تاريخ الإضافة : 01.07.2008 16:49
التعالق بين قصيدتي الشاعرين هاشم الرفاعي وفاضل أمين
بين يدي المعالجة:
تهدف هذه المعالجة إلى البحث عن التعالق أو التداخل أو التناص بين نصين مختلفين زمانا ومكانا ومنتجا، هذين النصين أحدهما للشاعر المصري هاشم الرفاعي المتوفى سنة 1959م وهو نص بعنوان " ليلة التنفيذ" ألقاه قبيل وفاته بأشهر في المهرجان الأول للشعر العربي المنعقد في دمشق في نفس السنة، أما النص الثاني فهو للشاعر الموريتاني فاضل أمين المتوفى سنة 1983م وكان كتبه أيضا قبل وفاته بقليل وبعث به في رسالة إلى رفيقه آنذاك الأستاذ خليل النحوي وهو يقبع في السجن.
كلمة عن التعالق في النقد العر بي القديم:
قديما قيل "يقع الشاعر على الشاعر كما يقع الحافر على الحافر" إن هذا المثل العربي الغابر في الزمان يحيل إلى مسألة مهمة في الدراسة النقدية الحديثة المهتمة بتأصيل النظريات النقدية تلك المسألة هي أن رؤية تبلورت حول نظرية التداخل في اللفظ أو المعنى أو الفضاء الشعري بين قصيدتين أنتجهما شاعران مختلفان زمانا ومكانا لكن الأخير منهما يغيب في بنياته النصية والمضمونية –حسب تعبير بنيس- نص أو نصوص سابقة أو يدخل معه في تعالق نصي – حسب محمد مفتاح- ، هذه النظرية وجدت في المخيال النقدي للعرب وإن بشكل غير منظم وكانت كتب مثل الموازنة بين أبي تمام والبحتري للآمدي والوساطة بين المتنبي وخصومه للجرجاني وكتب السرقات للقطربلي والنصيبي الحميدي كلها تعكس إحساسا عارما بهذه الطبيعة الكامنة في النصوص الشعرية أي طبيعة النسب العريق والوشائج المتداخلة والمتبادلة بينها,وتطورت هذه النظرية في العصر الحديث في الغرب ليقوم بدراستها مجموعة من النقاد العرب أشهرهم محمد بنيس ومحمد مفتاح.
تناص شعوري أم اقتباس واع:
قد لا يرى البعض فرقا بين المعنين ( التناص الشعوري – الاقتباس الواعي) ذلك أن الشعور في مصطلح علماء النفس يأتي في مقابل اللاشعور أي يأتي مرادفا للوعي لكن ما نقصده بالتناص الشعوري هو أن الظروف النفسية للتجربة الشعرية متشابهة لدى أغلب الشعراء وهي تمر بلحظات شعورية تبلغ ذروتها فيغيب "الشاعر الشخص" في حميا الانفعال الشعوري للتجربة ( القصيدة) ليحضر "الشاعر الشاعر" المتحد مع غيره في التجربة الشعورية فتحدث مسألة "الوقوع على الشاعرالآخر" كما عند الأقدمين أو مسألة التناص الشعوري بالتعبير الحديث الذي يدخل فيه الشاعر الفضاء اللغوي والتصويري لشاعر قبله لم يقرأ له وحتى ربما لم يسمع به كفضاء شعري مشترك، أما الاقتباس الواعي فهو القائم على انفعال الشاعر سابقا بتجربة محددة لشاعر آخر واستبطانها ومن ثم استدعائها داخل نصه بإبراز جوانب من التشاكل أو التشابه مع النص الأول الذي أصبح جزءا من المكون الثقافي والمعرفي له إذا كان ذلك هو الفرق بين المعنيين فأيهما كان هو موجه التعالق بين هذين النصين موضوع الدراسة.
