تاريخ الإضافة : 07.09.2012 15:11
مضى شيخنا الصديق.. وهذا الأثر
مضى (شيخنا الصديق) لم يبق مشـرق ولا مغرب إلا لـه فيه مـــــــادح
وما كنت أدري ما فواضل كــــــــــفه على الناس حتى غيبتـه الصفائح
وأصبح في لحد من الأرض ضــــــيق وكانت به حيا تضيق الصحاصح
سأبكيك ما فاضت دموعي فإن تغـــض فحسبك مني ما تجن الجــــوانح
فما أنا من رزء وإن جل جـــــــــازع ولا بسرور بعد موتك فــــــارح
كأن لم يمت حي سواك ولم تـــــــــقم علـى أحد إلا عليك النوائــــــــح
لئن حسنت فيك المراثي وذكرهــــــا لـقد حسنت من قبل فيك المدائح
كانت دموعي تسابق كلماتي حينما نعي إلي شيخي وأستاذي العلامة المتفنن الموسوعي الزاهد الشيخ محمد عبدالله بن الصديق الجكني فاستعرضت على عجل أمهات المراثي في شعرنا العربي فلم أجد أبلغ من هذه القصيدة كديباجة لمقالي هذا عنه عسى أن أوفيه بعض حقه علي.
فقد كان الشيخ الفقيد مربيا لي منذ أن بدأت أشب عن الطوق وساهم بتوجيهاته القيمة مع رفيق دربه والدي العلامة الشيخ الشيباني-رحمه الله- في تكوين شخصيتي وتوجيهي لدراسة العلم الشرعي ، فقد قدما معا ضمن أول بعثة قضائية موريتانية إلى الإمارات في أواخر السبعينات حيث أسسا قسم الإفتاء بدائرة القضاء الشرعي بأبي ظبي ، وكانا متجاورين في مكان الإقامة قرابة ربع قرن من الزمان وبينهما محبة وأخوة في الله ، ولذا فقلما يذكر أحدهما في الإمارات إلا ويذكر الآخرمعه،والعجيب أن بينهما في العمرست سنوات وهو الفرق الزمني ذاته بين وفاتهما رحمهما الله.
وبعد إكمالي للدراسة الجامعية بدأت أثني الركب بين يدي شيخي محمد عبدالله بن الصديق وأغترف من علمه الغزير، فدرست عليه باكورة المذهب المالكي "الرسالة"، وثنيت بطلعة الأنوار في مصطلح الحديث، وجزء لا بأس به من ألفية ابن مالك مع شرح ابن عقيل، ومازالت تعليقات الشيخ على الشرح عندي حتى اليوم . والشيخ كان صاحب مكتبة عامرة بالكتب المطبوعة التي أخذت حيزا كبيرا من بيته ، ولا أذكر أني نظرت في كتاب منها إلا ووجدت عليه تعليقا أو تصحيحا له، وفيها بعض المخطوطات ، وعندي نسخة بخطه من نظم السلم للأخضري بحاشية عبد السلام .
وهكذا فإن بيت الشيخ بأبوظبي كان محظرة موسوعية بحق وجامعة متعددة التخصصات ففيها تدرس كافة العلوم الشرعية بتوسع وتفنن: ففيها القرآن بكافة علومه من رسم وضبط وتفسير وقراءات ، والحديث وعلومه ، واللغة بكافة فنونها من نحو وصرف وبلاغة وبيان وبديع ، والفقه وأصوله وقوعده ومذاهبه المختلفة ،والمنطق وشروحه ..فقد كان بحق موسوعة علوم ومعارف بشهادة أعيان الجالية هناك ، فقل أن تجد أحدا منهم إلا وهو يترددعلى بيت الشيخ إما طالب علم أو مستفتيا أو مستفيدا، وقد تفرغ الشيخ لهذه المحظرة ومنحها جل وقته رغم مشاغله الكثيرة ، حيث كان برنامجه اليومي منذ عرفته أن يذهب إلى العمل صباحا ثم يأخذ قيلولة حتى العصرحيث يجلس مرابطا في بيته إلى الساعة العاشرة مساء يطالع كتابا أو يكتب بحثا أو يدرس فنا .
