تاريخ الإضافة : 09.07.2008 11:42

شاي في المترو

بقلم: خديجة حمدي  (*)

بقلم: خديجة حمدي (*)

هذا الأزيز تحت الأرض ألا يذكرك بأزير الرياح العاتية فوقها. مكتوب عليك أن تعيش بين الضجيجين ضجيج البشر المتناثر من حولك كدمى محنطة، على منصة خشبية يحاول مهرج نفث الحياة فيها. وضجيج الأطفال من حولك، ضجيج النساء حول صهاريج المياه، وعند تقسيم المواد الغذائية، عند المستوصف، عند الأعراس، عند المآتم، عند المهرجان. هذا الضجيج يختلف، لأنه حديدي بفعل تماس القطار بالسكك التي يدكها انتقاما من تكرار الرحلة. أما أصوات البشر فإنها ميتة في حناجرهم، لا تسمعين سوى خطواتهم المتلاحقة ينزلون أو يصعدون عند كل محطة توقف، أو تقلب صفحات كتبهم استغلالا للوقت أو صراعا معه أو تدميرا للروتين الذي تعودوه كل يومهم في هذا القطار أوذاك، في هذا المترو أو ذاك، في هذه الحافلة أو تلك. لا تلاحظين سوى نظراتهم المتعبة التعيسة إما من جراء ليل قصير لم يشبعوا فيه نومهم ولا لذاتهم، أو تحسبا ليوم طويل يمتد كحضارتهم التي لا تنتهي بحثا عن المزيد.
هؤلاء الذين يشاركونك المترو، قد تعارفوا من زمان، يجمعهم في جوفه كل يوم ويتقيؤهم جماعات جماعات عند كل محطة وليبتلعهم آخر أو تبتلعهم إحدى العمارات المتعالية في السحاب، هم أحزمة من التعب والعلم والجنس والمال ورحلة لا محدودة للبحث عن مستقر، لا يجدونه أحيانا إلا عندما يتسمر الواحد على كرسي مثلك أو تعلق يداه بسقف كي لا يسقط، تجلسين مثلهم، وتركضين مثلهم، فإلى أين يا ترى؟
أيام وأشهر وأعوام وأنت رحالة (أو ديارة) كما يقول أجدادك، تدخلين قاعة فيصفق أهلها حتى تكاد تقطر أياديهم دما، يبكون مثلك حتى كأنهم لم يبكوا من قبل يتعاطفون معك كأنك أول محرك لوجدانهم، يحتضنونك، يقبلونك نساءا ورجالا، وقد يضعون صورتك المليئة بألوان ملحفتك على صفحة مجلة.
تعودين من حيث أتيت، لا تحملين معك سوى فتات أوراق، مبعثرة ومواقف وحلوى لأطفال الحي الذين ينتظرون قدومك ماما ديجا جات، ماما ديجا جات.. ثم ما بعد ذلك، تستجمعين أوراقك المتناثرة، وأقلامك المقضومة في لحظات تيه، وحقيبتك المثقلة بشتات أفكارك.
تغادرين الخيمة ككل صباح، تعودين لها فهي مأواك وقدرك، تسلمين في الطريق، في الخيمة، تكابرين، تجاملين، تطهين بلا رغبة لا في الأكل ولا في الزوار. إنهم لا يفهمونك، أنت بالنسبة لهم امرأة وصينية شاي، الشاي لم يعد حلقة أنس وسمر وثلاثية للحب والحياة والموت، تعدينه بشكل آلي، تلعب أناملك بالكؤوس المصطفة كأقزام على حلبة بهلوانية، تودين رميها على وجوههم الباسلة. كلهم الملاحف والدراعات البيضاء والزرقاء، أحرقي البخور على أحزانهم، اعزفي مقطوعة صحراوية على أوتار قلوبهم الميتة، نميهم في صفوف متراصة تحمل يافطات وإعلام، روضي أصابعهم المحمرة على علامة النصر، واخترقي بهم شوارع المدينة الراقدة على أوجاع العصر. لا، انتظروا، لقد أعددت لكم كل شيء، لا تضيعوا في مدينتكم انتظروا أرجوكم اشربوا على الأقل كأس الحب، سيعطيكم ليل الصيف المقمر في حلقات السمر الصبياني الجميل.. استمعوا لأغانينا، تفرجوا على رقصاتنا.
تتابع الراكبون الواحد تلو الآخر كأنهم يفرون منها وهي الواقفة كالمعتوهة تستجديهم. ذوي في كرسيك الحديدي.. مسكينة أنت لا وقت للاشيء عندهم، ولا معنى لانتظار عندهم. وحدك القابعة في ركن لأحزانك، قادرة على الانتظار.
استفاقت مذعورة، لقد انتهت كل المحطات وذابت في بلعوم الأرض، تنام على أزيز الضجيج، المقطع لجوف المدينة.. ترمنيس، قالها ذو الوجه الأحمر والعينين المغشاتين بنوم زاحف من ثنايا التعب، وهو يضم حقيبة هاتفا ونظرات مريبة حول امرأة لم يألف مثلها قط.
وزيرة الثقافة الصحراوية (*)
08/07/2008

الجاليات

شكاوي

وكالة أنباء الأخبار المستقلة © 2003-2025