبي
فإن الشاعر في عصرنا اليوم هو شاعر يحرق المسافة بينما هو ذاتي وما هو جمعوي بل إنه يظلم ذاته في سبيل أمته ويضرب الذكر صفحا عن مقومات وجوده الفردي سعيا لتحقق وجود أوطانه واستقلالها دولا تملك قرارها وتحمي ثوابتها وهذا ما أسميه الالتزام حيث يشارك المثقف في قضايا المجتمع السياسية والاجتماعية والفكرية مشاركة مبنية على موقف صريح من الواقع والحياة محاولا الإصلاح والوقوف في وجه الفساد مستعدا لتحمل تبعات موقفه ذلك.
الأخبار: يطبع كتاباتكم النثرية والشعرية طابع الفكاهة والسخرية لماذا لجأتم إلى هذا الأسلوب؟
التقي: بالنظر إلى أن الاتجاه العام للمثقفين والمفكرين والكتاب هو اتجاه جدي صارم في تناول الموضوعات السياسية والاجتماعية المطروحة للنقاش والتداول فإنه لابد لكسر رتابة تلك الجدية وللتخفيف عن المتلقي السابح في أتون الأزمات من تغليف فكرة الجدية بشيء من السخرية والتهكم قد يكون أبعد غورا وأوفى بالمطلوب من آلاف المجلدات والصحف الجادة والمباشرة ، فهذا الأسلوب – إن شئتم- رشوة يصل من خلالها الكاتب إلى قلب المخاطب بأقل خسائر تعبيرية ممكنة ، وإذا كان الشاعر الجاد يفتح القلوب عنوة، فإن الشاعر الساخر يفتحها بالمعاهدة والصلح ؛ فهما وجهان لعملة واحدة، ألا ترانا ننقلب باكين عندما نفرط في الضحك فتنهمر الدموع من أعيننا.. وشر البلية ما يضحك.
الأخبار: أنت كشاعر تكتب الفصيح و "الحساني" هل هناك اختلاف في طبيعة الشعرين من ناحية العاطفة وطريقة التعبير عن الأشياء؟
التقي: إنني أرى -وهذا ما أسجله دائما- أن الشعر و "لغن" يخرجان من مشكاة واحدة ؛ فكل شاعر "امغن" إذا ألم بالنصوص التراثية والثقافة الشعبية كما أن كل "امغن" شاعر إذا اشتغل على التراث العربي وتملك ناصية اللغة وآلة الشعر، وبالطبع فطريقة التعبير بـ"لغن" أسهل وأبلغ لأنه اللغة الواصلة والمستوعبة من الجميع خاصة وعامة وقديما قيل إن الشعوب لا تنسجم إلا مع تراثها.
الأخبار: بعض النقاد يفضل تجربتكم في "لغن" على تجربتكم في الشعر كيف تعلقون؟ خاصة أن من يجمع بين الاثنين من شعرائنا قديما وحديثا هم قلة؟
التقي: طبعا للنقاد كلمتهم وهم أهل الفن المتخصصون ولا أريد أن أعقب على أحكامهم فعلاقة الشاعر مع النص تنتهي عندما ينفصل عنه ويقع تحت أيدي المتلقين وكما قلتم فإن الجمع بين الموهبتين قليل ولكنه ممكن كما قال الشاعر:
كولْ الْكَرْمِ عنِّ شاعرْ
وامْغَنِّ كولْ الْهَ عَنِّ
واعْلَ مُلانَ ما وَاعَرْ
حدْ اِجِ شاعرْ وامْغَنِّ.
الأخبار: لديكم مقولة تبررون بها قصر مقطوعاتكم الشعرية وهي أن العصر عصر سرعة. كيف ذلك؟ وبالمقارنة بينكم وبين الشاعر الكبير ولد أحمد يوره الذي عرف بقصر مقطوعاته الشعرية هل يمكن أن نقول إن هذا من تأثير "لغن" الذي يفضل شعراؤه الإيجاز كما قال أحدهم:
مَعْنَ ما جَ يَلْ يَكْلَعْ بوهْ افْكَافْ ارْبَعْ تيفَلْوَاتَنْ
منْ لبْتَيْتْ الله لا جَابُوهْ ذوكْ اطْلَعْ تَنْبَسْرَلاتنْ".
