تاريخ الإضافة : 19.12.2010 15:39

ولد أحمدو للأخبار: تصنيفات النقاد أحيانا جائرة

الشاعر الكبير محمد الحافظ ولد أحمدو

الشاعر الكبير محمد الحافظ ولد أحمدو

"ما ترك الحق لنا من صاحب" هكذا يقول ولد أحمدو عن نفسه في هذا الجزء.. غير أنه يرى أن المتنبي له معارف في الانترنت. ولذكر المتنبي فـ"أبو تمام أعقل من المتنبي" هكذا يحرص ولد أحمدو أن يقول في هذه الحلقة المثيرة التي يتحدث فيها عن "الزريكات"، "الجاسوس الظريف" على حد وصفه ، ويكيل كيلا لشعراء موريتانيا المعاصرين. كما يتحدث فيها عن "علاقته بالتصوف" كل ذلك وأكثر في هذا الجزء الثاني من المقابلة، كما يعلن ولد أحمدو أنه عاق لشيخين من مشايخه: ابن تيمية ، وطه حسين. لما ذا هو عاق لهما؟

تابع المقابلة!

(الحلقة الثانية)


تصنيفات جائرة

الأخبار: الكلاسيكية ، الرومانسية ، الواقعية مثل هذه التقسيمات كيف ترونها؟

محمد الحافظ: أنا شخصيا لا أومن بها، أذكر أن مرة هنا مجموعة ألفت كتيبا عن الشعر الموريتاني فأخذت قصيدتين لي إحداهما بعنوان "عودة الهديل" والأخرى بعنوان "في حانة ابن الفارض الصوفية" وصنفوني على أني كلاسيكي مع أن هاتان القصيدتان تتداخل فيهما المدرسة الرمزية مع المدرسة الرومانسية وغير ذلك.
إن هذا التقسيم جائر مع أن الذين يعكفون عليه لا يعرفون كيف يتصرفون معه. إني كما أذكر دائما جنى علي كوني لم أر لوبيا من هؤلاء اللوبيات أتخندق معه، وتنطبق علي تماما قولة عمر بن الخطاب "ما ترك الحق لنا من صاحب" لكني أعلم أن الزمن كفيل بإنصافي مع أني لا أطلب منه أيضا الإنصاف. والغريب في الأمر أن هؤلاء أغلبهم عملوا دعاية ضدي حتى أصبح كل إنسان يقول فلان شعره قاموسي، كتب أحدهم مرة مقالة عني بعنوان "هذه اللغة القاموسية لا مبرر لها" فكتبت في الرد عليه "اللغة قاموسية كلها إلا المبرر" لأن كلمة المبرر ليست عربية. فإذن لا يكلف أحدهم نفسه الرجوع إلى شعري لكن هذا الشعر موجود وأنا لا أعمل له الدعاية، أتدري أني لما أصدرت ديوانا صغيرا بعنوان "عودة الهديل" لم أشأ أن أذهب إلى التلفزة وأعمل له دعاية، حتى الإذاعة التي أعمل فيها لم أوافقهم على أن يعملوا عنه حلقة، لا في الإذاعة ولا في غيرها. لأني أعلم أن الشعر الحقيقي كفيل بالحديث عن نفسه. غير أني من جانب آخر أقول إن هذه التقسيمات مفيدة فقط لأساتذة الأدب لكي يحاولوا أن يجسدوا ما لا يجسد ، فقد تكون هذه مفيدة لأساتذة الأدب غيري أنا.

