تاريخ الإضافة : 31.05.2012 15:35
المجلس الأعلي للفتوي والمظالم –الجديد- (قراءة قانونية تاريخية)
صدر منذ أيام مرسوم يقضي بإنشاء هيئة علمية للفتوى واستقبال المظالم "للمساهمة في تسوية النزاعات التي قد تحدث بين الهيئات العمومية أوالخصوصية في نطاق العلاقات بين هذه الهيئات أو بينها مع المواطنين ويأتي هذا الإجراء طبقا لديباجة الدستور وبمقتضى أحكام المادتين 5 و23.
وقد تم بالفعل تشكيل الهيئة المذكورة وتعيين أعضائها , ومن شأن عمل هذه الهيئة أن يكون عاملا ورافدا مساعدا في إثراء الحقل القانوني والقضائي الوطني من خلال المساهمة في دعم القضاء الإداري متمثلا في الغرفة الإدارية لدي المحكمة العليا وخصوصا في دعاوي الإلغاء.
إن قضاء المظالم يحتاج إلي كثير من التحديد للوصول إلي مفهوم واضح ومحدد له حتي تتضح الرؤية والحدود التي يمكن له أن يلعبها داخل الجسم القضائي.
وقد تعددت آراء الفقه بصدد تحديد طبيعة ولاية المظالم(قضاء المظالم) ،فالبعض صنفها كوظيفة قضائية ،وهناك من أعتبرها وظيفة غير قضائية ،وآخرون علي أنها قضاء إداري محض، والبعض عرفها كقضاء من نوع خاص.
إلا أن غالبية آراء الفقه, تؤيد كونها نوعا من القضاء الإداري الذي عرفته الدولة الإسلامية في فترة مبكرة،قبل الأنظمة القضائية الأوربية. ولتحديد مفهوم نظام (قضاء المظالم )لابد من تعريف هذا النظام ،ونشأته واختصاصاته.
تعريف نظام قضاء المظالم :
قضاء المظالم هو هيئة ،أو سلطة قضائية – تنفيذية – إدارية مركبة ،ومختصة بعملية النظر ،والفصل في تظلمات الناس من جور وتعسف واعتداءات الولاة ،والجباة ,والحكام ,والوزراء ,وأبناء الخليفة ,ورجال الجند,فلقضاء المظالم هذا وظيفة مركبة وممزوجة من سطوة السلطنة والحاكمية ,ونصف وعدالة القضاء , وقد عرف الماوردي قضاء المظالم بأنه ( ونظر المظالم هو قود المتظالمين إلى التناصف بالرهبة ,وزجر المتنازعين عن التجاحد بالهيبة ,فكان من شروط الناظر فيها أن يكون جليل القدر,نافذ الأمر ,عظيم الهيئة ,ظاهر العفة ,قليل الطمع ,كثير الورع, لأنه يحتاج في نظره إلى سطوة الحماة ,وثبت القضاة, فيحتاج إلى الجمع بين صفات الفريقين ,وأن يكون بجلا لة القدر نافذ الأمر في الجهتين ) الأحكام السلطا نية- للماوردي / 148
كما عرفه الشيخ محمد أبو زهرة بأنه (ولاية المظالم كولاية القضاء ,وكولاية الحرب ,وكولاية الحسبة ,جزء مما يتولاه ولى الأمر الأعظم ,ويقيم فيه نا ئبا عنه ,من يكون فيه الكفاية والهمة ,ويسمى المتولي لأمرا لمظالم ناظرا ,ولا يسمى قا ضيا ,وإن كان له مثل سلطان القضاء ومثل إجراءاته في كثير من الأحوال ,ولكن عمله ليس قضا ئيا خا لصا ,بل هو قضائي و تنفيذي ,فقد يعالج الأمور المتعلقة با لتنفيذ ,أو با لصلح ,أو با لعمل الخيري ويرد لصاحب الحق حقه ,فهو قضاء. أحيانا ,وتنفيذي إداري أحيا نا أخرى) د / سليمان الطماوى – السلطا ت الثلاث في الدسا تير العربية والفكر الإسلامي/427
ونلاحظ أن التعريفات السابقة تعطي لولاية المظالم قدرا أجل من ولاية القضاء لكونها تجمع بين القضاء ،والتنفيذ،والمسائل المتعلقة با لصلح.
