تاريخ الإضافة : 12.12.2011 11:36
آفاق التغيير في بلاد شنقيط
لم تكن الثورة المصرية كثورة الياسمين بتونس، ولن تكون الليبية كسابقتيها، و لا يمكن أن تكون الثورتان اليمنية و السورية كاللواتي سبقنهما و لا كتلك اللاحقة
كتب أحدهم ساخراً أن الخطاب الذي سيلقيه القائد العربي الأخير الذي تصله الهزات الإرتدادية للثورة، سيكون خطاباً طويلاً؛ إذ لابد له فيه من البدء بالأرجوزة المضحكة، و القائلة أن بلده "ما هوش كما كتونس"، و ما هو "زَيْ" مصر، و "مش كيف" ليبيا، و بعيد كل البعد عن اليمن، و يختلف عن سوريا، و لا يشبه العراق، و لا يتشابه مع الأردن، و أكبر من البحرين...و...و...و"، حتى يصل إلى القطر العربي الثّائر الأخير الذي يليه، فيصبح خطابه أقرب للفكاهة منه إلى شيء آخر. ولكن ذلك الزعيم العربي سيكون محقًا في نفس الوقت، لأنه ستكون لكل شعب بصمته الثورية، فريدة في شكلها، ولكن المضمون واحد و البُغية هي نفسها: الإنعتاق من العبودية و استنشاق عبق الحرية.
قالت وزيرة الخارجية الآمركية كلينتون في تصريح لها إبان الثورة المصرية أن "الذي يظن [من القادة العرب] أن هذه الثورات العربية لن تطرق بابه فهو واهم"، مُستبقةً بذلك الأحداث بما يُدخل الحَزَن إلى قلوب أوليائها من حكّام العرب. ولكن الخارجية الآمريكية لم تعد تراهن على بقاء أولئك الحكام بعد سقوط أكثرهم ولاءاً و أرسخهم حكماً بمصر، بل إنها لم تعد تريد المجازفة بعلاقتها المستقبلية مع الشعوب العربية بعد استيعاب الدرس المصري. مثلها في ذلك ما صرّح به الرئيس الفرنسي ساركوزي بعد إخفاقه بداية في فهم الرسالة التونسية. ولكن الأشجع من ذلك و الأكثر صراحة ما تلفظ به أمير دولة قطر حين قال أن "التغيير قادم و علينا الترحيب به" في نُقلة نوعية من حاكم عربي، معبّراً عن عجز أيّ كان عن كبح هذا السيل الثوري الجارف.
عندها أخذت بقية العروش ترتعش في انتظار أدوارها. فمن مُغدق بالوعود على شعبه من زيادة في الأجور و حتى معاشات التقاعد و زائد لحقوق المرأة و الشجرة و الحمار، إلى مُناد بالحوار اللاّ مشروط الذي "يمكن أن يُناقش فيه كل شيء"، مروراً بالتغييرات الدستورية الإستباقية أو الوقائية، علّها تقي صاحبها داء الثورة الماحق، الذي إن أتى فلا ينفع مال و لا بنون إلّا من أتا الله بحكم سليم.
أعتقد، إذن، أنه يجب التّحلّي بالشجاعة الكافية حتى نعترف و نقبل بأنّ نوعاً من النّضج قد وصل إليه الشّارع و الشعب العربيان، ألا و هو ضرورة التغيير...و أي تغيير؟ إنه التغيير المنشود الذي "هرمت" الشعوب في طلبه "زنقة زنقة"، فلم تجد بُدًّا من التعبير عنه إلا بالجملة الصريحة :"الشعب، يُريد إسقاط النظام". وليس بطريق الإنقلابات المشؤومة، التي كانت هي السبيل الوحيد للتغيير الذي عوّدنا عليه العسكريون بكل مرارة و بؤس، لأنه في نفس الوقت كان من أحسن السُّبل المؤدية إلى زرع و تشييد تلك الديكتاتوريات البغيضة.
أما نحن، أهل موريتانيا ... سكان بلاد شنقيط القصية، فإننا نعاني منذ عقود من تسلُّط كارثتين اثنتين، تقفان في وجه كل إصلاح و تقطعان سبيل كل تنمية ... اختصاصهما : وأد الأحلام و تسفيه العزائم و تثبيط الهمم ... ألا و هما الحُكم و الفكر و التدبير و التنظير العسكري من جهة، و عقلية الإنبطاح السياسي و ثقافة الذُّل المَخزَني من جهة أخري. تتداعى هاتان الظاهرتان لمحق كل مستقبل مُشرق في موريتانيا، إذ تغذي الأولى الثانية بما تسرقه من قوت البلد لتثبيت عرشها، و تمد الثانية الأولى بما تتوارثه، أباً عن جدّ، من بَديعيّات التزلف و مُحسّنات التّملق. وهكذا يرزح العباد و البلاد تحت ثقل هذه الحلقة التعيسة و المُفرغة، بل الفارغة اصلاً، من الإنحطاط المادي و المعنوي، التي يندر تأتّيها، بل ينعدم، في شعب أو في بلد إلاّ في بلدنا هذا المسكين و في بلادنا تلك ذات الوجه الشاحب، التي "هزلت حتى استامها، بل ركبها، المفلسون".