والشيخ رغم تبحره في كافة العلوم الشرعية واللغوية وتمكنه من أزمتها إلا أنه لم يكن من المتعصبين للمذهب المالكي، وإنما كان يخالف مشهور المذهب في بعض الأحيان إذا ورد الدليل بخلافه ، فهو يدور مع الدليل حيث دار ، ولكن مع مراعاة أدب الخلاف ، ولا أدل على ذلك من القصيدة الرائعة التي يرد فيها على عصريه العلامة مختاري بن محيمدات الداودي في رسالته في تأييد السدل ، والتي يظهر فيها تواضعه الجم مع والده ومشايخه وكيف التمس لهم العذر رغم مخالفته لهم ، حيث قال رحمه الله في أسلوب لطيف متجرد ومنصف:
الحزم أن يقبض الحبرالخبير يده إذا بدا الخلف بين القـادة النـقـدة
وأن يقــدم ما الشيـخان قـد رويـا والأصبحي إمـام السنـة اعـتمـــده
ويـتـرك البســط إلا أن تصـح لـه ببسطـها سنـة في النـقـل معـتمــــده
هذا وقد كنـت أهوى أن أسيرعلى ماالخزرجي ارتضاه وفق ما اعتقده
واخـتاره الشيـخ مختاري ومد له كلـتـا يـديـه وقـواه بمـا وجـــــــــــده
وخالنا الخضـر المشهور أبرمـه بكـفـه لا أشــل الله جــل يــــــــــــده
والخال خالي حبيب الله أيــــــده فتلك شنشنة الأخوال مطـــــــــــردة
وهكذا نهج أشياخي ونهج أبـــي إذ كنت أعهده منه كما عــــــــــــهده
ولست متهما أن ملت عنه إلـــى ما صح عمن حماه ربه رشــــــــــده
ولا أريد سوى وجه الإله بمـــا خالفت فيه الشيوخ الجلة العــــــبدة
وكلنا عابــد لله مبتــــــــــــــهل والله يعلم من بالصدق قد عـــــــبده
يا الله! إنها أبيات تفوح منها رائحة الإخلاص ، وهكذا هو الشيخ الصديق لايفتأ يسأل ربه أن يمن عليه بالإخلاص وصلاح النية ، وأحسب أنه كان من المخلصين ، وقد أملى علي قصيدة جميلة تتعلق بحديث عمر في النية وفوائده الإسنادية تدل على مشاركته في علم المصطلح وختمها بسؤال ربه صلاح النية ، يقول في أواخر أبياتها مصححا خطأ كنت أتبناه فترة من الزمن وهو أنني كنت أظن أن هذا الحديث ليس في الموطإ :
وفي الموطإ رواه ابن الحسـن عن مالك فيما روى من السنن
وصاحب الفتح ادعى خــــلوه منه ولكن للحســـــام نبـــــــوة
وقال ذاك قبله العراقـــــي وهو في علم الحديث راقـــــي
فاعجب لذا وانظر دليل السالك لخالنا على موطــــا مـــــــالك
فنسأل الله صلاح النيــــــــــــة والفوز في الدارين بالأمنيــــة
وأختم مقالي هذا ببيان أن الشيخ كان مدرسة في الورع والزهد ، ومن المواقف الدالة على ذلك أنه كان لايحب التصوير إلا ما كان منه لمصلحة ظاهرة ، ولا يسمح لأحد بتصويره حتى ولو كان في مقابلة صحفية. ورغم أن الشيخ قد تبوأ أرفع المناصب من إدارة الإفتاء بدائرة القضاء، ورئاسة لجنة الإختبارات بالأوقاف، وعضوية العديد من اللجان، وغيرها من المناصب الرفيعة، إلا أنه ظل وفياً لرسالته في نشر العلم وبثه دون أن يتطلع إلى منفعة دنيوية مقابل ذلك ، رغم أن بعض تلامذته كانوا من أصحاب الجاه والنفوذ ، وخرج من الإمارات مرفوع الرأس عالي الهامة الكل يتمنى بقاءه هناك، غير أنه فضل أن يرجع إلى وطنه ويقضي ما بقي من عمره بين أقاربه وإخوانه وتلاميذه الأوائل.
اللهم يا أرحم الراحمين أنزل شآبيب رحمتك وغفرانك على عبدك ومحبك شيخي محمد عبدالله بن الصديق ، اللهم لاتحرمنا أجره ولا تفتنا بعده .