التقي: أحيانا يصفني البعض بأنني صاحب مدرسة شعبية على غرار ولد أحمد يوره وأحيانا يلقبونني بـ"أحمد مطر موريتانيا" ومع أنني أحفظ بعض شعر الأول ولا أحفظ للثاني سوى خمسة أبيات فإن فضاء التلاقي بيني وبين أحمد مطر أكبر؛ ربما لأنني شاعر سياسي أزعم أني صاحب مدرسة تعتمد قصيدة "الفكرة" أو "اللقطة" أو "الجدارية" وتسلك أقصر الطرق للوصول إلى المتلقين، وقد لا تصدقون أن عندي قصائد مطولة وأن فيها من غريب اللغة ما يستدعي الرجوع إلى "أمهات كتب المواد" إلا أنني أدركت أن الناس في عصر السرعة ينظرون إلى الغد وكأنه أمس الذاهب، وبالتالي فلا وقت لديهم للحفظ ولا للاستيعاب مما يحتم على القصيدة أن تكون بحجم رسائل الـ SMS النصية على أن تضغط وتشحن بالحمولة المعنوية التي تؤدي المقصود من دون إجهاد للأذهان وجلد للآذان وقد سئل عقيل ابن علفة: مالك لا تطيل الهجاء فقال: "يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق" فكذلك يكفي من الشعر ما أحاط بالمعنى ولم يرهق السامع.
الأخبار:لأننا في فترة يطغى فيها النقد من خلال المسابقات الشعرية، وبالنظر إلى المسابقات اليوم كيف تقيمون طبيعة تعامل النقاد مع النصوص ونتائج هذه المسابقات سواء منها الوطني والدولي؟
التقي: لأول مرة يتحكم النقاد في رقاب المبدعين حيث يحشر الشعراء أمام لجان التحكيم فترفع ذكر من شاءت وتُخمل ذكر من تشاء منهم، واسمحوا لي أن أقسم هذه المسابقات التي تحدثتم عنها إلى صنفين:
أ- المسابقات والبرامج التلفزيونية التي يهيمن التصويت على نتائجها ولن أتكلم عنها لأنني واكبتها بالنقد منذ النسخة الأولى من مسابقة "أمير الشعراء" فكتبت مقالات مطولة منشورة على عدد غير قليل من المواقع الالكترونية المحلية والعالمية أتذكر منها مقالا تحت عنوان "الشعر يذبح على نصب الـ SMS" وآخر تحت عنوان: "حتى لا يظلم شاعر الرسول".
ب- المسابقات المحلية التي تُشكل لها لجان تحكيم للنظر في النصوص ومفاضلتها وهنا أريد أن أقول للمتسابقين إن النص بالنظر إلى من يقومه أمام ثلاثة احتمالات:
- أن يرتفع عن مستوى لجنة التحكيم الإبداعي والمعرفي وفي هذه الحالة سيفشل وسيجد علامة ضعيفة.
- أن ينزل عن مستوى اللجنة وفي هذه الحالة سيفشل أيضا وسيجد علامة أضعف.
- أن يوافق مستوى لجنة التحكيم الإبداعي والمعرفي وهي الحالة الوحيدة التي يمكن أن ينال فيها النص درجة معتبرة ؛ ومن هذا المنطلق فإنني لست ممن يظلم لجان التحكيم ويصفها بالحيف.
