تاريخ الإضافة : 31.03.2013 13:32

صناديق الموت الطائرة

الأستاذ / مولاي عبد الله ولد مولاي عثمان

الأستاذ / مولاي عبد الله ولد مولاي عثمان

انظروا إلى ما يحدث في الطيران العسكري.. إننا نفقد كل عام نخبة من شبابنا الطامحين الرائعين في حوادث طائرات متهالكة اشتريت بصفقات فساد ضخمة أثرى بها بعض كبار الضباط !! لقد عددنا تسعة – على الأقل - من خيرة عسكريينا الشباب بعضهم ضباط فقدوا حياتهم منذ 2010 في صناديق الموت الطائرة التي تشتريها أو "تصونها" مديرية الطيران العسكري.

أغلب الطائرات العسكرية الموريتانية خردة عتيقة وطراز قديم لم يعد مستخدما في العالم إلا لدى عصابات المخدرات في أدغال كولومبيا، والإدارة المسؤولة في الجيش الوطني لا تحترم جدولة صيانة هذه الطائرات.. هذه معلومة "لا يحكيها فم لأذن"، لذلك فإن حالها التقني ضعيف جدا والحال التكويني والنفسي للأفراد كذلك ضعيف وسيء جدا، والتذمر والتمرد متنامٍ بشكل لافت جدا؛ فقبل أشهر قدم خمسة ضباط شباب استقالات جماعية، لكن الإدارة رفضتها وأرجعتهم إلى أعمالهم بالقهر والترهيب والوعود الكاذبة بالإصلاح.

هؤلاء الشباب على حق.. إنهم لا يردون أن يموتوا عن آبائهم وأمهاتهم وأخواتهم وزوجاتهم داخل صندوق طائر مهترئ في طقس جوي سيء ودون توجيه من برج مراقبة بلا مراقب بسبب النقص الكبير في عدد المراقبين الجويين، إنهم يعرفون حقيقة آلة الانتحار هذه التي تسمى "طائرة عسكرية"، يعرفون كيف تُعقد صفقات شرائها وصيانتها ومع من تعقد وممن تشترى قطع غيارها؟.

عندما تقرر جيوش العالم أن تجدد أسطولها أو تستورد قطع غيار فإنها تسلك إلى ذلك سبيل المعارض العسكرية العالمية وأحيانا تكون متعاقدة مع شركات سلاح معروفة، لكن هل تعرفون كيف يفعل جيشنا الوطني ذلك؟.

الأمر بسيط وروتيني.. يحيل المشرفُ الأول قائد سلاح الطيران الأمر إلى ابن عمه الضابط (م. س. ح) الذي تربطه علاقات واسعة مع شبكة من تجار الخردة (النحّارة) العالميين المحتفظين بقطع غيار لطائرات خرجت من الخدمة العسكرية لبلدانها منذ عشرات السنين، ثم تتم الصفقة بشكل ثنائي بعيدا عن المؤسسية وتصل "البضاعة" – المغشوشة غالبا - باسم هذا الضابط وليس باسم الجيش الوطني الموريتاني.

في السادس عشر من يونيو 2010 أعلن إنشاء مدرسة عسكرية للطيران وصفها مدير العمليات الجوية المقدم الزين ولد اسويدات بأنها "ذخر استيراتيجي"، لكن ضابطا مطلعا أكد لي أنها لا ذخر ولا استيراتيجية ولا هم يحزنون، وأن رغبة "فسادية" ضخمة كانت وراء إنشاء هذه المدرسة لأنها فتحت بند صرف جديد في ميزانية مديرية الطيران، وأنتم تعلمون ما معنى أن تزيد الميزانية في مؤسسة موريتانية.

لا تقدم هذه المدرسة تكوينا كافيا لخريجيها، ومن المؤسف حقا أن الشهيد العريف الميكانيكي أبو بكر امبودج الذي توفي في طائرة أوجفت لم يتلقّ تكوينا خارج هذه المدرسة التي لا يرقى التكوين فيها إلى مستوى التكوين في "كراج لكصر"؟.

وبمناسبة الحديث عن التكوين الناقص والعمل في غير مجال التخصص، فإن الشهيد الحسن ولد محمد صالح الذي كان يقود طائرة تازيازت وتوفي في حادث سقوطها متخصص في مجال الرقابة الجوية ولم يتلقّ تكوينه الأساسي كطيار، وقادته العسكريون هم الذين "دفعوه دفعا" إلى القيام بمهام الطيران التي تلقى فيها تكوينا غير مكتمل؟.

ومن مظاهر تولية الأمور غير أهلها في قطاع الطيران العسكري سيطرة القوات البرية على مفاصل إدارته، ولذلك يكاد يكون مستحيلا أن يترقى ضابط أو ضابط صف جوي في قطاعه الذي ينتمي إليه؛ لأنه يلزم بالامتحان في مواد تخص القوات البرية!! وبسبب سيطرة القوات البرية على قيادة شؤون الجيش كله وتداخل الصلاحيات تعيش المؤسسة العسكرية حالة إدارية سيئة للغاية تفضي إلى كوارث بشرية وعتادية كثيرة وكبيرة.

أما الاكتتاب فهو ابن المحسوبية الصارخة التي لا تراعى فيها الكفاءة والجدارة؛ ومستويات بعض الضباط وضباط الصف الذين يتلقون تدريبا ليتخرجوا ميكانيكيين أو طيارين مستويات متدنية علميا، بل إن بعضهم يُبتعث للدراسة في الخارج تلميذا تقنيا ضابط صف وهو أدبيّ التخصص، مع أن أهم شرط معلن للالتحاق بالمدرسة الوطنية للطيران الحصول على باكالوريا الشعب الرياضية والعلمية والفنية!.

باب الفساد أيضا مفتوح على مصراعيه في تولي المسؤوليات والترقيات التي تتجاوز الأعراف العسكرية، ولنا أن نضرب مثلا بقائد القطاع العقيد محمد ولد لحريطاني الذي عيّن في منصبه منذ أكتوبر 2010 بعد أن أقصى سادةُ الجيش الجدد ضباطا أقدمَ منه وأكثر استحقاقا إلى قطاعات عسكرية أخرى قبل أن يتقاعدوا مؤخرا، فقد أبعِد العقيد سيدي ولد كنفود دهرا إلى مديرية المركز العسكري في روصو قبل أن يتقاعد، وأبعد العقيد أحمد ولد أمين إلى البحرية ثم تقاعد، ثم جيء بابن عم الرئيس للسيطرة على ثاني أهم قطاع عسكري في عقلية الانقلابيين بعد كتيبة الحرس الرئاسي المسلحة جيدا والمتمردة عمليا على التبعية لقيادة الأركان.

أختم بمقولة قالها لي أحد الضباط في هذه الإدارة، قال لي حرفيا: "كل الحوادث التي سمعت عنها لا يوجد أي تحقيق واحد جدّي فيها، يعني أنهم صم بكم لا يسمعون إلا لغة الصفقات ولا يوجد أي اعتبار للموتى ولا لعائلاتهم".

أنا موقن أنه قال لي الحقيقة، لذلك يخيّل لي أحيانا أن قلوب المسؤولين في قطاع الطيران العسكري المويتاني مقدودة من صخر فارغة من الأحاسيس، نبتُ الضمائر فيها مُصوّح وروح المسؤولية فيها ذابلة.. قد تقولون هذه قسوة وتحامل ومبالغة.. لكنها الحقيقة.

نقلا عن أسبوعية الأخبار إنفو

المناخ

الثقافة والفن

وكالة أنباء الأخبار المستقلة © 2003-2025