الأخبار: في الباكلوريا الموريتانية يدرسون شعر ولد عبد القادر وولد حامدن كنماذج على مدارس أدبية وأنتم لم نركم في تلك المقررات؟

محمد الحافظ: أنا لا أريد أن أتعرض إلى هذا الرجل أو ذاك، ولا أريد أن أقول فلان كذا أو كذا، إلا أني أقول لك عن المختار ولد حامدن إنه رجل في أيامه كان يأخذ الشعر من جيبه، ظريفا مؤرخا عالما، وعلى كل حال هو مدرسة شعرية في موريتانيا، امتداد لمدرسة إكيدي التي لها خفة الروح. مرة كنت أدرس مع صديق لي سريعية الاعشى:


و أسندت ميتا إلى نحرها ** عاش ولم ينقل إلى قابر
حتى يقول الناس مما رأوا ** يا عجبا للميت الناشر

قلت له: والله لقد أصاب أهل إكيدي في اختيارهم لبحر السريع، إن الشعوب المتحضرة دائما تحب الألوان غير الصارخة. والشعوب البدائية هي التي تحب الألوان الصارخة الكثيرة التوهج بينما الشعوب الناضجة تراها تحب الألوان الخافتة. إن بحر السريع موسيقاه خافتة لكنها مع التعود تكون حسنة، مثلا أنا تحدثت وأحب أن أنوه هنا بشيء على ذكر السريع أن محمد ولد أحمد يوره جاء لمحمد بن ابن المقداد ومدحه بأبيات من البحر السريع فقال له هل عرفت البحر، قال ولد بن المقداد عرفته سريعا.

وأذكر لك هنا أني أنا طرحت افتراضا بأن ما يسمى "ازريكات" لذكر ولد أحمد يوره قد يكون وراءه نوع من التشجيع من هذا الرجل الذي كان ولد أحمد يوره يفد إليه والكبيد ولد الغيد لا أدري هل وفد إليه لكن احتمال عندي أن يكون وفد إليه، فأنا أقول إن هؤلاء قد يكونوا مثلا وجدوا في ولد بن المقداد من تشجيع "ازريكات" ما حملهم على الإكثار منها. وقد تناولت هذا الموضوع في حلقة بالإذاعة غير أني أريد أن أبينه هنا لأن بعض الزملاء عقب محاولا أن يفند هذا، مدعيا أنه يتعصب لهؤلاء وأنا هؤلاء والله إني لأكبرهم وأعزهم وأعلم أنهم لا تأخذهم في الله لومة لائم ، لكن قد يكون بعض الناس استغل طيبهم لإجراء هذا الشيء خاصة أن استعمال اللهجة في الشعر قد يكون مستملحا عند بعض الناس، لكني أظن أن وراء الأكمة ما وراءها، لأنه في كل بلد عربي في لبنان في مصر في غيرها محاولة تشجيع اللهجة العامية، ونحن قد ظهر فينا ذلك.


الجاسوس الظريف

يضيف ولد أحمدو "إن ولد ابن المقداد كان يعمل لصالح الاستعمار لكنه "أظرف الجواسيس" لأنه كان طيبا يكرم الأدباء، وكان يكرم العلماء سخيا جوادا. إني أردت أن أبين هذا لأني أعلم بالسموم التي تبث لمحاربة اللغة العربية. و"الزريكات" غير مقبولة عندي لأني أرى "لغن" "أغن" والشعر شعر. لا بد من الفصل بينهما. فاللهجة الحسانية أرى أنها وليد مسخ للغة العربية. هذا لا بد أن أقوله. لكن هذا الوليد المسخ على كل حال له طرافته. لكن لا نقبل ان تحارب به اللغة الفصيحة، فكثيرا ما تجد بعض الموريتانيين اليوم يقول لك "اللغة العربية مغسولة" نعم مغسولة بالماء والثلج والبرد!!. يقول لك أحدهم اللغة العربية لا تستطيع أن تعبر عن هذا. هو هو الذي لا يستطيع أن يعبر لأنه لا يعرف العربية. هنا أعود إلى ما قاله الدكتور عبد الله الطيب عندما تحدث عن الشعر الحر والشعر العمودي قال "إن المخرج في الإحاطة باللغة العربية". وأنا مرة كنا نتحدث، قلت لهم: من سعادة الشعراء القدامى أنه لم يكن يدعي الشعر إلا من يتهجى، أما اليوم فيستطيع كل من هب ودب أن يدعي الشعر. وهذه كارثة، كثيرون لا يعرفون العربية ولا النحو يقدمون أنفسهم كشعراء وشعراء حداثيين. وهو ما يلوث الساحة الشعرية اليوم داخلا في سياق الهجمة على العربية".

