تاريخ الإضافة : 18.06.2009 13:32
"كتاب البادية" للشيخ محمد المامي: الخصوصية الفقهية لصحراء شنقيط
يُعدّ كتاب البادية للشيخ محمد إلمامي بن البخاري (1202- 1282) المحاولة الأبرز لإنتاج فقه يراعي الخصوصية البدوية لسكان صحراء شنقيط بكل تجلياتها بدءاً ب"السيبة السياسية"، وتعطل الأحكام السلطانية، ثم العادات والأعراف التي يتميزون بها في "نحل العيش"، وأخيراً الضرورات التي تفرضها البيئة القاسية، ودواعي الحل والترحال التي ظلت سائدة خلال قرون.
منهج فقهي/أصولي:
يسلك الكتاب الذي يسعى إلى تقديم مشروع فقه يراعي هذه الخصوصية منهجا يزاوج بين التقعيد الفقهي والتقعيد الأصولي، ويقوم على أربعة أقسام: ثلاثة منها مقدمات تمهيدية، والأخيرة هي صلب البحث في الموضوع القائم على تبيين أحكام جملة من النوازل البدوية عل نحو يراعي خصائص الزمان وتمايز العادات.
المقدمات الثلاث كرّسها المؤلف لإثبات مبدأين أو قاعدتين هما عماد منهجه الاستدلالي في إثبات خصوصية أهل البدو ببعض الأحكام التي تختلف باختلاف العادات، والقاعدتين هما:
- جواز التخريج على أصول الأئمة المتقدمين لعلماء زمانه إذا لم يجدوا في أقوالهم المنصوصة حكماً للنوازل التي عرضت لهم.
- جواز الأخذ بالعادة التي لا تخالف الشرع لداعي المصلحة، وكذلك جواز مراعاة الضرورات التي تعرض لأهل البدو حتى لو كانت غير داخلة تحت نوع من الضرورات نص المتقدمون على اعتباره.
- الكتاب إذاً أقرب إلى نواة مشروع لتبيئة الفقه في حاضنة بدوية والخروج من الاتكال المطلق على الفقه الحضري، الذي ينطلق من شواغل مختلفة، أخذاً بالقاعدة الفقهية "لا ينكر اختلاف الأحكام باختلاف الزمان والأحوال".
الخصوصية البدوية تعترف بـــ"الفقه البدوي":
الخلوّ من العمران وما يسببه من إكراهات في "نحلة العيش"، والخلوّ من السلطان وما ينشأ عنه من غياب الأمن على الأنفس والأموال.
وباستعراض جملة من القضايا التي عرض لها المؤلف يتضح لنا كيف أنتجت الخاصيتان المذكورتان واقعاً مختلفاً عن واقع الحضر في أعرافه الحاكمة وضروراته؛ فمن الإشكالات الناتجة عن غياب العمران التي عرضها المؤلف:
ـ غياب الاستئذان لتعوّد الناس على الخيام البدوية المفتوحة.
ـ شيوع التبرّج لعسر المحافظة على ستر العورة في الترحال وتعوّد الناس عليه.
ـ اختلال المكاييل والمقادير لعدم وجود عيار موحد عند أهل البادية.
أما الإشكالات السياسية الناتجة عن غياب السلطان، فنجد المؤلف يستعرض مجموعة منها مقدما لها أحكاما تراعي ضرورات الناس وعاداتهم، ومن هذه المسائل:
- "رد ألاي": وهو المال الذي انتزعته مجموعة من أصحاب الشوكة من أصحابه بالقوة ثم استرجعته مجموعة أخرى يقع مالكوه تحت حمايتها.
- المداراة: وهي المال الذي تدفعه الفئة المتعلمة للفئة المسيطرة على وجه الهبة في الظاهر، وهو في الواقع طريقة لاكتساب الصداقة واتقاء البأس.
- حكم زكاة أموال الفئة المنمية التي يتركها أهل الشوكة مجاملة لأصحاب الجاه من الفئة المتعلمة؛ فهل يتحقق فيها شرط تمام الملك اللازم في الزكاة، ومن قبيل هذه النازلة لكنها أخص منها: الحالة التي يقوم فيها صاحب الجاه باسترجاع المال ثم تنميته ورعايته.