وإذا كان لابد من إبداء ملاحظة على منهجية بعض المسابقات فإنني أقول: إنه لا ينبغي وضع علامة رقمية على النص (10/20 مثلا) من طرف أعضاء اللجنة لتكون العلامة الأخيرة هي حاصل قسمة مجموع العلامات على عدد الأعضاء؛ لأن الإبداع ليس عملية رياضية لها خطوات تنتهي بنتيجة حتمية لكنه خلق وابتكار تتشابك في تقويمه عوامل منها ما هو موضوعي ومنها ما هو ذاتي ومنها ما هو انطباعي تأثري فيجب أن يناقش جميع الأعضاء كل نص متسابق لتكون آراء بعضهم مكملة لآراء البعض الآخر وليتبين للبعض خطله فيتراجع عنه لصالح الإجماع، فليس الجميع على نفس المستوى في معرفة اللغة والنحو والبلاغة والأدب وفي التذوق ولكنهم يتفاوتون في ذلك:
وكم من عائب قولا صحيحا وآفته من الفهم السقيم
ولكن تأخذ الأذهان منه على قدر القرائح والفهوم
ولنفترض جدلا أن أحد النقاد أعطى لنص ما علامة (02/20) بينما أعطاه أحد زملائه النقاد علامة (16/20) ألا يمكن أن نعتبر أحد الحكمين انطباعيا لا يأرز إلى ركن متين من المعيارية والإنصاف بحكم البون الشاسع بين العلامتين؟!
الأخبار: كان للأدب والثقافة الأدبية حضور تاريخي في موريتانيا سواء الثقافة العربية والثقافة "البيظانية" مثلا. "استفت" كيف تستعيدون لنا هذا الحضور؟
التقي: من إيجابيات المسابقات الشعرية التي تحدثت عنها آنفا أنها خلقت فضاء ثقافيا جعل الشباب يرجع إلى روافده الثقافية الأولى التي يجتور فيها ما هو ثقافة عربية وإسلامية عالمة بما هو ثقافة شعبية وتراثية قائمة، وقد تحدث الأديب سيديا ولد هدار عن تلازم الثقافتين قائلا:
يَلالِ يَلْحَيْ الْعَالِ
مفْصَلْنِ فلّ يَلالِ
يسْمَعْ بَيْت امْلَسْ متوالِ
ؤكافْ امْلَسْ من دونْ اتسْيَافْ
هاذِ صَنْعَ معروفالِ
ما بيّ للناسْ اتوكافْ
آن باطلْ لابدالِ
من نحكِ بيت ؤنحكِ كافْ
غيرْ الْبَلادَ كثْرَتْ، عَادْ
ذاكْ الّ لاهِ يحكِ كافْ
ما ينْشافْ ؤذاكْ الِّ زادْ
يحكِ بيتْ الَّ ما ينْشافْ
فيما يتحدث الشيخ سيدي محمد ولد الشيخ سيديا عن المجالات المعرفية المكونة لشخصية الفتى قائلا:
وكم سامرت سمارا فُتُوًا إلى المجد انتموا من محتدين
حووا أدبا على حسب فداسوا أديم الفرقدين بأخمصين
أذاكر جمعهم ويذاكروني بكل تخالف في مذهبين
كخلف الليث والنعمان طورا وخلف الأشعري مع الجويني
وأحيانا نميل لذكر دارا وكسرى الفارسي وذي رعين
ونحو الستة الشعراء ننحوا ونحو مهلهل ومرقشين...
فعلينا اليوم أن نعود إلى روافدنا وأن نفتش في تراثنا عن مثل هذه الدرر التي توجد عند أدبائنا الشعبيين وعند شعرائنا الفصيحين على حد سوى وبذلك نحاول استعادة صورة الشنقيطي الموسوعي التي رسمها أجدادنا عنا في أذهان غيرنا.