الشروط السياقية للنصين وأرجحية الاطلاع:
إن السياق السياسي الذي كتب فيه النصان متطابق تماما وإن اختلفت الأماكن والأسماء فهاشم الرفاعي كتب نصه سنة 1959 أيام قوة بطش الحكومة المصرية في فترة عبد الناصر بالإخوان المسلمين وهو عبارة عن مونولوج داخلي مثل فيه الشاعر دورسجين مفترض سينفذ فيه حكم الإعدام في ساعات الصباح الأولى وهو يقضي آخر ليلة من حياته وهو تمثل أعطى النص حيوية وعاطفية، وفاضل أمين كتب نصه إبان الحكم العسكري في ولاية الرئيس الأسبق محمد خون ولد هيدالة وأيام بطشه بالحركات السياسية ومنها البعثيون الذين ينتمي لهم الشاعر فاضل أمين والنص عبارة عن رسالة بعث بها الشاعر إلى رفيقه السجين ومن خلاله إلى المجتمع ليكشف جوانب من التعسف والظلم والملاحقة التي يقوم بها النظام العسكري، إن هذا الظرف المتشابه قد يقود إلى اعتبار هذا التعالق عرضيا وهو اعتبار وجيه إلى حد كبير لكن سبق قصيدة الرفاعي لقصيدة فاضل أمين بما يقارب 23 سنة يفرض اعتبار الاقتباس الواعي ويعضد ذلك أن شاعرا ثائرا مثل فاضل أمين يعيش في فترة كان المبدع الموريتاني فيها يسعى إلى استلهام أدبيات ومضامين الثورة لا يمكن أن يفوته الاطلاع على قصيدة ذائعة الصيت لشاعر ثائر مثله ولذلك يمكن أن نجزم أن أمين اطلع على نص الرفاعي وانفعل به ومن ثم نسج على منواله لما عايش نفس التجربة ذاتيا ويزيد هذا الاعتبار تأكيدا اختلاف هذه القصيدة عن النسق التعبيري والتصويري العادي لفاضل أمين بما يجعله قصد محاورة نص الرفاعي المذكور.
ملامح التعالق بين النصين:
تمكن ملاحظة مستويات عدة للتعالق بين نص الرفاعي وفاضل أمين بدءا ب"النص الموازي" الذي هو علاقة النص العالق بالمقدمة والتمهيد حيث أن كلا النصين بدأ بمطلع إنشائي ندائي عند الرفاعي ( أبتاه ماذا قد يخط بناني) وأمري عند فاضل أمين ( اسمع أخي سأقص عن ما قد جرى) وكذلك استدعاء العاطفة من خلال استخدام مدلول ذي علاقة حميمية (الأب عند الرفاعي) و( الأخ عند فاضل أمين) كما أن هناك تعالق موسيقيا فالنصان ينتميان لفضاء واحد من الوزن والنغم فكلاهما من بحر الكامل وإن اختلفا في الخلفية الحزنية الطاغية عند الرفاعي والتي تزيدها قافية النون المكسورة المشبهة للأنين والتي حاول فاضل أمين أن يعوض خفوتها في نصه ذي القافية الرائية المفتوحة بتكثيف ألفاظ الحزن و الفجيعة, أما المستوى الثاني من مستويات التناص ( التعالق) الذي يظهر بين النصين فهو ما يسمى بالنصية الواسعة وهي علاقة الاشتقاق بين النص الأصلي القديم والنص ا الجديد ويظهر ذلك من خلال الفضاء الشعري العام للنصين المليئ بالمفردات المتماثلة أحيانا و المترادفة أحايين أخرى والتي تمتاح من نفس المنبع الحزين المأساوي الذي تتخلله ومضات أمل مشرقة وفي المستوى الأخير والأظهر من مستويات التعالق نجد الاقتباس المباشر يقول فاضل أمين:
لكنني أدري بأن قضيتي
ستظل للأجيال دربا نيرا
أنا ما أردت سوى الحياة عزيزة
أنا ما وردت سوى العقيدة مصدرا
إن تقهروا جسدي فإن إرادتي
أقوى من الليل المخيم في الذرى
إنها عملية إعادة إنتاج واضحة لأبيات الرفاعي:
كل الذي أدريه أن تجرعي
كأس المذلة ليس في إمكاني
أهوى الحياة كريمة لا قيد لا
إرهاب لا استخفاف بالإنسان
أنفاسك الحرى وإن هي أخمدت
ستظل تغمر أفقهم بدخان
كل مستويات التناص والتعالق وجدت بين هذين النصين وإن فرقت بين تجربتيهما فوارق عدة لعل أهمها طول النفس الشعري لدى الرفاعي في هذا النص (52 بيتا) واتساق مستوياته الفنية ونضجها في حين كان نص فاضل أمين مهلهلا من الناحية الفنية قصيرا في النفس ( 19 بيتا)،كما استطاع نص الرفاعي أن يستغرق الشحنة الشعورية المحتملة للراوي في حين كان نص فاضل أمين مختزل التجربة النفسية والشعورية مع أن هذا لا يعني أن فاضل أمين ليس شاعرا أصيلا طويل النفس قوي التصوير واللغة لكن نصه هذا كما أسلفت لا ينتمي إلى فضائه الشعري المعتاد.