الأخبار: تقولون إن الشعر العمودي قادم ليعلن فشل الأشكال الشعرية الحديثة؟

محمد الحافظ: أتذكر مرة أن الطائرة كانت على وشك الإقلاع وكان يتعلق بي أديب عراقي، قال إنك مبدع في الشعر العمودي العربي ولا بد أن تملي علي بعض شعرك حتى أقنع طلابي أن الشعر العمودي ما يزال بعافية. فعند ذلك جاءني الموريتانيون وقالوا أنت ستتخلف عن الطائرة إذا لم تسرع الآن، فقلت له: أنا عجلت ولكني أطمئنك بشيء إن الشعر الحر وكل المكائد التي صنعت.. إلى التشكيك في الشعر الجاهلي، إلى محاولة الكتابة بالعامية.. كل ذلك هو محاولة لضرب القرآن، ليس محاولة لضرب اللغة العربية فقط، وإنما للقرآن لأن اللغة العربية هي مادته، ولكني أبشرك بأن الله يقول [إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون] فما أنسى وهو يهز رأسه ويقول "وقد فعل، وقد فعل" إن هذا الرجل هو رجل حليق وأنيق وله بدلة جميلة إذا رأيته حسبته أوروبي لمظهره، فأنا استغربت من تفاعله هذا مع الآية التي ذكرت له، وعلمت أن الإنسان لا يمكن أن يحكم على دين أحد بمظهر أو شيء من هذا القبيل.


ولد أحمدو.. والتصوف

الأخبار: حين تنظرون الآن إلى سالف تجربتكم هل ترون أن فترة إقامتكم طالبا بالسعودية أثرت على فكركم الثقافي والإسلامي؟

محمد الحافظ: مهما يكن من شيء أنا متأثر بالتصوف، قرأت كتب بن تيمية وكتب بن القيم، عندي الآن كتب لابن القيم منها "الوابل الصيب" كما عندي "الكلم الطيب" أيضا لابن تيمية، وعندي كتاب "مدارج السالكين" لابن القيم أيضا، لقد قرأت عنهم العديد عندي "حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح" أنا طبعا أشعري مائة في المائة وصوفي، لكني لست متعصبا، أعلم أن السعوديين كانوا يحاولون أن يقنعوننا أن أبا الحسن الأشعري رجع عن الأشعرية، لكن هذا غير صحيح، هناك كلام جاء به الذهبي في ترجمته للأشعري، وقد كان يكفر المعتزلة، فنقل عنه الذهبي إنه قال في آخر أيامه: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أكفر موحدا" فلعلهم فهموا من هذا رجوعه عن الأشعرية، مع أن ابن تيمية نفسه في ترجمة الذهبي له أورد له كلاما نفس هذا أيضا "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أكفر أحدا يتوضأ" لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول "لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن".