نشأة وتطور نظام قضاء المظالم:
لقد نشأ نظام قضاء المظا لم في الشريعة الإسلامية تدريجيا ,فقد كان في صدر ظهور الدعوة والدولة الإسلامية مختلطا بنظام القضاء حيث لم تكن هناك دواعي لوجوده ,إذكان يسيطر على المسلمين الوازع الديني القوى ,حيث كانت الخلافات التي تقوم بينهم في أمور غامضة مشتبهة يوضحها القضاة ,ويقتنع ويرضى بها المسلمون طوعا واختيارا.
وتطبيقا للمبدأ القانوني والقضائي العام في الشريعة الإسلامية والقاضي بأن الظلم يرفع ولوكان من الوالي بل ولو كان من الخليفة الأعظم الذي اختير اختيارا شرعيا,فقد تصدى النبي (صلى الله عليه وسلم )للمظالم ,فنظر النبي (صلى الله عليه وسلم )في الشرب الذي تنازعه الزبير بن العوام ،ورجل من الأنصار,وقد سلك الخلفاء الراشدون مسلك النبي (صلى الله عليه وسلم )في نظر المظالم لاسيما تلك التي تقع من الولاة,فهكذا تصدى عمر بن الخطاب لولاية المظالم (ما أرسلتكم لتضربوا أبشار الناس ,والله لا أوتى بعامل ضرب أبشار الناس في غير حد إلا اقتصصت منه) الماوردي /146
وقد طبق ذلك على عمرو بن العاص وابنه الذي ضرب أحد المصريين في القصة التا ريخية المتواترة, كما جلس الإمام على بن أبى طالب لنظر المظالم ,ومع بزوغ العهد الأموي تجذرت العوامل المادية ،وضعف الوازع الديني حيث ((تجاهر الناس بالظلم والتغالب ,ولم تكفهم زواجر العظة عن التمانع والتجاذب ,فا حتاجوا في ردع المتغلبين ,وإنصاف المغلوبين ,إلى نظر المظالم الذي يمتزج به قوة السلطنة بنصف القضاء) الماوردي /149 مما حدا بالخليفة عبد الملك بن مروان إلى تخصيص يوم للنظر في ظلامات الناس،من غير مباشرة للحكم ((فكان إذا وقف فيها على مشكل ،أواحتاج فيها إلى حكم منفذ رده إلى قاضيه أبى إدريس لأودي ) الماوردي /150 ومع ازدياد سلطة الولاة وجورهم كان الخليفة عمرين عبدا لعزيز أول من باشر بنفسه النظر في المظالم ((ثم زاد من جور الولاة ،وظلم العتاة ،مالم يكفهم عنه إلا أقوى الأيدي ،وأنفذ الأوامر ،فكان عمر بن عبدا لعزيز –رحمه الله-أول من ندب نفسه للنظر في المظالم ،فردها ،وراعى السنن العادلة وأعادها ،ورد مظالم بني أمية على أهلها)الماوردي /150 وكذلك جلس خلفا ء العهد العباسي لنظر المظالم ,مثل الهادي ,والمهدي,والرشيد ,المأمون , والمهتدى .
وقد كتب أبو يوسف إلى الخليفة ها رون الرشيد في رسا لة الخراج ,يحثه فيها إلى حتمية وفضائل جلو سه وتصديه شخصيا لولاية (نظر المظالم)قا ئلا له (فلو تقربت إلى الله عزوجل يا أمير المؤمنين بالجلوس لمظالم رعيتك في الشهر أوالشهرين مجلسا واحدا تسمع فيه من المظلوم ،وتنكر على الظالم رجوت أن لاتكون ممن أحتجب عن حوائج رعيته ،ولعلك لاتجلس إلا مجلسا أومجلسين حتى يسير ذلك في الأمصار والمدن ،فيخاف الظالم وقوفك على ظلمه فلا يجترئ على الظلم ،ويأمل الضعيف المقهور جلوسك ونظرك في أمره فيقوى قلبه ويكثر دعاؤه) القاضي أبو يوسف – رسالة الخراج/ 111 -112.