تهدف هذه المعالجة إلى البحث عن التعالق أو التداخل أو التناص بين نصين مختلفين زمانا ومكانا ومنتجا، هذين النصين أحدهما للشاعر المصري هاشم الرفاعي المتوفى سنة 1959م وهو نص بعنوان " ليلة التنفيذ" ألقاه قبيل وفاته بأشهر في المهرجان الأول للشعر العربي المنعقد في دمشق في نفس السنة، أما النص الثاني فهو للشاعر الموريتاني فاضل أمين المتوفى سنة 1983م وكان كتبه أيضا قبل وفاته بقليل وبعث به في رسالة إلى رفيقه آنذاك الأستاذ خليل النحوي وهو يقبع في السجن.
كلمة عن التعالق في النقد العر بي القديم:
قديما قيل "يقع الشاعر على الشاعر كما يقع الحافر على الحافر" إن هذا المثل العربي الغابر في الزمان يحيل إلى مسألة مهمة في الدراسة النقدية الحديثة المهتمة بتأصيل النظريات النقدية تلك المسألة هي أن رؤية تبلورت حول نظرية التداخل في اللفظ أو المعنى أو الفضاء الشعري بين قصيدتين أنتجهما شاعران مختلفان زمانا ومكانا لكن الأخير منهما يغيب في بنياته النصية والمضمونية –حسب تعبير بنيس- نص أو نصوص سابقة أو يدخل معه في تعالق نصي – حسب محمد مفتاح- ، هذه النظرية وجدت في المخيال النقدي للعرب وإن بشكل غير منظم وكانت كتب مثل الموازنة بين أبي تمام والبحتري للآمدي والوساطة بين المتنبي وخصومه للجرجاني وكتب السرقات للقطربلي والنصيبي الحميدي كلها تعكس إحساسا عارما بهذه الطبيعة الكامنة في النصوص الشعرية أي طبيعة النسب العريق والوشائج المتداخلة والمتبادلة بينها,وتطورت هذه النظرية في العصر الحديث في الغرب ليقوم بدراستها مجموعة من النقاد العرب أشهرهم محمد بنيس ومحمد مفتاح.
تناص شعوري أم اقتباس واع:
قد لا يرى البعض فرقا بين المعنين ( التناص الشعوري – الاقتباس الواعي) ذلك أن الشعور في مصطلح علماء النفس يأتي في مقابل اللاشعور أي يأتي مرادفا للوعي لكن ما نقصده بالتناص الشعوري هو أن الظروف النفسية للتجربة الشعرية متشابهة لدى أغلب الشعراء وهي تمر بلحظات شعورية تبلغ ذروتها فيغيب "الشاعر الشخص" في حميا الانفعال الشعوري للتجربة ( القصيدة) ليحضر "الشاعر الشاعر" المتحد مع غيره في التجربة الشعورية فتحدث مسألة "الوقوع على الشاعرالآخر" كما عند الأقدمين أو مسألة التناص الشعوري بالتعبير الحديث الذي يدخل فيه الشاعر الفضاء اللغوي والتصويري لشاعر قبله لم يقرأ له وحتى ربما لم يسمع به كفضاء شعري مشترك، أما الاقتباس الواعي فهو القائم على انفعال الشاعر سابقا بتجربة محددة لشاعر آخر واستبطانها ومن ثم استدعائها داخل نصه بإبراز جوانب من التشاكل أو التشابه مع النص الأول الذي أصبح جزءا من المكون الثقافي والمعرفي له إذا كان ذلك هو الفرق بين المعنيين فأيهما كان هو موجه التعالق بين هذين النصين موضوع الدراسة.
