تاريخ الإضافة : 25.02.2013 14:21

مبادرة مسعود وجمهورية افلاطون

محمدو ولد البخاري عابدين

محمدو ولد البخاري عابدين

يثق الكثيرون- وأنا منهم- بوطنية الزعيم الرئيس مسعود ولد بلخير، وتأسس الكثير من مواقفه على مبدإ التشبث بمصلحة موريتانيا وانسجام وتماسك ووحدة شعبها، كما يعترفون له بترفعه عن الانتهازية السياسية. وقد ظهر ذلك التشبث والترفع في مناسبات عدة، منها تنازله لجبهة الدفاع عن الديمقراطية عن حصة حزب التحالف في حكومة ما قبل رئاسيات 2009، عندما بدا له أنهم مولعون بالحقائب الوزارية والمناصب أكثر من أي شيء آخر، ومنها أيضا رفضه لشروع زملائة في المعارضة في إجراءات إستيراد الثورات التي اشتعلت وأشعلت بعض البلدان العربية إلى الساحة الموريتانية، وقد لا يكون ذلك الرفض رضى منه عن كل سياسات النظام القائم، لكن إيمانا منه بأنه في حال استجلاب صيغة التغيير على ذلك النمط، لن يتبقى من موريتانيا ما يظفر به أو يتمتع به أحد من امتيازات، سواء كان سلطة أو ثروة أو مكانة.. ذلك أن الثورة ليست خلطة غذائية بمقادير معينة نزيد منها وننقص، إلى أن نحصل على المذاق المطلوب.. بل هي مغامرة حتى وإن نجحت، فإن ذلك النجاح لا يمكن أن يكون إلا بثمن على كل الصعد، الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، نتيجة التحول اللا نمطي، والتكسير الفجائي للحلقات التي كانت ناظمة لسير حياة الدولة والمجتمع.. خاصة إذا تعلق الأمر بتثوير لا يرتكز على تنوير، وحراك تقوده الطموحات الشخصية والنعرات الذاتية لا الأفكار.. وتتفاوت البلدان والمجتمعات في قدرتها على الصمود أمام تلك الهزات الجذرية، حسب طبيعة وخصوصية كل مجتمع، وتوفر الكيان على بنى ومقومات، قادرة على الاستمرار في تلبية حاجات مواطنيه، ريثما تعود الأمور إلى طبيعتها التي لا أحد يضمن أو يعرف متى وكيف ستعود.. فكيف سيكون حال شعب لا يتوفر أصلا على ما يكفيه من الخدمات في الظروف العادية، فعصفت الأحداث بما كان يتوفر عليه منها، لتشعبت معاناته بينما من سيشكو إليهم لاهون عنه في التناحر على ضمان أخذ مواقعهم في الواقع الجديد؟! أعرف أن هناك من ذوي الاستخفاف بمصالح الناس بل وبأرواحهم، من يقول إنه لا بد للتغيير والثورة من ثمن مادي وبشري، خاصة من من يتأثرون برجعيات خارج الحدود..ألم يقل راشد الغنوشي- وهو الزعيم الإسلامي- إن اغتيال شكرى بلعيد لا يخرج عن معتاد الثورات قديما وحديثا، وكأن قتل النفس البشرية الذي يهتز له عرش الرحمان، يصبح مباحا
إذا كان من معتاد الثورات؟!
ونحن متأكدون أن بقية قادة المعارضة مدركون وواعون لطبيعة البلد وخصوصيته،
وعواقب إخضاعه لتجارب الغير التي لم تستقر على شيء بعد، لكن هنا يظهر الفرق
بين طبائع و" فلزات " الرجال، بين المسئولية واللا مسئولية، بين القدرة على التحكم في الأهواء والنزوات، وبين الانسياق وراءها وعبادتها!
فقد اعترف الرئيس مسعود بشرعية رئيس الجمهورية، وقام بما يترتب على ذلك الاعتراف من التزامات، تغيير في الخطاب وتشاور وحوار ولقاءات دورية وحضور في المناسبات الرسمية.. بينما اعترف زملاءه في المنسقية بنتائج الانتخابات، وبالتالي بشرعية الرئيس ولو بعد حين، لكنهم تعاملوا مع ذلك الاعتراف وكأنه لا يترتب عليه أي شيء، فالخطاب والتصرفات والجفاء قبل الاعتراف هي نفسها بعده!
لتدخل إصابة الرئيس على الخط، ويظهر الرئيس مسعود مرة أخرى ترفعه عن الانتهازية، فبينما فقد قادة المنسقية البوصلة وغرقوا في التخبط والارتباك واستثمروا حادثا إنسانيا أليما، كف الرئيس مسعود عن الخوض في الموضوع، وجمد مبادرته إلى حين عودة الرئيس الذي شرعت المنسقية في التخطيط لما بعده، قبل أن يظهر فجأة فتصاب بدوخة لم تتعافى بعد من مضاعفاتها!