هذا عن نشأة ,وظهور نظام (قضاء المظالم )كنظام مستقل وقائم بذاته ,يناط به النظر ,والفصل في المنازعات الإدارية,فماذا عن اختصاصات هذا النظام ؟
اختصا صات قضاء المظالم:
حصر الماوردى في كتاب الأحكام م السلطا نية (اختصاصات ) ولاية المظالم في 10 اختصاصات(الماوردي _ 152) بعضها يثيرها ويضطلع بها ديوان المظالم من تلقاء نفسه , وبعضها لا يتم النظر فيها إلا إذا تظلم أو ادعى صاحب الصفة والمصلحة , والاختصا صات العشرة هي:
1 – النظر في تعدى الولاة على الرعية , وأخذهم با لعسف في ا لسيرة , فعلى ناظر المظالم أن يتعدى لتصفح أحوال الولاة من تلقاء نفسه ,بدون حا جة إلى تظلما ت النا س , وذلك (ليقويهم إن ا نصفوا , ويكفهم إن عسفوا , ويستبدل بهم أن لم ينصفوا)
2- النظر والفصل في جور وظلم العمال فيما يجبونه من أموال , وينظر فيما استزادوه ,فإن رفعوه إلى بيت المال أمر برده , وإن أخذوه لأنفسهم استرجعه لأصحابه .
3- النظر والفصل في تعدى كتاب الدواوين ,فيتصفح أحوال ما وكل إليهم , ويحاسبهم على كل تزوير وتغيير.
4- النظر والفصل في تظلمات المسترزقة من جند ,وموظفين ,من حيث نقص أرزاقهم اوتاخرها عنهم ,أو إجحاف بهم .
5- رد الغصوب وهى ضربان ,غصوب سلطانية قد تغلب عليها ولاة الجور,فإن علم بها ناظر المظالم من خلا ل تصفح الأمور ومراقبتها أمر بردها دون التظلم إليه, وإن لم يعلم بها فإنه يأمر بردها بعد تظلم أصحابها .
أما النوع الثاني :من الغصوب ,فهي غصوب الأقوياء , وتصرفوا فيها تصرف الملا ك غلبة وقهرا ,فعلى والى المظالم أن ينتزعها من هؤلاء , ويردها إلى أصحابها بأحد أربعة أمور(أ) باعتراف الغاصب وإقراره (ب) بعلم والى المظالم (ج) بينة تشهد على الغاصب بغصبه ،أو تشهد للمغصوب منه بملكه (د)تظاهر الأخبار الذي ينفى عنها التواطؤ.
6- الإشراف على الأوقاف .
7- تنفيذ ما يعجز القضاة عن تنفيذه .
8- النظر فيما عجز عنه النا ظرون من الحسبة في المصالح العا مة .
9- مراعاة العبادات الظاهرة ,كا لجمع , والأعياد , والحج ،من تقصير فيها ،وإخلال بشروطها،فإن حقوق الله أولى أن تستوفى ،وفرضه أحق أن يؤدى.
10- النظر والفصل بين المتشا جرين , والحكم بين المتنا زعين .
ويتضح جليا من خلال تناولنا لتعريف هذا النظام ,ونشأته ,واختصاصاته , مدى التشا به بينه وبين نظام القضاء الإداري المعاصر, بل إنه قد يمثل الأصل التاريخي لنظام القضاء الإداري.
إن عقد مقارنة بسيطة بين نظام( ولاية المظا لم ) في الإسلام ,وبين بعض التجارب الأوربية التي ظهرت في القرنين السابع عشر والثامن عشر ,(كمجلس الإمبراطور أو مجلس الأمير) تكشف بوضوح مدى تقدم هذا النظام (ولاية المظالم)على غيره من حيث الآ ليات, والاختصاصات والتكوين والحصانات،بحيث أكتسب ابتداء الطبيعة القضائية المتخصصة في المنازعات الإدارية , مستقلا عن جهات القضاء العادي ,وسلطات الإدارة العاِمة العاملة.
إن فاعلية الهيئة الجديدة في إثراء وضخ دماء جديدة في مفاصل الهيكل القضائي يعتمد علي مدي السلطة الممنوحة لهذه الهيئة سواء تعلق الأمر بالفتوي الاستشارية الممنوحة لها أو بالجانب القضائي من سلطتها بشكل يتكامل مع باقي هياكل التنظيم القضائي بموريتانيا.
ما أحوجنا اليوم إلي الغوص بحثا عن الدرر ,التي يزخر بها بحر شريعتنا الغراء ,للخروج بحلول للمشاكل المتجددة تجدد الزمان,فالشريعة قادرة علي رفع التحدي,فالبون شا سع بين تشريع مرده طيني,وبين شرع مصدره سماوي, وجد ليلائم احتياجات الناس علي مر الزمان واختلاف الأجناس والبلدان.