الأخبار: فيما يتعلق بالشعر، كيف كانت الفترة؟

محمد الحافظ: بطبيعة الحال، في ذلك الوقت عندما كنت في السعودية أخذت نقاهة عن الأدب والشعر. أردت أن أقرأ الكتب الدينية لأنها موجودة هنالك فهناك تشجيع على تحقيق الكتب، مع أن الدواوين القديمة توجد هناك، اقتنيت حينها ديوان عمر بن أبي ربيعة. وكنت حينها في صراع مع السعوديين، فهؤلاء الناس يحاولون أن يملوا علينا مذهبهم، وأنا أحاول أن أتحصن بما أعرفه من التصوف والأشعرية. لم أتأثر أبدا بالفكر الوهابي. حقيقة لا أنكر أني استفدت من هذه المدرسة مسائل حيث لاحظت أنه عندنا في موريتانيا شبه تشيع في الحقيقة لما تلحظه في غمطنا رجالات بني أمية مقارنة ببقية الصحابة، وهذا من تأثير الوسط، لكن على كل حال وجدت حسنة عند هؤلاء القوم هي أنهم الصحابة مثل سيدنا معاوية رضي الله عنه وسيدنا أبو سفيان يحترمونهم ويعظمونهم، قد يفرطون لدرجة أنهم يقولون إن يزيد شهيد، أنا يزيد بن معاوية لا أدافع عنه، والذهبي قال عنه: "إنه لا يحبه" وقد كان عربيدا يشرب الخمر. لكنه ليس كافرا هو في المشيئة فالذي غفر للذي قتل تسعا وتسعين نفسا ممكن أن يغفر له.

الأخبار: أيضا بعد تجربة زاخرة الحمد لله في كتابة الشعر والقراءة في الأدب ما هي الصورة التي لديكم الآن عن تاريخ الشعر العربي؟

محمد الحافظ: الشعر الجاهلي هو الشعر الحقيقي هذا ليس مبالغة، إن كل أمة تريد أن تبدع لا بد أن ترجع إلى أصولها، فالحضارة الغربية لم تنشأ إلا بعد التأثر بالحضارة الرومانية واليونانية، وإن كانوا أخذوا أوائلها عن العرب المسلمين. لكن فيما بعد ذلك رجعوا إلى أصولهم. لا يوجد شاعر مبدع إلا بعد أن يرجع إلى الشعر الجاهلي القديم. أنا أرى أن الشعر الجاهلي كان شعرا مصورا لبيئته كان يجمع بين الصدق الفني والصدق العاطفي، فيه الصور الشعرية التي يعظمونها اليوم، انظر إلى تأبط شرا حين كان يلاحقه خصومه، ووجدوه على رأس جبل، فأخذوا عليه الطريق الذي فيه مسالك حتى بقي بمكان من الجبل لا توجد فيه مسالك، فكان عنده زق من العسل فهراقه على الجبل ثم نزل إلى أسفل الجبل مستعينا بتلك المادة اللزجة، فلما وقع على الأرض ونجا منهم، قال قصيدة يقول فيها:

فأدرك سهل الأرض لم يكدح الصفا ** به كدحة والموت خزيان ينظر

انظر إلى هذه الصورة، يقولون إن الشعر العربي شعر مادي لكن اللغة العربية الفصيحة لغة تشخيص، فالموت هو أشد الأشياء معنوية ليس شيئا ماديا لكنه هو أظهره في مظهر الخزيان المستخذي المنظور. وأنا عندي نظرية قد يظن بها البعض غلوا هي أن الشعر الجاهلي هو أحسن الشعر، لا يعني ذالك أن كل بيت فيه أو قصيدة تكون بالضرورة أحسن من الشعر في كل الأحقاب من بعد الجاهلي حتى اليوم، فالمزية كما يقولون لا تقتضي التفضيل، حيث يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر، مع أن البحر أكثر فحولة من النهر. قد تجد بعض الصور والأشياء الجميلة في شعر المتنبي أو أبي تمام أو البردوني أو نزار أو في غير هؤلاء لكن يبقى الشعر الجاهلي الأحسن، بماذا أستدل على ذلك. رأيت أن الله لا يتحدى في معجزاته إلا أقوى خلقه، فعندما استفحلت البلاغة وبلغت ذروتها وتبحبحها في الأمة العربية، وأصبح الإنسان العربي فصيحا بشكل لا يستعصي عليه أي حديث، لدرجة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع كلام عمرو بن الأهيم قال له: "إن من البيان لسحرا" فجاء الله بالقرآن ليعجز الشعر الجاهلي ويتحداه كأعلى نموذج بلاغي. وهذا تزكية لهذا الشعر. لا يمنع ذلك أن يكون هناك شعر آخر له مزايا، لكن أنت تجد في الشعر الجاهلي من الصدق ما لا تجده في الشعر الآخر.