التقي شاعر يمتاح من المتنبي ولكنه يرد أيضا حياض سدوم ولد اندرتولأنه "اعْلَ مُلانَ ما وَاعَرْ حدْ اِجِ شاعرْ وامْغَنِّ" وفي المقابلة التالية تدلف "الأخبار" إلى "ورشة التقي ولد الشيخ للافتات الشعرية" لترى كيف "يجري العمل" مع الاعتذار من التقي لأننا استعرنا من الأسلوب الساخر:
نص المقابلة
الأخبار:عرفكم المتابع للساحة الأدبية خلال السنوات الأخيرة بلافتاتكم الشعرية التي احتضنتها "جريدة الراية" حول الانتفاضة والوضع الداخلي، لكنكم الآن "خفت" صوتكم. كيف تفسرون هذا الأمر؟
التقي: بادئ ذي بدء أشكركم على هذه المقابلات التي تلقونها من حين لآخر حجرا في اليم الثقافي الراكد،ذلك الشكر الذي أحتفظ بمثله لطاقم جريدة "الراية" الذي احتضن صوتي أيام التكميم :
ونوه من ذكري وما كان خاملا ولكن بعض الذكر أنبه من بعض
وفيما يخص الإجابة عن سؤالكم فأقول: إنه إذا كان على الشاعر أن يتكلم إذا سكت الناس فإن له أن يسكت إذا تكلموا مستريحا استراحة محارب، وقد طبع المشهد السياسي المحلي أخيرا نوع من الإسهال الكلامي تبارى فيها المفسدون والمصلحون على حد سواء وكان مصبه نقد النظام البائد (نظام ولد الطايع) الذي لا أرى من المشرف اجترار مساوئه بعد ما رحل وذلك ما عبرت عنه في إحدى المناسبات (...) .
ثم إنني طيلة الفترة الأخيرة كنت مشتغلا بالبحث الجامعي فلم اقتطع للسياسة إلا وقتا يسيرا ابتغيت فيه بين الجهر والمخافتة سبيلا، بل إنني رفعت صوتي أحيانا كثيرة منحازا إلى ما يخرجني من دائرة الشياطين الخرس، ولكم أن تطالعوا زاويتي في "يومية السفير" المسماة "على فكرة" و "المساجلات" التي كنت أكتبها على لسان الطبقة السياسية في "أسبوعية المستقبل" وبعض اللافتات التي كانت تظهر من حين لآخر على صفحات "يومية السراج" وعلى بعض المواقع الالكترونية.
وبالمناسبة فأنا شاعر سياسي أنظر إلى السياسة بعين الشعر ولست سياسيا شاعرا يريد من الشعر أن يرتهن بقضايا السياسة وأن يردد من ببغائية أفكار الساسة ورؤاهم، فقد يليق بأولئك القوم ما لا يليق بأهل الشعر، إذ أن كلمة الشعر باقية محفورة في الأذهان شاهد إثبات على شخصية الشاعر ومواقفه التي يضر بها أي تناقض يخلده الشعر بينما يعتبر التناقض في أعراف السياسيين تكتيكا يتيح لأحدهم أن يتخذ في أول النهار موقفا يصفه بالمبدئي ثم لا تغرب شمس ذلك اليوم حتى يتخذ موقفا مناقضا له ولكنه في هذه المرة موقف جد مبدئي أيضا!
وإذا كان للسياسي عقل راجح يجعل جبينه لا يندى لمثل تلك التناقضات فإن للشاعر عاطفة حساسة لا تستطيع ممارسة الجمع بين الماء والنار إلا في لغة المجاز والمجاز وحده.
إذن فإن صوتي لم يخفت ولا أزال أصدح بقضايا وطني وبقضايا الانتفاضة الفلسطينية في الأقصى تلك الانتفاضة التي:
عرفت هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلبا خاليا فتمكنا
ولكن وجودي في الساحة منذ ما يزيد على العقد من الزمن نشازا أُغرد خارج سرب الشعراء قد جعلني مألوفا لدى الناس الذين قد يفوتهم بعض إنتاجي في الحقبة الأخيرة ولهم الحق في الركون إلى أصوات جديدة ومتميزة تكسر الروتين وتزيل الملل وكما يقال: (مغنية الحي لا تطرب).
الأخبار: ما هو فهم الشاعر التقي لفكرة "الالتزام" ونحن نعرف أنك لخصت شعرك في بيت واحد:
إن لم يكن حجرا شعري فإن به ما يجعل الناس طرا تحمل الحجرا
التقي : أعتقد أن زمن انطلاق الشاعر العربي من فضائه الذاتي قد ولى بعد نكبة فلسطين ونكبة حزيران واحتلال العراق وأفغانستان، وأصبحنا في فضاء كوني وإنساني أوسع يحتم على الشعراء أن يكونوا حماما زاجلا يحمل رسائل التحرر والانعتاق ويوصلها إلى أكبر كم من المستقبلين.