هاجس الفراغ السياسي
موقع أثري لميدنة من عهد الدولة المرابطية .. الدولة الوحيدة التي شهدها التاريخ الموريتاني(تصوير الأخبار)
والواقع أن الاهتمام بالإشكالات الناجمة عن الفراغ السياسي والعمراني ليس جديدا على الشيخ محمد المامي؛ فقد عرض له من الوجهة التنظيرية في عدة مؤلفات أقواها في الدلالة على قوة هذا الانشغال هو نظمه لكتاب "الأحكام السلطانية" للماوردي، وعمليا عُرف عن المؤلف دعوته الشهيرة إلى نصب الإمام وسعيه الحثيث فيها من خلال الاتصال بالعلماء والتحريض بالأشعار، ومنها قصيدته المشهورة:
على من ساد أمرد أو جنينا صلاة مُتيّم عذراء تضحي
صلاة العاشقين لها قطينا تلقى بالقبول أوان تهدى يشيعها السلام لها قرينا والتي يقول فيها: وقلتم لا إمام بلا جهاد يعززه فهلا تضربونا وقلتم لا جهاد بلا إمام نبايعه فهلا تنصبونا إذا جاء الدليل وفيه دور كفى وعظا لقوم عاقلينا
كما نجده في صورة أبرز في أشعاره التي تنقل لنا بعض المرائي والمنامات الجهادية مثل قوله:
ومن أقواله الدالة على تحمّسه النفسي وانفعاله بهذا الإصلاح قوله عن الإمام الزنجي "امان ببوبكر "وقد شاهدته بــ"جولمه" يقيم الحدود فلله دره".
أسس المشروع ودواعيه
من هذه المسوّغات والأسس التي يقدمها الشيخ المامي أن القول بعدم جواز التخريج على أصول الأئمة إلا للمجتهدين في عصر لا يوجد فيه إلا المقلدون فيه تعطيل للأحكام وحرج على الأمة "فحاشى الذي أنزل في كتابه ( ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون) أن يجمع علينا أهل القرن الثالث عشر حرجين: يخلي عصرنا من المجتهدين ويمنع الكلام في نوازلنا على أمثل المقلدين". ويقول في نفس المعنى:
فما الرأي إن لم يفت فينا مُقَلّدُ بقينا وعصر الاجتهادات قد مضى
كما أنه من الناحية العملية فإن الذين يمنعون هذا التخريج يمارسونه في الواقع: "وقد منع النظر في النوازل معاصرون لا تمرُّ بهم سبعة أيام إلا اجتهدوا في نازلة".
هذا في ما يتعلق بجواز التخريج للمقلدين، أما جواز الأخذ بالعادة التي لا تخالف الشرع والتي قلنا إنها القاعدة الثانية التي بنى الشيخ محمد المامي بن البخاري عليها مشروعه الفقهي البدوي، فإنه يستدل عليها هي أيضا بمجموعة من الاعتبارات الشرعية والواقعية تقوم على أن تشريع مصالح الناس بالاجتهاد المراعي لحاجاتهم خير من تركهم يقتحمون الحرام فـ"الشبهة خيرٌ من الحرام ولا سيما مع تعمّده".
ومع أنه يرى أن هذا الباب لو فتح كلية "لاتسع الخرق على الرّاقع، ولم يشأ أحدٌ أن يقضي إلا وقضى"، فإنه يرى أن واقع البادية الشنقيطية في هذه الضرورات المتحققة أصبحت مما تعم به البلوى.
ويعزز الشيخ رحمه الله أدلة في المسألتين بإسقاط الفقهاء لبعض الشروط المطلوبة شرعاً في أنواع من المناصب الشرعية عند تعذر توفرها فيقول: "وجدنا والحمد لله نصوص المالكية على إسقاط ما تعذر من الشروط والأركان وخصوصا في القاضي والإمام والشاهد".
المشروع والتراث الفقهي
مع ما في مشروع فقه البادية من إبداع فإنه غير منقطع من سياقه الفقهي، سواء المحلي منه أو غير المحلي، وقد لاحظ الدكتور أحمد كوري ولد يابه الذي اشتغل على كتاب البادية أن الشيخ محمد المامي سلك طريقين لجمع الفقه المتعلق بالبادية من أجل استثماره في إنتاج منظومة فقهية تراعي خصوصية أهل بادية شنقيط، وهذين الطريقين هما:
ـ جمع أحكام البادية المتفرقة في الكتب الحضرية.
ـ حصر الفتاوي الشنقيطية المتعلقة بالمسائل الخاصة بالبدو.
والكتاب في رجوعه للتراث الفقهي ليس ناقلا فقط بل إنه أحيانا يناقش ويأخذ رأيا مغايراً لمن ينقل عنهم من العلماء السابقين شناقطة وغيرهم، هذا وقد أورد الدكتور أحمد كوري قائمة بأسماء العلماء الشناقطة، الذين اعتمد على فتاويهم قاربت العشرين من مختلف مناطق شنقيط بما فيها تنبكتو.







