تاريخ الإضافة : 28.11.2012 17:07
إلى والدي العزيز في ذكرى ميلاده :
لك أبناء يا وطني ومثل كل الأبناء في هذه الدنيا بعضهم برُّ بك ، حدِب عليك ، رءوم رحيم بك ، شفيق رفيق ، حريص على جلب الخير لك دائب على دفع الضر عنك، يبادر إلى البحث عما ينفعك ويأتيه ويواظب على استكشاف الشر المتربص بك فيصرفه عنك، يُمحضك النصح ويُصدقك القول والفعل
ويحمل كَلَّك وكَلَّ أبنائك ويعينهم على نوائب الحق لا يبتغي بذلك إلا رضاك وبرك ورضا من كرمه وشرفه بالإستخلاف في ربوعك الزكية الطاهرة وأقامه حارسا أمينا على أنقابك وثغورك ليعمر سهولك الوادعة المطمئنة ويحفظ وديانك الساحرة المتدفقة ويرعى تلالك وهضابك المنيعة الشاهقة مقيما للعدل والقسطاس فيها وفي نفسه وفي بقية إخوته ما وجد إلى ذلك سبيلا .
أما البعض الآخر من بنيك يا وطني فقد أدمن عقوقك وكُفران نعمك السابغة فإساءته إليك وإلى إخوته وإلى نفسه جارية دائمة وعَنَتُه وجبروته عليك وعليهم وعلى نفسه سائر مستمر، سريع إلى الإضرار بك وبهم بطيء إلى إسداء النفع لك ولهم ، قوي شديد على أبنائك أصدقائك ضعيف ذليل على أعدائك ومن يكيدون لك و يتربصون بك الدوائر ، لا تحجزه مروءة ولا تصده نخوة ولا تلجمه شهامة ، قد نذر نفسه لغير ما عاهد عليه الله وعباده في حقك وفي حقهم .
ومنهم بعض ثالث غير مكترث ولا معني بك ولا بأبنائك و لا بمصالحكم ، ولا حتى بنفسه ، لا يهتم لحاضر ولا يعنيه مستقبل ، لا ينفع حيث يرجى منه النفع ولا يضر حين يخشى منه الضر ، لا هو بِشرّ فيتقى خطره ولا هو بخير فيسعى إلى اكتسابه والتقرب إليه ، لا يهش ولا ينش ، إن حضر فلا يشير ولا يستشار وإن غاب فلا يفتقد ولا ينتظر، وكأنه المعني بقول الشاعر :
ويُقضى الأمر حين تغيب تيمٌ
ولا يستأمرون وهم شهود .
وأنت يا وطني وقد تخطيت اليوم عتبة الثانية والخمسين من عمرك الميمون مد الله فيه وبارك تحتاج إلى وقفة فاحصة ولكنها ايضا حازمة مع بنيك قبل فوات الأوان و قبل أن يتسع الخرق على الراتق ويبلغ السيل الزبا ، إذ لا مناص لك من إيقاظ غافلهم وتنبيهه وتقويم معوجهم وتسديده وتكريم محسنهم وإنزاله منزلته التي يستحق ، فهذا حقهم الذي تُساءل وتُحاسب على التفريط فيه والنصيحة واجبة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم وبنوك ليسوا إلا من أئمة المسلمين أومن عامتهم فتعين عليك لذلك نصحهم وتوجيههم والأخذ بأيديهم .
ولأنك أيضا داخل فيمن تجب نصيحته وتنبيهه وتذكيره فإنه لزام علي أن أسمح لنفسي بالقيام بذلك مذكرا بدايةً جنابكم المصون بقصة الصحابي الجليل بشير بن سعد الأنصار ي رضي الله عنه ، فقد روي أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له : ( أمُّ هذا طلبت مني أن أنحل إبنها نِحلة وأُشهدك عليها ، فقال له الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : " أكُل ولدك أعطيتهم مثله ؟" ، قال : لا، قال : " أتحب أن يكونوا لك في البر سواء ؟ " ، قال : نعم ، قال : " فلا إذاً " ، وفي لفظ آخر قال له : " أله إخوة ؟ " ، قال : نعم ، قال : "أكُلاًّ أعطيت ؟ " ، فقال : لا ، قال : " فاسترجعها "، وفي رواية : " لا تشهدني على جور" ) .
وقد كان بعض السلف يعدل بين أبنائه حتى في القُبَل فكان إذا قبّل أحد صغاره قبّل بقية أبنائه حتى لا يُشعر أحدا منهم بأنه أقل حظوة عنده من أخيه ، فاعدل يا أبتاه بين أبنائك ولا تؤثر بعضهم على بعض فتزرع بذلك العداوة والبغضاء والشحناء بينهم فتتنافر العقول وتتفرق القلوب وتحنق الصدور وتشتد الثارات والإحن فتشتعل
بينهم الفتن والحروب التي لا تبقي ولا تذر ، إنك لا تدري أيهم أقرب لك نفعا وحتى إن علمت فربما تغافلت أو تجاهلت وربما تعمدت - وهذه أدهى وأنكى - أن تتنكر لمحسنهم وتحرمه وتقسو عليه وتحابي غيره وتتقرب إليه وتحسن إليه ، تجزي إحسان الأول إساءة وتجزي إساءة الثاني إحسانا إنه عين الشطط وزيادة .