لكن الرئيس مسعود- للأسف- " دخلوه لعظام " ووقع في فخ نصبه له زملاءه في المنسقية عندما جذبوه من اليد التي تؤلمه.. وذلك بالمزايدة عليه في المعارضة، متهمين إياه بالإرتماء في أحضان النظام فيمتدحه القادة علنا، ويقدرون "مكانته وتاريخه النضالي" حفاظا على شعرة معاوية معه، لكنهم يوعزون لمناصريهم وكتابهم ووسائل الإعلام التابعة لهم بتخوينه، ووخز أعصابه بإبر الاتهام بتخليه عن خطه النضالي والتقرب للنظام بحثا عن منافع حتى أذعن لهم، وخرج بهذه المبادرة التي سوقوها على أنها اعترافا منه بفشل الحوار الذي انخرط فيه مع النظام، وهو الحوار الذي لم يقل لنا الرئيس مسعود يوما إنه انخرط فيه لغرض آخر غير الحرص على تجنيب البلاد ما لا تتحمله من قلاقل وتوترات، وذلك برسم خارطة طريق من بنود محددة، شارك قادة المعارضة في رسمها وكانت قبل أيام قليلة من بدء الحوار محل إجماع بينه وبينهم، ليتخذوا من اتفاق داكار حجة لمقاطعة الحوار، وهو الاتفاق الذي يأتي على رأس بنوده إجراء انتخابات واعتراف الجميع بنتائجعا، وهم الذين سلموا من صلاة الفجر وطعنوا في تلك النتائج ساعتين بعد إعلانها، ليطالبوا بعد ذلك باحترام اتفاق هم أول من خرقه! وليقرر مسعود وزملاءه الدخول في الحوار ويتوصلوا إلى ما توصلوا إليه خلاله، ويجوبوا البلاد طولا وعرضا لشرح مضامينه وأهميته في إدخال آليات وضمانات جديدة للرقي بالمسار الديمقراطي، وكان البعض وخاصة زعماء المنسقية يقولون إن النظام هو من سينكص ويتملص من نتائج الحوار ويرفض تطبيقها، منتظرين عودة الرئيس مسعود إليهم نادما وقد مزق وثيقة الحوار ومعها الثقة في النظام.. بعد أن ظل هو وزملاءه في المعاهدة يرددون بأنهم لن يترددوا في التراجع عن مسار الحوار، إذا تبين لهم أن النظام غير جاد في تطبيق نتائجه، أما وقد تبين لهم عكس ذلك، وأصبحت كل نتائج الحوار قوانين سارية، فما الداعي إذن لهذه المبادرة، إذا لم يكن محاولة من الرئيس مسعود
الإثبات أنه لا زال معارضا وغير راض عن الكثير من سياسات النظام؟! وما ذا ينتظر ليكتشف أن قادرة المنسقية " يطلبون شبرا وبعد الحصول عليه يطلبون ذراعا.. " ؟! لقد قرأت مبادرة الرئيس مسعود، وكنت كلما تقدمت في قراءتها إذا بها تشخيص لا يختلف عنما عندي وعندك وعند الجميع من " ينبغيات " مما يتمناه كل خيِر ووطني لموريتانيا، لكن الأمنيات والتطلعات و" الينبغيات " التي يمكن لأي منا تأليف المجلدات فيها شيء، والواقع والطبيعة والظروف والممكن والعملي والمتاح أشياء أخرى، وهي السلم الذي صعدت بواسطته كل الأمم إلى ما وصلت إليه اليوم مما لم تصل إليه بين يوم وليلة! صحيح، الشعب الموريتانيى يعاني الفقر والتفاوت والبطالة والجهل.. لكن كم عمر هذه الظواهر، و كم من الوقت يتطلبه التغلب عليها أو التخفيف منها، وعلى ماذا تعمل الحكومة الحالية؟ بالتأكيد سنكون مدينين لحكومة تحل لنا كل مشكلاتنا المزمنة خلال ثلاث سنوات.. لكن أين هي حكومة على وجه الأرض بإمكانها ذلك؟!
مورتانيا لا تعاني أزمة سياسية، بقدرما تعاني تكالب طبقة سياسية تستخدم أثواب الديمقراطية في ستر سوءات الانتهازية والأنانية! وهو بالضبط ما تعانيه اليوم بلدان ماسمي بالربيع العربي، حيث وصلت حكومات إلى السلطة عبر الانتخابات، فانبرى لها تحالف القوى السياسية المهزومة والأخرى المطاح بها بشعار " لا اتخلولهم انفس " ولا تتركوهم يتفرغون لحك رؤوسهم، لا تعطوهم فرصة لإجراء أي إصلاح أو تغيير، اشغلوهم بالإنفلات الأمني والتأزيم، ضعوا لهم العصي في الدواليب وافتحوا عليهم كل الجبهات! ولا تدرك هذه القوي أنها في حال وصولها للحكم بهذا الأسلوب، ستبرز لها القوي التي أخذت مكانها ساعية للثأر، ليدوم هذا الصراع ما دامت داحس والغبراء! هذا هو بالضبط ما نعانيه، فقد وصل رئيس الجمهورية للسلطة عبر انتخابات، وباشر تنفيذ برنامج إصلاح وتغيير وتحديث، استجاب للكثير من تطلعات الشعب الموريتاني ومطالبه التي من كثرتها وتشعبها وتراكمها لا زال منها الكثير، واضعا نصب عينيه مجالات حيوية لا تقبل التأخير
