تاريخ الإضافة : 10.05.2009 17:59
الشيخ الموسوعة
أحمد فال ولد الدين
لعل من باب العذر الأقبح من الذنب أني انشغلت عن تحبير مشاعري حول وفاة العلامة عدود بمتابعة بعض التفاصيل التي تهم ساسة ( في جنوب إفريقيا) ينظرون إلى الأرض أكثر من نظرهم إلى السماء…لكنه الواجب والعمل وطبيعة الدنيا الشغول. غير أني عدت الآن إلى جوهانزبورغ، وهي فرصة لإفراغ بعض الدموع وتحميل سِنان القلم براكين من الألم والحزن ينوء بهما رضوى وثهلان.
فأنا لا أنتمي للجيل المجْدود الذي درس وتربى على أيدي عباقرة المحظرة الشنقطية واحتكّ بهم. ذلك الجيل الذي تعلم على يدي محمد يحي ولد الشيخ الحسين، ومحمد سالم ولد المحبوبي والإمام بداه ومحمد سالم ولد عدود. فأنا أنتمي لجيل تعيس اسمه “جيل التسعينيات”..وألتمس العذر من أتراب قد يزعجهم الوصف.
جيل بائس حائر. برز إلى الوجود فوجد التعليم مُعربا حينا ومفرنسا آخر، وشمسَ العلوم المحظرية قد بلغت الحائط…
جيل أفاق فوجد بقية العمالقة من أمثال عدود ينشدون:
ذهب الذين يُعاش في أكنافهم * وبقيتُ في خلف كجلد الأجرب!
لذلك لم أحتك بالشيخ..خلافا للجيل الذي قبلي.
.
كانت أول مرة أراه فيها في رمضان عام 1995. وكان ذلك في المسجد الجامع بنواكشوط والمحاضرة عن “زوجات النبي صلى الله عليه وسلم”…فرأيت عجبا.
شعرت أن الرجل عاش أزمانا مديدة بين أخشبيْ مكة ولابتيْ المدينة واسترضع في بني مخزوم وبني أسد صدر الإسلام. إذ يحدث عن القوم حديث من خبر مدخلهم ومخرجهم وأنسابهم وطبائعهم..
كان يتحدث عن كل زوجة من زوجات المصطفى صلى الله عليه وسلم فيسلسل نسبها إلى أن تلتقي بالنبي صلى الله عليه وسلم ثم يثني بسبب زواجه بها والحكمة من وراء ذلك ولا يلقي بالا لما يقول “كأنه نفس من أنفاسه”.
اقتصرت المرات التي رأيته فيها بعد ذلك على لقاءات قصيرة أتخاط معه الحديث سائلا أو مسلما أو ملتمسا دعاء في مكان عام..
لكنني أذكر جيدا متى اكتحلت عيني برؤيته آخرمرة. إذ كنت وأحد الأصدقاء صيف عام 2007 أمام مطار نواكشوط فرأينا الشيخ داخل سيارته وحيدا ينتظر قادما فهُرعنا وسألناه عن بعض المسائل اللغوية التي كانت تشغل بالنا أيامنا تلك..
كنا يومها نستقبل كل خطإ لغوي شائع نتعلمه كأنه “تحفة قادمٍ أو شفاء مريض”. فأردنا أن نسأل الشيخ عن ما بأيدينا من أخطاء شائعة.
لكن الشيخ كان يحاول كل مرة أن يجد مخرجا صحيحا لكل كلمة نعرضها عليه ويردد: “خطأ مشهور خير من صواب مهجور”.
مصابي في الشيخ عدود مصاب مضاعف. فأنا أرى أن الثروة العلمية التي يتميز بها هذا المنكب البرزخي المنكوب إنما هي علماؤه. فهي الثروة الوحيدة التي يتميز بها كما أنها ثروة تستعصي على المصادرة من طرف عتاة أكلة المال العام.
رحم الله الشيخ عدود وبارك فيمن ورث حلمه وعلمه.
فإن ينقطع منكَ الرجاءُ فإنه * سيبقى عليك الحزن ما بقي الدهر..