ومع أن أغلب تجاربنا الشعرية القديمة عاشت في أكناف البلاطات وبين حدائق القصور ولسان حال أصحابها يقول لولي نعمته:
أعطى أبوك أبي مالاً يعيش به فأعطني مثل ما أعطى أبوك أبي
فإن الشاعر في عصرنا اليوم هو شاعر يحرق المسافة بينما هو ذاتي وما هو جمعوي بل إنه يظلم ذاته في سبيل أمته ويضرب الذكر صفحا عن مقومات وجوده الفردي سعيا لتحقق وجود أوطانه واستقلالها دولا تملك قرارها وتحمي ثوابتها وهذا ما أسميه الالتزام حيث يشارك المثقف في قضايا المجتمع السياسية والاجتماعية والفكرية مشاركة مبنية على موقف صريح من الواقع والحياة محاولا الإصلاح والوقوف في وجه الفساد مستعدا لتحمل تبعات موقفه ذلك.
الأخبار: يطبع كتاباتكم النثرية والشعرية طابع الفكاهة والسخرية لماذا لجأتم إلى هذا الأسلوب؟
التقي: بالنظر إلى أن الاتجاه العام للمثقفين والمفكرين والكتاب هو اتجاه جدي صارم في تناول الموضوعات السياسية والاجتماعية المطروحة للنقاش والتداول فإنه لابد لكسر رتابة تلك الجدية وللتخفيف عن المتلقي السابح في أتون الأزمات من تغليف فكرة الجدية بشيء من السخرية والتهكم قد يكون أبعد غورا وأوفى بالمطلوب من آلاف المجلدات والصحف الجادة والمباشرة ، فهذا الأسلوب – إن شئتم- رشوة يصل من خلالها الكاتب إلى قلب المخاطب بأقل خسائر تعبيرية ممكنة ، وإذا كان الشاعر الجاد يفتح القلوب عنوة، فإن الشاعر الساخر يفتحها بالمعاهدة والصلح ؛ فهما وجهان لعملة واحدة، ألا ترانا ننقلب باكين عندما نفرط في الضحك فتنهمر الدموع من أعيننا.. وشر البلية ما يضحك.
الأخبار: أنت كشاعر تكتب الفصيح و "الحساني" هل هناك اختلاف في طبيعة الشعرين من ناحية العاطفة وطريقة التعبير عن الأشياء؟
التقي: إنني أرى -وهذا ما أسجله دائما- أن الشعر و "لغن" يخرجان من مشكاة واحدة ؛ فكل شاعر "امغن" إذا ألم بالنصوص التراثية والثقافة الشعبية كما أن كل "امغن" شاعر إذا اشتغل على التراث العربي وتملك ناصية اللغة وآلة الشعر، وبالطبع فطريقة التعبير بـ"لغن" أسهل وأبلغ لأنه اللغة الواصلة والمستوعبة من الجميع خاصة وعامة وقديما قيل إن الشعوب لا تنسجم إلا مع تراثها.
الأخبار: بعض النقاد يفضل تجربتكم في "لغن" على تجربتكم في الشعر كيف تعلقون؟ خاصة أن من يجمع بين الاثنين من شعرائنا قديما وحديثا هم قلة؟
التقي: طبعا للنقاد كلمتهم وهم أهل الفن المتخصصون ولا أريد أن أعقب على أحكامهم فعلاقة الشاعر مع النص تنتهي عندما ينفصل عنه ويقع تحت أيدي المتلقين وكما قلتم فإن الجمع بين الموهبتين قليل ولكنه ممكن كما قال الشاعر:
كولْ الْكَرْمِ عنِّ شاعرْ
وامْغَنِّ كولْ الْهَ عَنِّ
واعْلَ مُلانَ ما وَاعَرْ
حدْ اِجِ شاعرْ وامْغَنِّ.