وما كنت أدري ما فواضل كــــــــــفه على الناس حتى غيبتـه الصفائح
وأصبح في لحد من الأرض ضــــــيق وكانت به حيا تضيق الصحاصح
سأبكيك ما فاضت دموعي فإن تغـــض فحسبك مني ما تجن الجــــوانح
فما أنا من رزء وإن جل جـــــــــازع ولا بسرور بعد موتك فــــــارح
كأن لم يمت حي سواك ولم تـــــــــقم علـى أحد إلا عليك النوائــــــــح
لئن حسنت فيك المراثي وذكرهــــــا لـقد حسنت من قبل فيك المدائح
كانت دموعي تسابق كلماتي حينما نعي إلي شيخي وأستاذي العلامة المتفنن الموسوعي الزاهد الشيخ محمد عبدالله بن الصديق الجكني فاستعرضت على عجل أمهات المراثي في شعرنا العربي فلم أجد أبلغ من هذه القصيدة كديباجة لمقالي هذا عنه عسى أن أوفيه بعض حقه علي.
فقد كان الشيخ الفقيد مربيا لي منذ أن بدأت أشب عن الطوق وساهم بتوجيهاته القيمة مع رفيق دربه والدي العلامة الشيخ الشيباني-رحمه الله- في تكوين شخصيتي وتوجيهي لدراسة العلم الشرعي ، فقد قدما معا ضمن أول بعثة قضائية موريتانية إلى الإمارات في أواخر السبعينات حيث أسسا قسم الإفتاء بدائرة القضاء الشرعي بأبي ظبي ، وكانا متجاورين في مكان الإقامة قرابة ربع قرن من الزمان وبينهما محبة وأخوة في الله ، ولذا فقلما يذكر أحدهما في الإمارات إلا ويذكر الآخرمعه،والعجيب أن بينهما في العمرست سنوات وهو الفرق الزمني ذاته بين وفاتهما رحمهما الله.
وبعد إكمالي للدراسة الجامعية بدأت أثني الركب بين يدي شيخي محمد عبدالله بن الصديق وأغترف من علمه الغزير، فدرست عليه باكورة المذهب المالكي "الرسالة"، وثنيت بطلعة الأنوار في مصطلح الحديث، وجزء لا بأس به من ألفية ابن مالك مع شرح ابن عقيل، ومازالت تعليقات الشيخ على الشرح عندي حتى اليوم . والشيخ كان صاحب مكتبة عامرة بالكتب المطبوعة التي أخذت حيزا كبيرا من بيته ، ولا أذكر أني نظرت في كتاب منها إلا ووجدت عليه تعليقا أو تصحيحا له، وفيها بعض المخطوطات ، وعندي نسخة بخطه من نظم السلم للأخضري بحاشية عبد السلام .
وهكذا فإن بيت الشيخ بأبوظبي كان محظرة موسوعية بحق وجامعة متعددة التخصصات ففيها تدرس كافة العلوم الشرعية بتوسع وتفنن: ففيها القرآن بكافة علومه من رسم وضبط وتفسير وقراءات ، والحديث وعلومه ، واللغة بكافة فنونها من نحو وصرف وبلاغة وبيان وبديع ، والفقه وأصوله وقوعده ومذاهبه المختلفة ،والمنطق وشروحه ..فقد كان بحق موسوعة علوم ومعارف بشهادة أعيان الجالية هناك ، فقل أن تجد أحدا منهم إلا وهو يترددعلى بيت الشيخ إما طالب علم أو مستفتيا أو مستفيدا، وقد تفرغ الشيخ لهذه المحظرة ومنحها جل وقته رغم مشاغله الكثيرة ، حيث كان برنامجه اليومي منذ عرفته أن يذهب إلى العمل صباحا ثم يأخذ قيلولة حتى العصرحيث يجلس مرابطا في بيته إلى الساعة العاشرة مساء يطالع كتابا أو يكتب بحثا أو يدرس فنا .