---------------------------------
للإطلاع على مزيد من مقالات أحمد فال ولد الدين
لعل من باب العذر الأقبح من الذنب أني انشغلت عن تحبير مشاعري حول وفاة العلامة عدود بمتابعة بعض التفاصيل التي تهم ساسة ( في جنوب إفريقيا) ينظرون إلى الأرض أكثر من نظرهم إلى السماء…لكنه الواجب والعمل وطبيعة الدنيا الشغول. غير أني عدت الآن إلى جوهانزبورغ، وهي فرصة لإفراغ بعض الدموع وتحميل سِنان القلم براكين من الألم والحزن ينوء بهما رضوى وثهلان.
فأنا لا أنتمي للجيل المجْدود الذي درس وتربى على أيدي عباقرة المحظرة الشنقطية واحتكّ بهم. ذلك الجيل الذي تعلم على يدي محمد يحي ولد الشيخ الحسين، ومحمد سالم ولد المحبوبي والإمام بداه ومحمد سالم ولد عدود. فأنا أنتمي لجيل تعيس اسمه “جيل التسعينيات”..وألتمس العذر من أتراب قد يزعجهم الوصف.
جيل بائس حائر. برز إلى الوجود فوجد التعليم مُعربا حينا ومفرنسا آخر، وشمسَ العلوم المحظرية قد بلغت الحائط…
جيل أفاق فوجد بقية العمالقة من أمثال عدود ينشدون:
ذهب الذين يُعاش في أكنافهم * وبقيتُ في خلف كجلد الأجرب!
لذلك لم أحتك بالشيخ..خلافا للجيل الذي قبلي.
.
كانت أول مرة أراه فيها في رمضان عام 1995. وكان ذلك في المسجد الجامع بنواكشوط والمحاضرة عن “زوجات النبي صلى الله عليه وسلم”…فرأيت عجبا.
شعرت أن الرجل عاش أزمانا مديدة بين أخشبيْ مكة ولابتيْ المدينة واسترضع في بني مخزوم وبني أسد صدر الإسلام. إذ يحدث عن القوم حديث من خبر مدخلهم ومخرجهم وأنسابهم وطبائعهم..
كان يتحدث عن كل زوجة من زوجات المصطفى صلى الله عليه وسلم فيسلسل نسبها إلى أن تلتقي بالنبي صلى الله عليه وسلم ثم يثني بسبب زواجه بها والحكمة من وراء ذلك ولا يلقي بالا لما يقول “كأنه نفس من أنفاسه”.
اقتصرت المرات التي رأيته فيها بعد ذلك على لقاءات قصيرة أتخاط معه الحديث سائلا أو مسلما أو ملتمسا دعاء في مكان عام..
لكنني أذكر جيدا متى اكتحلت عيني برؤيته آخرمرة. إذ كنت وأحد الأصدقاء صيف عام 2007 أمام مطار نواكشوط فرأينا الشيخ داخل سيارته وحيدا ينتظر قادما فهُرعنا وسألناه عن بعض المسائل اللغوية التي كانت تشغل بالنا أيامنا تلك..
كنا يومها نستقبل كل خطإ لغوي شائع نتعلمه كأنه “تحفة قادمٍ أو شفاء مريض”. فأردنا أن نسأل الشيخ عن ما بأيدينا من أخطاء شائعة.
لكن الشيخ كان يحاول كل مرة أن يجد مخرجا صحيحا لكل كلمة نعرضها عليه ويردد: “خطأ مشهور خير من صواب مهجور”.
مصابي في الشيخ عدود مصاب مضاعف. فأنا أرى أن الثروة العلمية التي يتميز بها هذا المنكب البرزخي المنكوب إنما هي علماؤه. فهي الثروة الوحيدة التي يتميز بها كما أنها ثروة تستعصي على المصادرة من طرف عتاة أكلة المال العام.
رحم الله الشيخ عدود وبارك فيمن ورث حلمه وعلمه.
فإن ينقطع منكَ الرجاءُ فإنه * سيبقى عليك الحزن ما بقي الدهر..
---------------------------------
للإطلاع على مزيد من مقالات أحمد فال ولد الدين