الأخبار: لديكم مقولة تبررون بها قصر مقطوعاتكم الشعرية وهي أن العصر عصر سرعة. كيف ذلك؟ وبالمقارنة بينكم وبين الشاعر الكبير ولد أحمد يوره الذي عرف بقصر مقطوعاته الشعرية هل يمكن أن نقول إن هذا من تأثير "لغن" الذي يفضل شعراؤه الإيجاز كما قال أحدهم:
مَعْنَ ما جَ يَلْ يَكْلَعْ بوهْ افْكَافْ ارْبَعْ تيفَلْوَاتَنْ
منْ لبْتَيْتْ الله لا جَابُوهْ ذوكْ اطْلَعْ تَنْبَسْرَلاتنْ".
التقي: أحيانا يصفني البعض بأنني صاحب مدرسة شعبية على غرار ولد أحمد يوره وأحيانا يلقبونني بـ"أحمد مطر موريتانيا" ومع أنني أحفظ بعض شعر الأول ولا أحفظ للثاني سوى خمسة أبيات فإن فضاء التلاقي بيني وبين أحمد مطر أكبر؛ ربما لأنني شاعر سياسي أزعم أني صاحب مدرسة تعتمد قصيدة "الفكرة" أو "اللقطة" أو "الجدارية" وتسلك أقصر الطرق للوصول إلى المتلقين، وقد لا تصدقون أن عندي قصائد مطولة وأن فيها من غريب اللغة ما يستدعي الرجوع إلى "أمهات كتب المواد" إلا أنني أدركت أن الناس في عصر السرعة ينظرون إلى الغد وكأنه أمس الذاهب، وبالتالي فلا وقت لديهم للحفظ ولا للاستيعاب مما يحتم على القصيدة أن تكون بحجم رسائل الـ SMS النصية على أن تضغط وتشحن بالحمولة المعنوية التي تؤدي المقصود من دون إجهاد للأذهان وجلد للآذان وقد سئل عقيل ابن علفة: مالك لا تطيل الهجاء فقال: "يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق" فكذلك يكفي من الشعر ما أحاط بالمعنى ولم يرهق السامع.
الأخبار:لأننا في فترة يطغى فيها النقد من خلال المسابقات الشعرية، وبالنظر إلى المسابقات اليوم كيف تقيمون طبيعة تعامل النقاد مع النصوص ونتائج هذه المسابقات سواء منها الوطني والدولي؟
التقي: لأول مرة يتحكم النقاد في رقاب المبدعين حيث يحشر الشعراء أمام لجان التحكيم فترفع ذكر من شاءت وتُخمل ذكر من تشاء منهم، واسمحوا لي أن أقسم هذه المسابقات التي تحدثتم عنها إلى صنفين:
أ- المسابقات والبرامج التلفزيونية التي يهيمن التصويت على نتائجها ولن أتكلم عنها لأنني واكبتها بالنقد منذ النسخة الأولى من مسابقة "أمير الشعراء" فكتبت مقالات مطولة منشورة على عدد غير قليل من المواقع الالكترونية المحلية والعالمية أتذكر منها مقالا تحت عنوان "الشعر يذبح على نصب الـ SMS" وآخر تحت عنوان: "حتى لا يظلم شاعر الرسول".
ب- المسابقات المحلية التي تُشكل لها لجان تحكيم للنظر في النصوص ومفاضلتها وهنا أريد أن أقول للمتسابقين إن النص بالنظر إلى من يقومه أمام ثلاثة احتمالات:
- أن يرتفع عن مستوى لجنة التحكيم الإبداعي والمعرفي وفي هذه الحالة سيفشل وسيجد علامة ضعيفة.
- أن ينزل عن مستوى اللجنة وفي هذه الحالة سيفشل أيضا وسيجد علامة أضعف.