والشيخ رغم تبحره في كافة العلوم الشرعية واللغوية وتمكنه من أزمتها إلا أنه لم يكن من المتعصبين للمذهب المالكي، وإنما كان يخالف مشهور المذهب في بعض الأحيان إذا ورد الدليل بخلافه ، فهو يدور مع الدليل حيث دار ، ولكن مع مراعاة أدب الخلاف ، ولا أدل على ذلك من القصيدة الرائعة التي يرد فيها على عصريه العلامة مختاري بن محيمدات الداودي في رسالته في تأييد السدل ، والتي يظهر فيها تواضعه الجم مع والده ومشايخه وكيف التمس لهم العذر رغم مخالفته لهم ، حيث قال رحمه الله في أسلوب لطيف متجرد ومنصف:
الحزم أن يقبض الحبرالخبير يده إذا بدا الخلف بين القـادة النـقـدة
وأن يقــدم ما الشيـخان قـد رويـا والأصبحي إمـام السنـة اعـتمـــده
ويـتـرك البســط إلا أن تصـح لـه ببسطـها سنـة في النـقـل معـتمــــده
هذا وقد كنـت أهوى أن أسيرعلى ماالخزرجي ارتضاه وفق ما اعتقده
واخـتاره الشيـخ مختاري ومد له كلـتـا يـديـه وقـواه بمـا وجـــــــــــده
وخالنا الخضـر المشهور أبرمـه بكـفـه لا أشــل الله جــل يــــــــــــده
والخال خالي حبيب الله أيــــــده فتلك شنشنة الأخوال مطـــــــــــردة
وهكذا نهج أشياخي ونهج أبـــي إذ كنت أعهده منه كما عــــــــــــهده
ولست متهما أن ملت عنه إلـــى ما صح عمن حماه ربه رشــــــــــده
ولا أريد سوى وجه الإله بمـــا خالفت فيه الشيوخ الجلة العــــــبدة
وكلنا عابــد لله مبتــــــــــــــهل والله يعلم من بالصدق قد عـــــــبده
يا الله! إنها أبيات تفوح منها رائحة الإخلاص ، وهكذا هو الشيخ الصديق لايفتأ يسأل ربه أن يمن عليه بالإخلاص وصلاح النية ، وأحسب أنه كان من المخلصين ، وقد أملى علي قصيدة جميلة تتعلق بحديث عمر في النية وفوائده الإسنادية تدل على مشاركته في علم المصطلح وختمها بسؤال ربه صلاح النية ، يقول في أواخر أبياتها مصححا خطأ كنت أتبناه فترة من الزمن وهو أنني كنت أظن أن هذا الحديث ليس في الموطإ :
وفي الموطإ رواه ابن الحسـن عن مالك فيما روى من السنن
وصاحب الفتح ادعى خــــلوه منه ولكن للحســـــام نبـــــــوة
وقال ذاك قبله العراقـــــي وهو في علم الحديث راقـــــي
فاعجب لذا وانظر دليل السالك لخالنا على موطــــا مـــــــالك
فنسأل الله صلاح النيــــــــــــة والفوز في الدارين بالأمنيــــة
وأختم مقالي هذا ببيان أن الشيخ كان مدرسة في الورع والزهد ، ومن المواقف الدالة على ذلك أنه كان لايحب التصوير إلا ما كان منه لمصلحة ظاهرة ، ولا يسمح لأحد بتصويره حتى ولو كان في مقابلة صحفية. ورغم أن الشيخ قد تبوأ أرفع المناصب من إدارة الإفتاء بدائرة القضاء، ورئاسة لجنة الإختبارات بالأوقاف، وعضوية العديد من اللجان، وغيرها من المناصب الرفيعة، إلا أنه ظل وفياً لرسالته في نشر العلم وبثه دون أن يتطلع إلى منفعة دنيوية مقابل ذلك ، رغم أن بعض تلامذته كانوا من أصحاب الجاه والنفوذ ، وخرج من الإمارات مرفوع الرأس عالي الهامة الكل يتمنى بقاءه هناك، غير أنه فضل أن يرجع إلى وطنه ويقضي ما بقي من عمره بين أقاربه وإخوانه وتلاميذه الأوائل.
اللهم يا أرحم الراحمين أنزل شآبيب رحمتك وغفرانك على عبدك ومحبك شيخي محمد عبدالله بن الصديق ، اللهم لاتحرمنا أجره ولا تفتنا بعده .