لن نكون مبالغين إذا قلنا أننا بادئين فيها من الصفر ، ولا يمكن لمراقب متجرد من الاعتبارات الأخرى إلا أن يقدر، بل يندهش للشوط الذي قطناه في هذه الجالات في السنوات الأخيرة رغم الظروف المحلية والدولية التي ندركها جميعا، وليس أمام موريتانيا من خيار سوى المضي قدما في صرف كل مقدراتها في إرساء البنى الأساسية للتنمية من طرق ومياه شرب وكهرباء وصحة وتعليم وتدريب، باعتبار هذه البنى هي قاطرة التنمية وركائزها التي سيجني الجميع ثمارها، فضلا عن كونها تمثل المطالب الجوهرية للمواطنين الذين يريد البعض تنصيب نفسه وكيلا عنهم، وتوجيه اهتماماتهم عنوة إلى مطالب وأمور أخرى أولوية بالنسبة له، لكنها بالنسبة لهم
ثانوية..! لا عيب إذن في مبادرة الرئيس مسعود، ولا شك في نية صاحبها، لكنها في جانبها
المتعلق بالتشخيص واقتراح الحلول، تصلح ربما لبقعة من الأرض كانت غفارا، أو جزيرة اكتشفها المستكشفون حديثا، ويريدون تعميرها بخلق جديد على درجة واحدة من الوعي والتعلم والمسئولية والمواطنة والوطنية والفاعيلية، وكلما يتطلبه إنشاء مدينة فاضلة عامرة بالعدالة والخير والسعادة والفن والجمال.. مات افلاطون ومن قبله استاذه سقراط، ولحق بهما كل المؤمنين بهذه المثل والمثاليات من فلا سفة وملوك وقادة وثوار.. ولا زالت هذه المدينة- إلى اليوم- مدينة في الخيال! أما في جانبها المتعلق بالحكومة الموسعة أو التوافقية التي " تبل " بها الرئيس مسعود مبادرته تلبية لذوق المنسقية، فهى ممكنة وبسيطة، لكن ما النتيجة من ورائها؟ ضمان نزاهة الانتخابات؟ أليست آخر رأسيات كانت بإشراف حكومة توافقية، فهل حال ذلك دون الطعن في نتائجها؟! أم أنها بغرض إدارة الشأن العام؟ إذا كان
البعض لا يعترف- أو لا يريد أن يعترف- لرئيس الجمهورية بأي موقف وجيه، فإن موقفه وأغلبيته من هذه الحكومة جد وجيه، فما عجزت عنه حكومة من طيف واحد منسجمة ولديها برنامج تعمل عليه كفريق منذ سنوات، لن تفلح فيه حكومة محاصصة بقيادة نظام كانت- ولا زالت- تحفر من تحته وتزرع في طريقه الأشواك! وفضلا عن ذلك، فإنه من أخطر ما تواجهه التنمية هو غياب الاستقرار الحكومي، فأذكر أنني أحصيت مرة عدد الوزراء الذين تعاقبو على وزارة التنمية الريفية ( ميدان عملي ) طيلة فترة حكم ولد الطايع فوجدتهم يفوقون 20 وزيرا، أي بواقع وزير لكل ثمانية أشهر! ومع ذلك ظل قطاع الزراعة يتدهور مع قدوم كل وزير جديد إلى أن انهار نهائيا، مخلفا تركة جسيمة من الأحباط والديون وهجرة المزارعين لحقولهم، وما يشهده اليوم من تحسن يبرهن عليه الإقبال الكبير على الزراعة وتطور الانتاج، تم على يد وزير واحد ولمدة ثلاث سنوات فقط.. وما عرفه قطاع التنمية الريفية من تعاقب وزراء في تلك الفترة، عرفته أيضا بقية القطاعات الحيوية من صحة وتعليم وصيد ومياه.. لكن أيا منهم لم يستطع النهوض بقطاعه، إذ كيف ينهض به وهو مجرد عابر متجول بين الوزارات إذا تركنا غياب الإرادة جانبا؟! أي حكومة في ظل ظروفنا وإمكاناتنا المادية والبشرية، والتركة الثقيلة التي وجدتها أمامها،
استطاعت إنجاز 50 أو 60% من برنامجها وخططها فهي- في نظري- حكومة فعالة، إذ
ليس من اهتماماتها نقلنا إلى سطح القمر.. ولو كان الحل في تغيير الحكومات لكنا اليوم ماليزيا أو سنغفورة! كما أن خطط التنمية عادة هي خطط خمسية على الأقل، ولا يجوز محاسبة حكومة أو نظام في أقل من تلك الفترة، ولا يمثل نقص هنا أو خطأ وتأخر هناك مبررا للحكم على فشل خطة أو عمل، يتطلب تصوره والتخطيط له ورصد تمويله وتنفيذه عدة سنوات.

الرياضة

الثقافة والفن

وكالة أنباء الأخبار المستقلة © 2003-2025