- أن يوافق مستوى لجنة التحكيم الإبداعي والمعرفي وهي الحالة الوحيدة التي يمكن أن ينال فيها النص درجة معتبرة ؛ ومن هذا المنطلق فإنني لست ممن يظلم لجان التحكيم ويصفها بالحيف.
وإذا كان لابد من إبداء ملاحظة على منهجية بعض المسابقات فإنني أقول: إنه لا ينبغي وضع علامة رقمية على النص (10/20 مثلا) من طرف أعضاء اللجنة لتكون العلامة الأخيرة هي حاصل قسمة مجموع العلامات على عدد الأعضاء؛ لأن الإبداع ليس عملية رياضية لها خطوات تنتهي بنتيجة حتمية لكنه خلق وابتكار تتشابك في تقويمه عوامل منها ما هو موضوعي ومنها ما هو ذاتي ومنها ما هو انطباعي تأثري فيجب أن يناقش جميع الأعضاء كل نص متسابق لتكون آراء بعضهم مكملة لآراء البعض الآخر وليتبين للبعض خطله فيتراجع عنه لصالح الإجماع، فليس الجميع على نفس المستوى في معرفة اللغة والنحو والبلاغة والأدب وفي التذوق ولكنهم يتفاوتون في ذلك:
وكم من عائب قولا صحيحا وآفته من الفهم السقيم
ولكن تأخذ الأذهان منه على قدر القرائح والفهوم
ولنفترض جدلا أن أحد النقاد أعطى لنص ما علامة (02/20) بينما أعطاه أحد زملائه النقاد علامة (16/20) ألا يمكن أن نعتبر أحد الحكمين انطباعيا لا يأرز إلى ركن متين من المعيارية والإنصاف بحكم البون الشاسع بين العلامتين؟!
الأخبار: كان للأدب والثقافة الأدبية حضور تاريخي في موريتانيا سواء الثقافة العربية والثقافة "البيظانية" مثلا. "استفت" كيف تستعيدون لنا هذا الحضور؟
التقي: من إيجابيات المسابقات الشعرية التي تحدثت عنها آنفا أنها خلقت فضاء ثقافيا جعل الشباب يرجع إلى روافده الثقافية الأولى التي يجتور فيها ما هو ثقافة عربية وإسلامية عالمة بما هو ثقافة شعبية وتراثية قائمة، وقد تحدث الأديب سيديا ولد هدار عن تلازم الثقافتين قائلا:
يَلالِ يَلْحَيْ الْعَالِ
مفْصَلْنِ فلّ يَلالِ
يسْمَعْ بَيْت امْلَسْ متوالِ
ؤكافْ امْلَسْ من دونْ اتسْيَافْ
هاذِ صَنْعَ معروفالِ
ما بيّ للناسْ اتوكافْ
آن باطلْ لابدالِ
من نحكِ بيت ؤنحكِ كافْ
غيرْ الْبَلادَ كثْرَتْ، عَادْ
ذاكْ الّ لاهِ يحكِ كافْ
ما ينْشافْ ؤذاكْ الِّ زادْ
يحكِ بيتْ الَّ ما ينْشافْ
فيما يتحدث الشيخ سيدي محمد ولد الشيخ سيديا عن المجالات المعرفية المكونة لشخصية الفتى قائلا:
وكم سامرت سمارا فُتُوًا إلى المجد انتموا من محتدين
حووا أدبا على حسب فداسوا أديم الفرقدين بأخمصين
أذاكر جمعهم ويذاكروني بكل تخالف في مذهبين
كخلف الليث والنعمان طورا وخلف الأشعري مع الجويني
وأحيانا نميل لذكر دارا وكسرى الفارسي وذي رعين
ونحو الستة الشعراء ننحوا ونحو مهلهل ومرقشين...
فعلينا اليوم أن نعود إلى روافدنا وأن نفتش في تراثنا عن مثل هذه الدرر التي توجد عند أدبائنا الشعبيين وعند شعرائنا الفصيحين على حد سوى وبذلك نحاول استعادة صورة الشنقيطي الموسوعي التي رسمها أجدادنا عنا في أذهان غيرنا.