وأنا أريد أن أقول لك: إن الأمة العربية كانت تسعى إلى نهضتها في العصر الحديث بعد ارتطامها بالاستعمار والرجة التي رجتها بسبب ذاك الارتطام. فبدأت تحاول أن تتكون بادئة مشاريعها على شكل مشروع إصلاحي، هو الذي تريد أن تخرج به من إصلاح شامل واستفادات من التراث الإسلامي، قاد هذا المشروع من الناحية الأدبية أحمد شوقي وجميل صدقي الزهاوي و..

كان هذا المشروع هو مشروع النهضة الأدبية، لكن جاء الشعر الحر معترضا لهذا المشروع في الطريق، وأول من كتب هذا الشعر مسيحيان أحدهما من مصر يسمى الويس عوض كان جاسوسا لابريطانيا، أما الآخر فهو من لبنان فهو إذن شعر مشبوه. هذه تعليمات بلاشير وأضرابه من أساتذة طه حسين الذين كونوه. وسرق أفكارهم. طه حسين صحيح أن لديه أسلوبا جميلا وجذابا، لكن أغلب ما يأتي به مسروق من هؤلاء النقاد الفرنسيين. وأنا أقول لهم إني عاق لشيخين من مشايخي؛ شيخ لي في الأدب هو طه حسين، وشيخ لي في الفكر الإسلامي هو ابن تيمية، لشدة تطرف كل واحد منهما في الدعاية لمذهبه. ابن تيمية قال عنه أحد العلماء إنه لا يحدثك في الغسل من الجنابة أو فرائض الوضوء إلا جاء بدعايته حول العقيدة والفكر. كذلك طه حسين مع أنه أديب عظيم ومتذوق للأدب لا تكاد تقرأ له في أي شيء إلا وشككك في الحضارة الإسلامية جميعا، محاولا الدعاية للغرب مثلا في أحد كتبه "دعاء الكروان" وهو كتاب رائع يتحدث عن أختين تعملان في خدمة المنازل يستأجر كل واحدة منهما رجل ثري، قال طه حسين "أما إحداهما لم تعمل شيئا إلا أنها حفظت القرآن، أما الأخرى فقد تعلمت الفرنسية" وهو يجعل تلك التي تعلمت الفرنسية خيرا من تلك التي حفظت القرآن. أيضا نزار قباني وقع في هذا مع أنه شاعر عظيم ففي قصيدة غزلية عن امرأة مسيحية يقول فيها:

صليبك هذا زينة أم تصوف.

الأخبار: لكن أنا أرى أن الإبداع دائما من وراء حفظ العقائد والتمسك بالقيم فأبو الطيب وأبو تمام لم يلحدا مع عظمتهما.

لكن المتنبي يقول:

وكل ما قد خلق الـ ** له وما لم يخلق
محتقر في ذمتي ** كشعرة في مفرق


محمد الحافظ: لا، لا هذا ليس مهما لا يقصد به الإلحاد. من حيث العقيدة أحسن أبو تمام من المتنبي. لأنه أعقل وأذكى فأبو تمام في الحقيقة أعظم من المتنبي في الجملة العامة حيث أوتي أبو تمام خيالا لم يوته المتنبي، كما أوتي إتقانا للغة العربية لم يوته أحد. لكن أبو الطيب له فرادة وله طموح، أنا أشبه أحدهما بالمطر الغزير وهو أبو تمام، وأشبه المتنبي بالإعصار. حقيقة أن الإعصار مخيف، لكن الإعصار قد يحدث ما لا يحدثه المطر، لأنه قد ينتقص قارات، كما أنه قد يزيد اليابسة. على كل حال حتى لا أفتح الباب على نقد كلامي، أرى أن الشعر الجاهلي هو النموذج الأول والأسوة الحسنة، لمن يحاول أن يحتذيه، وأنا إذ أقول هذا لا أريد من الشاعر المعاصر أن يأتينا بنسخة جاهلية، لأن هذا ليس ممكنا، لكن يستوحيها ،أنظر مثلا امرؤ القيس يقول:

وما ذرفت عيناك إلا لتقدحي ** بسهميك في أعشار قلب مقتل

أنا ما ذا أقول، أقول:

عيون عذرة أسطول يلاحقني ** فأين ما كنت من قلبي لها هدف

ومثلا في قصيدة بعنوان حج مناسك عذرة في عينيها أقول:

على مشارف مرقى الحلم أعتاب ** باب لفردوسها المسحور ميزاب
ويستفيق على بسماتها قمر ** مدت له من ظلال الخلد أطناب
تنشق عنها كنوز الذكريات رؤى ** تصفو بها للصبى كرم وأعناب
أكلما شعشعتك الشمس أغنية** أذابها من رحيق النغم زرياب
شدت رحالي إلى أرض الهوى وحدا ** قوافل الحج تحنان وتطراب
وزاد رحلتنا ما خف محمله ** من شعر عذرة والأصحاب أعراب

المهم أني لا أريد أن آتي بشخص امرئ القيس أو زهير كما يتقمص الممثلون شخصية في المسلسلات، لكن أتصور نفسي كالمتنبي أو امرئ القيس له حضارة الانترنت، وهذه المعارف الموجودة اليوم. كما أني لو كنت فقيها لحاولت أن أكون الشافعي أو مالك بن أنس له معارف العصر، أتعلم أن الشافعي الآن لو كان موجودا لجد عنده من الاجتهادات بحكم فهمه العصر. طبعا جوهر الدين لن ينتقض هو دين الله، كما أن جوهر اللغة العربية لن ينتقض إذ هي لغة مقدسة، لكن الأخيلة والصور مجال للابتكار.

أنا أقول إن الشاعر يجب أن يكون شاعرا عصريا يستلهم حضارته وهويته ويقدس أدبه، وأيضا لا بد أن يدرس الآداب الأخرى ويستفحل فيها. لكن من المعلوم أنه لم يكن هناك مبدع في العالم أخذ الجوائز العالمية واشتهر إلا بعد اشتهاره في لغته وإبداعه في إثنيته الحضارية الخاصة.

الأخبار: وبالنسبة للشعر العباسي والاندلسي ومثل تلك العصور؟

محمد الحافظ: أغلب الذين يحبون شعر المعاني والفكر يجعلون العصر العباسي هو العصر المثالي، مع أن هذا العصر للأسف الشديد من حيث الحضارة وقع فيه التفكك، كان عصر الدويلات، وقد كلفني مرة أستاذ جزائري يسمى محمد مرتاض هو أخو عبد الملك مرتاض الناقد كان يدرسنا بالثانوية، كلف الفصل جميعا وكان معنا جمال ولد الحسن بأن يعمل كل واحد منا بحثا، عن هل كان " تفكك الدول العباسية إلى دويلات نعمة أم نقمة" فخلصت إلى أنه كان نقمة من حيث السياسية نعمة من حيث الأدب والشعر، لأن أبا الطيب المتنبي كان في ذلك الزمن حيث كان ملوك الدويلات يتنافسون على الشعراء ويشجعونهم، تلك الحوافز طفرت بالأدب، غير أني أنا شخصيا أحب العصر الأموي وأحب الشعر العذلي، لما ذا؟ لأن الشعراء الأمويين ظلوا محافظين على اللغة العربية الفصيحة وسمعوا بلاغة القرآن. تلك البلاغة الخاصة، الشعر الجاهلي يفتقدها، ولذلك إذا قرأت شعر كثير بن عبد الرحمن تجد شعرا عظيما جدا. وقد ثبت ذلك من حيث التاريخ، فهناك كتاب اسمه تاريخ الأدب الفرنسي أثبت صاحبه أن أول شعر نهضوي في فرنسا هو مدرسة تسمى "التوبادور" وهذه متأثرة بالشعر العذري العربي، هذا بالحرف الواحد نقله الدكتور عمر فروخ عن الأدب الفرنسي، عندي كتابه الذي يسمى "هذا الشعر الحديث" قال فيه إن مدرسة من مدارس الشعر الفرنسي عظيمة جدا تأثرت بالأدب العذري، فاستنبطت أنا شيئا خاصا؛ هو أن كلمة "التوبادور" لعلها مستوحاة من "جبل التوباد" الذي اقترن بقيس المجنون الذي هو أشهر الشعراء العذريين وأكثرهم دراماتيكية يقول قيس هذا:

وأجهشت للتوباد حين لقيته ** وكبر للرحمن حين رآني

وأغرب ما في الأمر أن الشاعر أبا القاسم الشابي الذي كنت قد أصدرت عنه حلقة في الإذاعة قبل قليل لا نبهاره بالشعر العذري وهذه المدرسة الفرنسية يقدح في الشعر العربي القديم، وقد ألف كتابا سماه "الخيال الشعري عند العرب" يزعم أن العرب لا خيال لهم، جاهلا أن هذا الشعر هو الذي غذى الشعر الفرنسي وأثر فيه، وأصبح مهمازا قويا من مهاميز الإبداع فيه.

الأخبار: كيف تتابعون الحراك الشعري الأخير مثل مسابقة أمير الشعراء؟

محمد الحافظ ولد أحمدو: لم أر شيئا في الحقيقة. ما رأيته ليس على مستوى الشعر وأرى أن الشعر إذا أصبح يسوق عن طريق بطاقات التزويد يضيع. لقد استمعت إلى أقواما في هذ المسابقة ينشدون بعض الشعر لكن ليس فيه إبداع، جميع من تابعتهم عاديون والموريتانيون الذين شاركوا عاديون جميعا ما رأيت شيئا لافتا للانتباه. ولد الطالب يبذل جهدا وله خيال لكن أنا أرى أنهم جميعا رفعوا فوق أقدارهم. وبالنسبة لسارق النار أنا هو أول من أتى بها في شعره وهو في الحقيقة يبذل جهدا وأنا يمكن أن أصنفه على أنه من تلاميذي لأنه كان يعرض علي شعره وطبعا تعجبني أخلاقه ولكن أنا أقول لك كل هذا الشعر أنا لم أر فيه شيئا إبداعيا. فقط زميلي الذي لا أشك في شاعريته أبو شجه أفضلهم عندي ولا ينقصه في الإبداع إلا شيء واحد هو أنه ليس وفيا بالعهد  فأنا أحسن الذكر عنه أما هو فإذا استضيف في أي حوار أو مقابلة يحاول أن يقول موريتانيا ليس فيها شاعر. أنا الذي أنوه به. لكن "ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا" وأعلم أنه قد غمط حقه هذا للأمانة التاريخية. وأنا لا أحب أن أخوض في هذا دائما أقول لهم إني لا أحب أن أتحدث إلا عن الشعراء الأموات. "والحي قد يغلب ألف ميت" وبالنسبة لولد بمب لم أر فيه شيئا مهما ما رأيت فيه إلا شيئا واحد هو أنهم يحاولون أن يقتلوننا نحن حتى يظهروا أنا مرة دعيت لمهرجان ولد بمب وقد همشوني فيه طلبوا مني أن ألقي شعرا فلما بدأت في إلقائه قالوا إن الناس تريد أن تصلي المغرب. كنا قد صلينا. أولئك شعراء عاديون لم أر شيئا لافتا للانتباه.
 