ألم تسمع وأنت صاحب المنارة والرباط والعلم الغزير والمنهج الرباني السديد قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : "المقسطون يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل وكلتا يديه يمين ، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وُلوا " ، ألا تريد أن تكون من أولئك المقسطين المكرمين والمنعمين ؟ ، بلي إنك تريد وكل أبنائك البررة – وأرجو أن أكون منهم – يرجون ويتمنون لك ذلك وما هو على الله بعزيز .
إن نعمة الأبناء يا وطني نعمة عظيمة لا يُستوفى شكرها إلا بتأدية حقوقهم كاملة غير محرفة ولا منقوصة ولا مغشوشة ولا يتطلب ذلك سوى تنشئة وتأديب
وتهذيب صغيرهم على المُثل والقيم الجليلة التي تربى عليها اسلافه وتقويم اعوجاج كبيرهم وإرشاد منحرفهم وتسديد حائرهم وهداية ضالهم وتعليم جاهلهم وإطعام جائعهم
وكسوة عريانهم .
ألم يحن الوقت بعد يا أبت - وقد حباك الله بما حباك به - من مال وجاه وسلطان وعمر أن تلتفت إلى المعدمين والفقراء من أبنائك في آدوابه و القصور والأرياف وحتى في أحزمة الفقر في ضواحي بل وفي قلب كل مدنك الكبيرة قبل الصغيرة ؟
بلي لقد حان الوقت ، إنه عار وأي عار وقد منّ الله عليك بكل ذلك الثراء أن يكون أغلب أبنائك يسكنهم الفقر والجهل والمرض ويسحقهم التخلف والحرمان
ويستغل غنيهم حاجة فقيرهم فيدوس على كرامته و يزدري سيدهم عامتهم كِبرا وبَطرا ويتعالى متعلمهم على جاهلهم ويستخف سائسهم بمسوسهم ويحتقر بعضهم بعضا بغير وجه حق من دين أو عقل أو منطق .
سارع يا أبت إلى لملمة جراح بنيك وأنزلهم منك منزلة واحدة ، اجعل ضعيفهم القوي عندك حتى يصلب عوده ويشتد ساعده واعطف على فقيرهم حتى يسد خلته ويقضي حاجته ويلحق بإخوته الأكثر حظا ، امسح جراح المكلومين ومن عانوا القهر و الاضطهاد والإستعباد والتهميش حتى تلتئم جراحهم وتأسى كلومهم ويحسوا بعطفك وحنانك و أبوتك ، أعد لكل واحد من بنيك حقه ومَظلمته سواء كانت عندك أو كانت عند أحد أبنائك الآخرين ، انصر مظلومهم وظالمهم على حد سواء بإحقاق الحق للأول وبحجز الثاني عن الظلم .
قد تجد صعوبة في التمييز بين الصالح من أبنائك والطالح منهم ، بين غنيهم وفقيرهم ، بين متعلمهم وجاهلهم ، بين ظالمهم ومظلومهم ، حتى بين من يعتبر نفسه سيدا وبين من يعتبره الآخرون مسودا ، بين البررة وسواهم ، فالكل يعيش في تداخل وتلازم عجيب ففي كل جهاتك الأربع وفي كل فئاتك وفي كل أعراقك ، في كل مدنك
وأريافك وفي كل قبيلة و أسرة وفي كل طيف سياسي أو غير سياسي من أقصى اليمين لأقصى اليسار ومن أمام الأمام إلى وراء الوراء ومن فوق لتحت تجد كل صنف من أبنائك أعزهم الله وأدامهم لك وأدامك لهم بحيث يصعب على غير أهل مكة معرفة شعابها ولكن ذا البصيرة وذا الفطنة مثلك يستطيع أن يمِيز الخبيث من الطيب ويقدر لكل قدره ويحد له حده ويشيع العدل والمساواة فيما أوتي من مال وبنين .
والدي العزيز لعلي أثقلت عليك وبالغت في لومك وذهبت مذهبا بعيدا في عذلك ولكن قد يشفع لي عندك اعترافي لك بشديد حبك وحب كل أبنائك مقسطهم وقاسطهم وما
بين ذلك وذلك وصدقي معك ومعهم وحرصي على أن لا تمر هذه المناسبة السعيدة دون أن نتقدم خطوة إلى الأمام في مسيرتنا الطويلة المظفرة بحول الله وتوفيقه نحو تحقيق الحرية والكرامة والمساواة والنماء لكل أبنائك اليوم وغدا ، فلا تؤاخذني فيما أسرف فيه قلمي ولا تعتب علي فيما تجاوزت فيه حدي .
إبنك
المخلص : عبد الرحمن بن الرباني
الدوحه
بتاريخ : 28 نوفمبر 2012