الشروط السياقية للنصين وأرجحية الاطلاع:
إن السياق السياسي الذي كتب فيه النصان متطابق تماما وإن اختلفت الأماكن والأسماء فهاشم الرفاعي كتب نصه سنة 1959 أيام قوة بطش الحكومة المصرية في فترة عبد الناصر بالإخوان المسلمين وهو عبارة عن مونولوج داخلي مثل فيه الشاعر دورسجين مفترض سينفذ فيه حكم الإعدام في ساعات الصباح الأولى وهو يقضي آخر ليلة من حياته وهو تمثل أعطى النص حيوية وعاطفية، وفاضل أمين كتب نصه إبان الحكم العسكري في ولاية الرئيس الأسبق محمد خون ولد هيدالة وأيام بطشه بالحركات السياسية ومنها البعثيون الذين ينتمي لهم الشاعر فاضل أمين والنص عبارة عن رسالة بعث بها الشاعر إلى رفيقه السجين ومن خلاله إلى المجتمع ليكشف جوانب من التعسف والظلم والملاحقة التي يقوم بها النظام العسكري، إن هذا الظرف المتشابه قد يقود إلى اعتبار هذا التعالق عرضيا وهو اعتبار وجيه إلى حد كبير لكن سبق قصيدة الرفاعي لقصيدة فاضل أمين بما يقارب 23 سنة يفرض اعتبار الاقتباس الواعي ويعضد ذلك أن شاعرا ثائرا مثل فاضل أمين يعيش في فترة كان المبدع الموريتاني فيها يسعى إلى استلهام أدبيات ومضامين الثورة لا يمكن أن يفوته الاطلاع على قصيدة ذائعة الصيت لشاعر ثائر مثله ولذلك يمكن أن نجزم أن أمين اطلع على نص الرفاعي وانفعل به ومن ثم نسج على منواله لما عايش نفس التجربة ذاتيا ويزيد هذا الاعتبار تأكيدا اختلاف هذه القصيدة عن النسق التعبيري والتصويري العادي لفاضل أمين بما يجعله قصد محاورة نص الرفاعي المذكور.
ملامح التعالق بين النصين:
تمكن ملاحظة مستويات عدة للتعالق بين نص الرفاعي وفاضل أمين بدءا ب"النص الموازي" الذي هو علاقة النص العالق بالمقدمة والتمهيد حيث أن كلا النصين بدأ بمطلع إنشائي ندائي عند الرفاعي ( أبتاه ماذا قد يخط بناني) وأمري عند فاضل أمين ( اسمع أخي سأقص عن ما قد جرى) وكذلك استدعاء العاطفة من خلال استخدام مدلول ذي علاقة حميمية (الأب عند الرفاعي) و( الأخ عند فاضل أمين) كما أن هناك تعالق موسيقيا فالنصان ينتميان لفضاء واحد من الوزن والنغم فكلاهما من بحر الكامل وإن اختلفا في الخلفية الحزنية الطاغية عند الرفاعي والتي تزيدها قافية النون المكسورة المشبهة للأنين والتي حاول فاضل أمين أن يعوض خفوتها في نصه ذي القافية الرائية المفتوحة بتكثيف ألفاظ الحزن و الفجيعة, أما المستوى الثاني من مستويات التناص ( التعالق) الذي يظهر بين النصين فهو ما يسمى بالنصية الواسعة وهي علاقة الاشتقاق بين النص الأصلي القديم والنص ا الجديد ويظهر ذلك من خلال الفضاء الشعري العام للنصين المليئ بالمفردات المتماثلة أحيانا و المترادفة أحايين أخرى والتي تمتاح من نفس المنبع الحزين المأساوي الذي تتخلله ومضات أمل مشرقة وفي المستوى الأخير والأظهر من مستويات التعالق نجد الاقتباس المباشر يقول فاضل أمين:
لكنني أدري بأن قضيتي
ستظل للأجيال دربا نيرا
أنا ما أردت سوى الحياة عزيزة
أنا ما وردت سوى العقيدة مصدرا
إن تقهروا جسدي فإن إرادتي
أقوى من الليل المخيم في الذرى
إنها عملية إعادة إنتاج واضحة لأبيات الرفاعي:
كل الذي أدريه أن تجرعي
كأس المذلة ليس في إمكاني
أهوى الحياة كريمة لا قيد لا
إرهاب لا استخفاف بالإنسان
أنفاسك الحرى وإن هي أخمدت
ستظل تغمر أفقهم بدخان
كل مستويات التناص والتعالق وجدت بين هذين النصين وإن فرقت بين تجربتيهما فوارق عدة لعل أهمها طول النفس الشعري لدى الرفاعي في هذا النص (52 بيتا) واتساق مستوياته الفنية ونضجها في حين كان نص فاضل أمين مهلهلا من الناحية الفنية قصيرا في النفس ( 19 بيتا)،كما استطاع نص الرفاعي أن يستغرق الشحنة الشعورية المحتملة للراوي في حين كان نص فاضل أمين مختزل التجربة النفسية والشعورية مع أن هذا لا يعني أن فاضل أمين ليس شاعرا أصيلا طويل النفس قوي التصوير واللغة لكن نصه هذا كما أسلفت لا ينتمي إلى فضائه الشعري المعتاد.