ـ كيف تنظرون لنمط علاقة المثقف بالسلطة؟
 
محمد الحافظ ولد أحمدو: أنا طبعا لا أصادم السلطة لأسباب أولها أني لست قويا على مصادمتها ويرميني البعض بالجبن ثم إني أيضا متأصل في ثقافتي مزاج السنة من أن الخروج على السلطان من حيث هو لا ينبغي. كما كان العلماء يرشدون الحكام والعامة لا باس عندي أن يكون الشاعر مصلحا له ذلك الدور. لكن ليس على حساب الشعر إنك تجد حافظ إبراهيم ومعروف الرصافي وبعض الشعراء تأثروا كثيرا ببعض المسائل فأصبح شعر الواحد منهم كأنه برامج أحزاب سياسية. إن الشعر يكون شعرا أولا قبل كل شيء ثم بعد ذلك يكون ما يكون. مثلا أنا أبغض الخمر كما تبغض الأرض الدم لكن لا يمكن أن أتجاهل هذه الأبيات لأبي تمام :
 
أفني على الخمر بآلائها ** أسمها أحسن أسمائها
لا تجعل الماء لها قاهرا **ولا تسلطها على مائها
والخمر قد يشربها معشر ** ليسوا إذا عدوا بأكفائها
 
الشعر شعر أولا قبل كل شيء ولا تشفع له إديولوجياه قبل ذلك. مع أن أبا تمام له شعر مثل هذا في الزهد.

الأخبار: كلمة أخيرة؟
 
أدعو إلى إنشاء مجمع لغوي في موريتانيا. المجاميع اللغوية في القاهرة ودمشق وغيرهما من العواصم، هؤلاء تتلمذوا على أدبائنا  مثل محمد محمود بن التلاميذ والشيخ محمد الامين الشنقيطي، فلم لا تكون شنقيط مجمع لغوي دولي تنشئه موريتانيا. وأنا متفائل بحكومتنا المباركة التي أنجزت كثيرا من المسائل التي من أهمها هذه البنية التحية، وأشياء مهمة جدا، أن تعتني باللغة العربية، وأن تعتني بمجاميع اللغة العربية ولها الأجر إن شاء الله. وأيضا أن تردنا إلى التعليم باللغة العربية. وإلى تعريب الإدارة. فنحن لدينا آخر كلمة من الله التي هي القرآن، ولا يوجد كتاب من عند الله إلى اليوم إلا قرآننا، فمن المذلة والهوان أن نظل عالة على الغرب. أنا لا أرفض دراسة اللغات الاجنبية، وأهم الانكليزية اليوم من الفرنسية مع أني لا أغمط اللغة الفرنسية حقها. فيها أدب كثير ولا أمنع من تعدد اللغات العالمية عندنا بإدخالها جميعا، خصوصا تلك التي لدينا بها علاقات تاريخية مثل الفارسية والتركية والأردية وغير ذلك، هذه لغات لها وشائج تاريخية معنا، واللغة الفارسية والعربية تأثرتا فيما بينهما فالأعشى استعمل الفارسية في شعره:
 
وما كنت شاحردا ولكن حسبتني ** إذا مسحلا سدا لي القول أنطق
 
والشاحرد المبتدئ في الشعر. ونحن عدما ندرس إليوت أوكورني أو بول إلوار لماذا لا ندرس الشاعر الباكستاني العظيم محمد إقبال. هذا شاعر مسلم مبدع  
 

اقرأ أيضا: ولد أحمدو: المتنبي هجا أنور السادات

كما تقرأون أيضا: ولد أحمدو ل"الأخبار: شعراء موريتانيا الشباب "بسيطون للغاية"

الرياضة

الثقافة والفن

وكالة أنباء الأخبار المستقلة © 2003-2025