إنّ الذي يأمن بطش الثورة في بلد يدخل القرن الواحد و العشرين بمُدُن لا يوجد بها من الصرف الصحي إلاّ ما صُرف من الأموال لأكل ميزانيات الصحة البالية، و ليس بها من خدمة البريد إلاّ بريد الوشاية و النميمة و التملّق السريع، و ليس عنده من جهاز الحماية المدنية المتحضّر إلاّ جهاز التسلط العسكري المتخلّف، فهو ليعيش حالة من الغباء السياسي النادر.
إن "دولة" تفتقد لأهم مُقومات الدولة العصرية و تفتقر لأدنى ملامح المدنية، لَحَرية بأن تُفكر في مستقبل، بل في جدوائية، و جودها أصلاً. إنّ شرّ البلية ما يُضحك.
إن ثورتنا ستكون على مقاسنا و تبعاً لتطلعاتنا و في طليعتها "تأمُّرنا في أمرائنا" بعد "لحظة المُفاصلة مع الحكم العسكري" كما عنون لذلك الأستاذ محمد المختار الشنقيطي في مقاله الشيق الذي ظهر مؤخراً. إنّ أي اتجاه لثورة إصلاح في موريتانيا يجب أن يرتكز على فهم عميق لمبدإ المُفاصلة الحقيقية و النهائية مع الحكم العسكري بشتى أشكاله: أبتداءاً من الحكم العسكري المباشر و انتهاءًا بالحكم العسكري ذي اللبوس الديموقراطي الزّائف، مروراً بالتّحكم العسكري من وراء كواليس حُكم مدني ضعيف، و قد جربناها كلها بكل أسف و مرارة. فلا تعليم و لا صحة و لا فن و لا ثقافة و لا اقتصاد و لا عمران و لا رياضة في موريتانيا بعد ثلث قرن من التَّحكم العسكري في مصير الشعب الموريتاني المسكين.
إن إي نهضة إصلاحية في هذا البلد يجب أن تُعيد بناء الدولة، إن لم أقل بناءها ببساطة، على أسُس سليمة بعد نسف ذلك الثنائي المرير الذي يستحكم في موريتانيا منذ ردح من الزمن: حكم العسكر و بطانته من المنافقين السياسيين.
أعتقد أنه لا مفر من الوصول إلى هذه الفكرة و تلك النتيجة التي تتمحور حول إعادة بناء أغلب ركائز الدولة و ترميم المتبقي منها؛ أعني بذلك إنشاء دستور جمهورية مفصّلة على الشعب الموريتاني، تُلائمه ديناً و ثقافة و تاريخًا و تركيبة، بعيدًا عن استنساخ دساتير جمهوريات فرنسا البالية، بناء مؤسسات تعليمية حقيقية (تضمن لموريتانيا تكوين صُنّاع قرار المستقبل و تربيتهم على أساليب الحَكامة الرشيدة)، إعادة بناء جيش يفهم كلُّ أفراده ما لهم وما عليهم، بدقة و بدون تجاوز، إنشاء عاصمة و مدن عصرية، تربية المجتمع و الناشئة على العلم و العمل بمبدإ الحقوق و الواجبات، الذي أصبح في خبر كان منذ عقود؛ ليعلم كلٌّ ما له و ما عليه، فيلتزم بذلك. تلك أساسيات لم تقم (و لن تقوم) دولة بدونها. هذا بالإضافة إلا أمور أخرى لا يتّسع المقام و لا الاختصاص لسبر أغوارها، و لكن تلك أهمها و لعلها ألحّها. فعلى صُنَّاع القرار في موريتانيا اصطحاب تلك المبادء، علّها تخفف من تكاليف ثورة شنقيط المحتومة.
"فرصتكم أيها الشباب الموريتاني، تستطيعون أن تقدّموا لموريتانيا ما لم يُقدّم لها الحكم العسكري و مُنافقوه، لأنّنا من تجربتهم هرمنا ...هرمنا من أجل هذه العقود الغير تاريخية"
د. نورالدين ولد محمدو
باحث و مدرس جامعي







